رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
المستوى الرابع / الأرض وعلاقة الأمل:
كانت الأرض طليقة تنعم بالحرية ودفء الشمس، وفجأة كسرتها الريح وذبحت كل شيء فيها.. ويأتي الشعر ليقول على لسان الشاعر عمر محاميد في قصيدته "الأرض حلمي "أنه "كان في الأرض سنابل / كان حقل يمتد حتى ابتعاد الشفق / كان في الحقل طيور.. أشجار.. وشمس / كانت حول الشمس نجوم وأحلام / عروس.. ودوالي / عرفت الامتداد نحو الشمس والوطن المغني / حالت بين الحلم والأرض الخصيبة / قبضة الريح وأسباب الرحيل"..
ولكن أيعني ذلك توقف التطلع إلى المستقبل؟؟ أيعني ذلك انكسار كل خطوط الأمل والتفاؤل؟؟ أيعني ذلك أن تبقى الأرض في قبضة اليأس؟؟..
ما كان للحس الثوري أن يقبل بانغلاق الدروب.. وما كان للحظة التفجر والفداء أن تتوهج من خلال اليأس.. فالثورة علامة إشراق، والثورة تأكيد على الأمل.. وإلا ما معنى أن يقدم الشهيد دمه وروحه، إن لم يكن مليئاً بالأمل والتفاؤل؟؟ وهل نصدق أن تكون الشهادة خارج حد التطلع إلى المستقبل؟؟..
لا يشعل الشهيد عرس الشهادة إلا وفي ذهنه أن الأرض ذاهبة إلى حريتها، وأن دمه سيكون خيطاً من خيوط الشمس القادمة. وقد كانت القصيدة المقاومة منذ بدايةاتها قصيدة تفاؤل وأمل، وتابع شعراء الجيل الثاني السير على الدرب حين أصروا على الأمل والتفاؤل والإيمان بالمستقبل المشرق.. وكانت أجمل كلمة تفاؤل نابعة من تلك الضحكة التي أشعلها الشاعر حسين مهنا في قصيدته "افرح يا شعبي" حين قال:
افرحْ يا شعبي
واضحكْ من أعماق الأعماقْ
اضحكْ رغم سواد المأساة
انتزع الضحكة من فك الأفعى
وعيون السعلاة….
افرح يا شعبي
ما عاد مكان للحزن الآسن في عينيكْ
هذي الساحات الرحبة ساحاتك "بوزيد "
فاركب مهرتك الكنعانية
وارقص ما شئت على صدر الوطن الدافئ
ارقص.. أطرب.. غنِّ..
فجبال فلسطين العطشى
كرهت موسيقى الجاز المجنونة والغيتارْ
وتحن إلى دبكة " محمودٍ " شيخ الدبيكة والمزمارْ
هنا لا يتوقف نشيد الفرح عند حد. وتنطلق الضحكة لتملأ كل زمان ومكان، معلنة أن التفاؤل ميزان كل خطوة. وحين يصير الفرح رقصاً وطرباً وغناءً، تأخذ الجبال والسهول والبيوت بالتواصل مع ذاتها وصوتها ودفء أيامها. وطبيعي أن تكون الجذور أقرب من أي شيء، ما دامت تمثل الأصالة والحق، وما دامت تشكل الشخصية وامتدادها في سنوات التاريخ الطويل.. وهنا لا تبرز زغرودة أم علي لتقول المعنى الضيق المتعلق بهذه الزغرودة طالت أم قصرت، ولكنها تأتي لتشكل مفاصل الماضي بكل جمالياته وروعته ودفئه، وهذا ما يجعل الجبال مسكونة بالحنين لمثل هذه الزغرودة.
من الطبيعي أن يكون الضوء في النفس والروح، ما دام معبِّراً عن حقيقة الإنسان العربي الفلسطيني. ومهما ضاقت الدنيا وقست الظروف، تبقى فسحة الأمل أكبر من أي شيء آخر، مما يجعل العمر مسكوناً بالإصرار والتحدي والتصميم.. يقول الشاعر نزيه حسون في قصيدته "تواقيع على قيثارة الأرض" : "في زنارين اعتقالي / رغم سجاني وسجني / يزهر الزيتون في زندي المقيدْ / وعلى جدران قلبي / كل سجون بلادي / كل زهر في رباها يتجددْ / مهما يا سجان تقسو / سيذوب القلب عشقاً وستبقى الأرض معبدْ.."..
إن الانفتاح على لحظة الولادة دليل قوة، وإن الانفتاح على وعد التجدد دليل تماسك وإصرار. ولا يمكن للشاعر أن يغلق الأبواب في وجه الشمس، ما دام مؤمناً بقدرة شعبه على الثبات والمقاومة والتحدي. وهذا ما جعل شعر المقاومة شعر أمل لا يعرف الانطفاء والانكفاء مهما كانت الظروف. وقد كانت صيحة هذا الشعر بعد العام 1967، وبما حملت من انفتاحٍ عريضٍ على التفاؤل ودعوةٍ لإغلاق أبواب اليأس والتمزق، دليلاً بارزاً على ترسخ وتجذّر كل معاني التفاؤل والأمل..
وطبيعي أن يكون شعراء الجيل الثاني شعراء أمل، لأنهم شربوا من نبع المقاومة والشعر المقاوم في جيله الأول، ولأنهم عايشوا وعاشوا الفعل الثوري في كل جزئياته وتفاصيله كما عاشه الجيل الأول. وطبيعي أن تكون الصورة في غاية الوضوح مع كل قصيدة جديدة، يقول جبرا حنونة في قصيدته "سأبقى شامخاً": "راحتي تحترق الآن بوهج الشمس / والأخرى تعانقْ / سنبلات القمح / وغداً لا بد أن يزرع طفل / من عظامي غصن زيتون / ومن ثوبي بيارقْ " .. ويقول خالد عوض في قصيدته "انثريني": "انثريني قمحاً واحصديني سنابل / واطعمي شعبي المشرّد / فالأرض ما زالت حبلى / تثور تصرخ تتمرد"..
فهل كان كل هذا الانفتاح على الوعد إلا الدليل الأكبر على الإيمان بالمستقبل المشرق..؟؟.. وهل كان كل هذا الانفتاح على الأمل، إلا الدليل الأكبر على أن الصباحات المشرقة قادمة لا ريب. طبيعي أن تترسخ في الذهن والذاكرة والنفس صورة الغد بكل تفاصيله المضيئة، مهما طال الانتظار، ومهما مرت السنوات.
هل يعني ذلك أننا دخلنا في لغة الأرض حتى آخر الحروف؟؟.. وهل علينا أن نتوقف لنضع النقطة الأخيرة في مثل هذا البحث؟؟..
تقفز الإجابة لتقول إن الأرض كتاب تاريخ ولغة جذور.. وحين نريد أن نسجل شيئاً من بصمات الحب حولها أو لها، فإنما نضع القليل من الكثير، إن ما كتب عنها لا يحصى، وما قيل فيها لا يحصر.. وما أصعب أن يضع الإنسان نقطة أخيرة في مثل هذا البحث، مع شعوره بأن القلب ينبض حباً، وأن الروح تشتعل اشتياقاً، وتبقى الأرض أروع الكلمات، وأجمل القصائد، وأحلى الأغنيات..
[/align]
|