رد: زمن البوح الجميل / رسائل بين الأديبة ليلى مقدسي والشاعر طلعت سقيرق
حكايتي مع الشعر حكايتي مع القصة ـ أ ـ في حوارات كثيرة ، وربما في كلّ حوار معي ، كان يطرح السؤال على هذا الشكل أو ذاك ، للاستفسار دائماً عن سبب توجهي للتنويع في الكتابة الأدبية ، وصولاً إلى القدرة على التماهي مع كلّ الأنواع .. والسؤال الأكثر تحديداً كانَ يقول : أين تجد نفسك أكثر ، في الشعر ، أم في القصة القصيرة ، أم في الرواية ، أم المسرحية ، أم الأغنية الشعبية ، أم النقد الأدبي ؟؟ ..
والإجابة بكلّ بساطة تقول : إنني أجد نفسي في كلّ ما أكتب ، وطبيعي أنّ وصولي إلى ما وصلتُ إليه ، لا يمكن أن يكون بعيداً عن واحد من هذه الأنواع . إذ أنّ أي تجزيء أو فصل، يعني انتزاع جزءٍ من شخصيتي الأدبية الإبداعية ، وهذا مرفوض تماماً . لأنّ حالة الاكتمال عندي تتطلّب وجود كلّ الحروف التي شكّلت مسيرتي الأدبية . ولا أستطيع التنازل عن أي حرف . وإذا أردتُ الحديث عن جزء من التجربة، لا التجربة كلّها ، فربما الأقربُ إلى البال والنفس والذات ، أن أتحدث عن الشعر والقصة . حيث أجد ميلاً إلى النظر أو القول بأنّ هناك تكاملاً بين الاثنين ، فالشعر عندي يؤدي إلى القصة ، والقصة عندي تؤدي إلى الشعر .. وإذا لم أفرغ شحنتي الإبداعية في الشعر ، أستطيع دون تردد أن أجد مبتغاي في القصة ..
لا أذكر تماماً متى بدأت خطواتي الشعرية الأولى في التكوّن . لكن على الأرجح أنني كنتُ في نهاية المرحلة الإعدادية عندما كتبتُ الشعر . ربما جاء ذلك من أجل حبيبة ما ، ثم تطور الأمر ليكون الشعر غاية . طبيعي أن البداية في الإبداع لا تخرج عن خطّ الشعر . فأكثر الإبداع يبدأ شعراً ولا ينفصل في هذا الجزء أو ذاك منه عن الحب والعشق وما إلى ذلك . لا يعني هذا شعراً كامل النضوج ، ولا يعني انحيازاً نهائياً للشعر دون سواه . إذ كثيراً ما يكون الشعر بدايةً لتشكيل ملامح المبدع في حالتها الأولى . وبعد ذلك ، يكون النضوج أو الاكتمال ، من خلال انحياز كلّي لهذا النوع أو ذاك .. لكن دون ضرورة التفرّغ لنوع واحد ، كلازمة لا مكان لسواها في الإبداع .. والخطأ الأكبر ، يكمن في القول : إنّ التوزع ، يعني أن يقف المبدع في الوسط من كلّ شيء ، دون القدرة على التفوق في هذا النوع أو ذاك .!!..
ـ ج ـ
لا أريد الخروج أو الابتعاد عن حدود التجربة الذاتية .. وحسب ظني فإنّ التوزع لا يعني الانتقاص من هذا النوع أو ذاك ، كما أنّ الوقوف عند نوع واحد لا يعني بالضرورة ، أن يكون الانتاج متفوقاً جيداً .. فحركة الإبداع قابلة أكثر من أي شيء آخر ، لكسر أي قاعدة.. وأجمل قاعدة في الإبداع على الإطلاق ، هي الالتزام بالخروج عن أي قاعدة .. وكلّما كان عطاء الإنسان كبيراً مؤثراً ، كلّما كانت بصمته أكثر ظهوراً ووضوحاً وقدرة على البقاء والصمود ..
قلت إن الشعر كان أسبق بالنسبة لي . لكن أستطيع القول إن القصة كانت حاضرة في حياتي ووجداني إلى جانب الشعر دون محاولة كتابتها في ذلك الوقت المبكّر . كنتُ أحبّ أن أحكي الأشياء بصيغة قصصية ، وأجد متعة لا تماثلها متعة حين أستطيع جذب انتباه المحيطين . إذن كانت القصة واحدة من أدواتي الإبداعية الأولى في زمن يقترب من عالم الطفولة ، لكن دون الخوض في تجربة الكتابة .. بينما كان الشعر أقرب إلى السطور والخروج إلى النور . إذ كان من الطبيعي أن أوجه القصيدة إلى طرف آخر مقصود ، وهذا يعني كتابة القصيدة .. أذكر أنّ أول ديوان شعري لي صدر في العام 1974 بعنوان (( لحن على أوتار الهوى )) وكانت أول قصة مطبوعة قد ظهرت على صفحات (( الثقافة الأسبوعية)) أيام الدراسة في الجامعة .. وربما كان موضوعها على ما أذكر ، عن هذا الطالب الذي يجلس في بوفيه الجامعة مدهوشاً مأخوذاً ـ أقول ربما لأنه يصعب الجزم تماماً ، بعد سنوات قد تكون طويلة إلى حد ما ..
ربّما كانت البيئة الشعبية ، بكلّ ما تحمل ، هي الخزان الأول الذي آخذ منه الكثير من صوري وشخصياتي وأحداث أعمالي .. فقد عشتُ طويلاً في حيّ الشيخ محي الدين ، وهو من أشدّ الأحياء الشعبية امتلاءً وغلياناً .. ولا أستطيع إلاّ أن أذكر ملامحي المزروعة في هذا الحي .. وكان قرائي على الأغلب ، من الأصدقاء في هذا الحي .. ثم كانت الدراسة الجامعية ، فالعمل في صحيفة (( تشرين )) ثم تسلّم المسؤولية الثقافية في مجلة (( صوت فلسطين )) لتتعدد المشارب وتتلون . وأظنّ أنني بعيد كلّ البعد حتى الآن ، عن أيّ تصنيف أو تنميط أدبي يضعني في هذه المدرسة أو تلك ، وفي هذا المذهب أو ذاك .
كتبتُ للوطن ، وكتبتُ للحبيبة ، وكتبتُ للإنسان ـ وما أزال . دون أن أضع يافطة تعلن أنني أنتهي هنا أو هناك . فأنا بالدرجة الأولى شاعر وقاص ومبدع .. وأي تصنيف أو توصيف نهائي ، يعني إصراراً على إدخالي في قمقم أرفض أن أكون فيه في يوم من الأيام ، ولن أكون . إذ أشعر، وهذا من حقي ، أنني أكبر من كلّ المدارس والمذاهب الأدبية ـ والتسميات تبقى تسميات تخصّ الآخرين ، ولا علاقة لي بها..
بعد تسعة عشر كتاباً مطبوعاً في الشعر والقصة والقصة القصيرة جداً ، والرواية ، والدراسة ، والنقد .. أستطيع الاعتراف أنني إنسان مجرّب في الفن والإبداع والكتابة .. الشخصية القصصية عندي تأتي لتقول كلّ ما تريد وتذهب دون أن تأخذ إذناً مني في كثير من الأحيان.. كذلك الشعر ، فالقصيدة قد تكون عمودية ، أو قصيدة تفعيلة ، أو قصيدة نثر .. طويلة أو قصيرة .. وقد تكون ذاهبة حتى العمق في التجريب كما في ديواني المفتوح زمنياً ((ومضات)) الذي أتى على شكل بطاقات .. ومن يقرأ القصة القصيرة جداً ، قد يطّلع على حجم التجريب عندي .. وكما قلت سابقاً لا أحبّ الركون إلى شكل نهائي يضعني في توصيف نهائي .. أحبّ أن أكون حراً ، كامل الحرية على الورق .. وبعد إنجاز العمل، يصبح ملكاً للآخرين ، وهم الأحقّ بنقده أو وضع قيمة له .. وحتى هذا الأمر لا يعني الكثير لي بالنسبة لما أنجز من عمل ، لأن المنجز منجز في كلّ الأحوال .. بينما يمكن أن أستفيد في أعمال أخرى قادمة ..
ما كتب عني حتى الآن يقول إنني مغامر ، مجرب ، خارج عن أي نمط .. أقول : ربما .. ولا أدري إن كانت بعض القصص أو القصائد تحمل شيئاً من ملامحي أو صورتي أو تطلعي .. لأنّ كلّ شيء في النهاية جائز .. ولا أظن أنّ هناك أدباً ينفصل عن حياة الإنسان بشكل نهائي .. لأن الأديب لابدّ أن يحمل في النهاية صورته ، أو حلمه ، أو شيئاً من خياله .. وفي هذا أو ذاك، يبقى الأديب تجربة ، في قصة كان أو قصيدة.. ويبقى الأدب هذه الواحة الأجمل في العالم، مهما ضاقت المساحات .. لأن الأديب يستطيع من خلال أدبه أن يضع في ورقة بيضاء العالم الذي يريد.. وتلك نعمة لا تتوفر لكلّ إنسان ..
|