رد: اتحاد المغرب العربي بين الإحياء والتأجيل ـــ توفيق المديني - دراسة تاريخية سياسية
[align=justify]لكن شهر العسل هذا لم يطل إلا قليلا باندلاع حرب الرمال بين البلدين، وذلك بعد عودة الملك الحسن الثاني إلى المغرب، وعلى إثر مناوشات بين الجيشين الجزائري والمغربي. وجرت وقائع الحرب فوق الأراضي المغربية المغتصبة التي كانت ضمنها منطقة تندوف التي تؤوي اليوم الجزائر فوقها جماعة البوليساريو المتمرد ة على وطنه، وتدعمه وتسلّحه وتموّله.
وعرفت العلاقات جو الصفاء والتقارب بعد الانقلاب الذي أجراه العقيد هواري بومدين وزير الدفاع في حكومة الرئيس الجزائري بن بلّه وأطاح فيه بحكمه. وتأسست نواة اتحاد المغرب العربي على قاعدة اقتصادية، وحرص العقيد بومدين على أن يكون التعاون المغربي حلقة أساسية في المؤسسة الاقتصادية. لكن الجزائر أصبحت بعد سنوات من التجربة تعلن أنها تفضل اتحاد الشعوب على اتحاد النظم. وبذلك تعثرت مسيرة العمل المغاربي.
وفي هذه الأثناء انعقدت في السابع من آيار/مايو1970 قمة تلمسان بين المغرب والجزائر، وحضرتها بوصفي وزير خارجية المغرب ضمن الوفد الذي رافق الملك الحسن الثاني. وفي هذه القمة صُفيت قضية الأراضي المغربية التي اغتصبتها فرنسا وضمتها إلى التراب الجزائري، وذلك بقبول المغرب التنازل عن هذه الأراضي لفائدة الشقيقة الجزائر. وسجل الاتفاق وصول الطرفين إلى وفاق لإقامة شراكة ثنائية في منجم غارة جبيلات الواقع في التراب المغربي المتنازَل عنه للجزائر، على أن يؤمّن المغرب للجزائر المرور عبر سكة حديدية لنقل إنتاج المنجم من ميناء مغربي على المحيط الأطلسي لتصديره وتسويقه. ولم تنفذ الجزائر للمغرب التزاماتها، ولم يلحّ المغرب على الجزائر للوفاء بوعدها، مفضلا ً ألا يثير مع الجزائر ما من شأنه أن يعكر الجو السياسي بين الجارتين.
وأثناء انعقاد القمة العربية في المغرب أعلن الرئيس هواري بومدين أمام القادة العرب أن الجزائر تساند المغرب في مطلبه استرجاع الصحراء المغربية، وأنها لا طمع لها فيها، وأنها تؤيد بشأنها ما يتفق عليه الطرفان المعنيان: المغرب وموريتانيا، وأنها على استعداد لتقديم سند عسكري للمغرب من أجل تحرير الصحراء ومدينتي سبتة ومليلية من الاستعمار الإسباني. بيد أن العلاقات دخلت في أزمة كبرى امتدت إلى اليوم بعد تحرير المغرب أقاليمه الصحراوية بالمسيرة الخضراء وإبرام المعاهدة الثلاثية مع إسبانيا في مدريد، إذ ظهرت الجزائر كاشفة عن وجهها لتعلن أن المغرب لا حق لـه في الصحراء التي ينازع في مغربيتها جماعة "البوليساريو" المتمردة. كما طالبت ـ ولا تزال ـ بتخويل الشعب الصحراوي (أي شعب ؟) حق تقرير المصير. وتبنت الدفاع عن مطلب البوليساريو لدى هيئة الأمم المتحدة، وأصبحت الناطق باسمه في المحافل الدولية. وهو ما حوّل أزمة العلاقات إلى قطيعة مستمرة، وشلّ مسيرة الاتحاد المغاربي، وأصبح انعقاد مؤسساته مستحيلا في جو مواجهة الجزائر لحق المغرب في استرجاع صحرائه، وهو المطلب الوطني الذي ينعقد عليه الإجماع المغربي. وبالرغم من زيارة الملك محمد السادس للجزائر مرتين، وعرضه على الرئيس بوتفليقة تحييد دعم البوليساريو، ووضع هذا الملف على الرف ولو مؤقتا، وبالرغم من فتح المغرب الحدود، وإلغاء التأشيرة بالنسبة للمواطنين الجزائريين، فإن الجزائر لم تجب على التحيات المغربية إلا بقبلات مسرحية كان يتقن الرئيس بوتفليقة إطالتها على وجه شقيقه المغربي. ولا يزيد الأمر على ذلك(4).
ومنذ رحيل الاستعمار الفرنسي عن أرض الجزائر، لم يشهد تاريخ العلاقات بين الدول المغاربية سوى تراكم العقبات التي تعترض سبيل بناء وحدة المغرب العربي، إلى درجة أنه يمكن القول أن سد هذه العقبات أصبح يحجب أطول الأعناق عن التمتع بالنظر إلى حلم الوحدة المغاربية، أهمها قضية الصحراء وهي محل خلاف بين المغرب والجزائر.
ولكي تنجلي الصورة أكثر لا بد من العودة للوراء قليلا حتى نعرف طبيعة المشكلات بين دول الاتحاد التي خرجت من الصراع مع المستعمر لتدخل في صراع مع بعضها مبكرا ً، فبعد سنة واحدة من استقلاله شكّل المغرب جيشا ًَ لتحرير موريتانيا كان من أشهر معاركه معركة "تكل"، وفي سنة 1960 حصلت موريتانيا على استقلالها، وهو ما رفضه المغرب ودشن أول صفحة خلافات بينه وبين تونس التي اعترفت بموريتانيا، ثم بعد سنة واحدة من استقلالها 1962 اندلعت الحرب سنة 1963 بين المغرب والجزائر على الحدود. ورغم أن الحرب استمرت لفترة قصيرة توجت باتفاقية إلا أن البرلمان المغربي لم يصادق على تلك الاتفاقية حتى الآن. وقد دشُن في هذه الفترة المبكرة صراع على الزعامة في المنطقة بين المغرب والجزائر أصبحت فيه دول الاتحاد الأخرى تتبادل الدوران في فلك كل منهما لفترة حسب المصالح والظروف، فقد ساءت العلاقات بين بورقيبة وبومدين ثم دخل القذافي على الخط سنة 1969 بعد دعمه للمحاولة الانقلابية التي جرت ضد الحسن الثاني سنة 1971 لتظل العلاقات بين الدولتين سيئة ثم جاء النزاع على الحدود بين ليبيا والجزائر. واستمرت المنغصات إلى أن جاء ما يسميه الجميع بكارثة الصحراء الغربية سنة 1975 لينقسم المغرب العربي إلى محورين: محور المغرب ـ موريتانيا ومحور الجزائر ـ ليبيا اللتين تدعمان استقلال الصحراء الغربية، ورغم أن موريتانيا خرجت من الصراع المباشر سنة 1979 بتخليها عن حقوقها في الصحراء مقابل السلام فإنها لم تفلح بالنأي بنفسها عن ذلك النزاع. كما لم تتمكن "ثورية" القذافي من التعايش مع معظم طبيعة أنظمة دول الاتحاد.
كما أن العلاقات بين الأخوين اللدودين في المغرب العربي، الجزائر والمغرب، لم تعرف حالة من التطبيع الكامل، بل إن العلاقات بين البلدين عرفت مراحل من المد والجزر لا ينتهيان. علما أن التطبيع الكامل بين المغرب والجزائر يمثل شرطاً أساسياً من شروط النهوض باتحاد المغرب العربي، ومطلباً دولياً يجتمع عليه الموفدون عبر المتوسط وعبر الأطلسي.
و يقدّم الصحافي المغربي محمد الأشهب سرداً تاريخياً للعلاقات بين البلدين الجارين وتفاصيل الخلافات بينهما(5): في إحدى زياراته القليلة الى الجزائر بعد تولي العاهل المغربي الملك محمد السادس مقاليد الحكم في 1999، سمع مسؤول مغربي كلاماً من مراجع جزائرية عليا مفاده أن المغرب أخطأ في اختيار حليفه في منطقة شمال افريقيا. وجاء الكلام في صيغة عتاب "تعاونتم مع الضعيف وتركتم القوي" في إشارة الى التنسيق الذي ساد الخطوات الأولى لضم الصحراء بين المغرب وموريتانيا. وقتها رد المسؤول المغربي باستحضار وقائع اجتماع تاريخي ضم كلاً من الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داده في المدينة السياحية أغادير على الساحل الأطلسي للمغرب. ونقل فيه القول عن بومدين ان "لا مطامع للجزائر في الصحراء" وأنه يدعم أي تنسيق بين الأطراف المعنية في مواجهة قرار إسبانيا وقتذاك منح حكم ذاتي لسكان الساقية الحمراء ووادي الذهب، يبقيها تحت سيطرة مدريد. وزاد المسؤول المغربي أن الجزائر أقرت صراحة في القمة العربية التي استضافتها الرباط عام 1974 ان "لا مشكلة بينها وبين المغرب في قضية الصحراء".
ويحتفظ المغاربة بتسجيل صوتي للرئيس بومدين بهذا المعنى يقول فيه باللهجة المصرية "بين المغرب والجزائر مافيش مشكل". لكن الموضوع سيرتدي طابعاً آخر بعد صدور الحكم الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول وجود روابط "بيعة وولاء" بين سكان الإقليم والسلطة المركزية في الرباط. وفي الوقت الذي عمدت فيه إسبانيا إلى استمالة شبان يتحدرون من أصول صحراوية لتأسيس جبهة "بوليساريو" إلى جانب بعض الأحزاب السياسية الموالية لإسبانيا على طريق اكتمال خطة الحكم الذاتي الذي رهنته بموافقة "الجماعة الصحراوية" ـ أي البرلمان الصحراوي وقتذاك ـ كانت الجزائر تعمل بتنسيق مع الإسبان لتأمين هجرة مضادة لسكان الصحراء نحو مراكز تيندوف جنوب غربي الجزائر، إذ تزامنت عمليات الهجرة مع دخول القوات المغربية في شباط (فبراير) 1976 إلى الصحراء على خلفية انسحاب القوات الاسبانية منها. لكن الرد الجزائري كان أكثر عنفاً من خلال الإعلان عن تأسيس "الجمهورية الصحراوية" من طرف واحد، ما حدا بالمغرب إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع الجزائر.
وإذ يقول الرسميون الجزائريون إن توغل قوات عسكرية جزائرية في منطقة "أمفالا" القريبة شرقاً إلى تيندوف كان بهدف تقديم المواد الغذائية والأدوية للاجئين الصحراويين، تشير وقائع مواجهتين عسكريتين في المنطقة ذاتها إلى معطيات أخرى، هي نفسها التي ستتكرر في منطقة الداخلة جنوب المحافظات الصحراوية عندما توجهت قوات من مقاتلي "بوليساريو" (تحت قيادة جزائرية) إلى هناك بهدف فرض السيطرة على الإقليم إثر انسحاب موريتانيا عام 1979، حين قتل زعيم الجبهة الوالي مصطفى. ويقول رسميون مغاربة إن قادة بعض الدول العربية تدخلوا عام 1976، وفي مقدمهم الرئيس المصري حسني مبارك، وكان وقتذاك نائب الرئيس أنور السادات، لإطلاق الأسرى الجزائريين المعتقلين في مواجهتي "أمفالا" في مقابل حدوث انفراج بين المغرب والجزائر.
بيد أن قمة يتيمة على الأقل جرى البحث في تنظيمها لتجمع الحسن الثاني وبومدين في بروكسيل عام 1979 لم يكتب لها الالتئام، رغم تحديد موعد أولي كان تصادف واحتفالات المغرب بعيد الشباب. وتعرض بومدين بعد ذلك إلى أزمة صحية نُقل على أثرها إلى موسكو ليعود منها في غيبوبة كاملة.
احتاج الأمر، في غضون ذلك، إلى حوالي أربع سنوات لعقد القمة الأولى بين الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد الذي قال عنه الملك الراحل يوماً "لقد أجبر على تولي رئاسة الجزائر"، غير أنه وجد فيه محاوراً أعاد ملف العلاقات المغربية ـ الجزائرية إلى الواجهة من خلال حدثين، أولهما تجديد العمل باتفاق ترسيم الحدود ضمن معاهدة حسن الجوار المبرمة بين البلدين عندما اجتمع إلى الملك الحسن الثاني في المنتجع الشتوي في ايفران عام 1988، والثاني اجتماع العاهل المغربي إلى قياديين في جبهة "بوليساريو" للمرة الأولى في مراكش في حضور الرجل الثاني في الجبهة بشير مصطفى السيد، ما مهد الطريق أمام انعقاد القمة التأسيسية للاتحاد المغاربي في مراكش في شباط (فبراير) 1989.
لكن الاختراق على صعيد تحسين العلاقات الثنائية وبدء التعاون المغاربي انطلق قبل ذلك بمعاودة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، لم يعمر طويلاً نتيجة استقالة الرئيس بن جديد تحت ضغط الأزمة الداخلية في بلاده الناتجة أصلا عن ظهور جبهة الانقاذ الجزائرية التي اكتسحت انتخابات البلديات وتعطيل المسار الانتخابي عام 1992. وقتها أسرّ زعيم "الانقاذ" عباسي مدني إلى صحيفة "الحياة" أنه يدعم التقارب بين المغرب والجزائر ولا يرى حلاً لقضية الصحراء خارج السيادة المغربية. وحرص الملك الحسن الثاني لدى زيارته الجزائر وقتذاك على الاجتماع إلى زعماء الأحزاب السياسية الجزائرية. لكن الموقف الذي التزمه عباسي مدني سيجد امتداده في التصريحات الصادرة عن مراجع مغربية حول إمكان الإفادة من دور جبهة الإنقاذ الجزائرية في دعم الخيار الديموقراطي، وبالقدر نفسه سيتحول الخلاف حول التعاطي مع الظاهرة الإسلامية إلى سبب آخر يعطل الانفراج في علاقات البلدين.
وفي الوقت الذي بدأ فيه حوار مغربي ـ جزائري من نوع آخر على خلفية المسألة الإسلامية متمثلاً في طلبات جزائرية لتسليم معارضين إسلاميين في مقدمهم الناشط عبدالحق العيادة (أمير الجماعة الإسلامية المسلحة)، دار على واجهة أخرى حوار بين المؤسسة العسكرية الجزائرية والمعارض الجزائري محمد بوضياف الذي كان يقيم في مدينة القنيطرة المغربية ويدير مصنعاً للبناء، وقد حرص لدى مغادرته المغرب ليصبح رئيساً للجزائر يتمتع بالشرعية التاريخية، على تأكيد التزامه إيجاد حل سريع لنزاع الصحراء. غير أن الرصاص الذي صوب نحوه في قاعة اجتماع في عنابة في حزيران (يونيو) 1992، طالت شظاياه العلاقات بين البلدين. ولم تكد تمر شهور حتى اندلعت أزمة حادة بين الجارين، إذ تورط رعايا من أصول جزائرية ومغربية في هجمات فندق أطلس أسني في مراكش التي انعكست تداعياتها سلباً على علاقات البلدين عام 1994. فقد فرض المغاربة نظام التأشيرة على الرعايا الجزائريين وردت الجزائر بالمثل، وزادت عليها قرار إغلاق الحدود البرية في
صيف 1994.
عندما توفي الملك الحسن الثاني في تموز عام 1999، انتقل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المنتخب حديثاً في هذه المناسبة إلى الرباط، حيث تكلم بحرارة عن مستقبل العلاقات بين البلدين، قابله استعداد مماثل من الملك الشاب محمد السادس لبدء عهد جديد مع الجزائر.و اعتقد الجميع أن مناخاً دافئاً جديداً من العلاقات بين البلدين سيستمر، بيد أنه في اليوم الذي أعلن فيه فتح الحدود البرية الذي تحدد موعده في 20آب1999، حصلت مجزرة رهيبة راح ضحيتها 36 مدنياً على يد الجماعة الإسلامية المسلحة التي تقول الجزائر أن لها قواعد خلفية في المغرب.فتبخرت كل الأمال التي كانت معلقة على معاودة التطبيع بين المغرب والجزائر من جديد.
فماهي العوائق البنيوية التي حالت ولا تزال تحول دون التطبيع الكامل؟
1 ـ لقد ورثت البلدان المغاربية الثلاثة (تونس، الجزائر، المغرب) حدوداً متفجرة، بفعل التقسيم الكولونيالي الفرنسي ـ الإسباني لهذا الجزء الغربي من العالم العربي. وكانت فرنسا القوة الاستعمارية السائدة تعتقد أن الجزائر أصبحت جزءا من إمبراطوريتها، لذا راحت تقضم من الأراضي التونسية والمغربية لضمها إليها. وهذا ما جعل المغرب والجزائر يتواجهان عسكرياً في حرب تندوف الصحراوية عام 1963.كما أن هذا الموروث من التقسيم الكولونيالي وضع البلدين على حافة المواجهة العسكرية حول مسألة الصحراء الغربية عام 1975.
2 ـ إن الثورة الوطنية التحررية الجزائرية ضد الكولونيالية الفرنسية لم تمتد لتشمل توحيد أقطار المغرب العربي، بل حافظت على التقسيم الكولونيالي الموروث هذا، وسعت إلى بناء دولة قطرية تسلطية، لا إلى بناء دولة وطنية هي في الجوهرديمقراطية وأساس التحول إلى دولة قومية.. فكان مصير الثورة الجزائرية الإخفاق التام لأ ن مشروعها التحرري توقف عند الحدود التي رسمها الإستعمارالفرنسي، وأصبحت تدافع عنها بوصفها حقائق تاريخية أبدية.
3 ـ كانت الدولة الملكية المغربية تعتبر نفسها مركزية وعريقة وتاريخية، لذا كانت أولويتها الإستراتيجية تتمثل في الدفاع عن نفسها إزاء معارضة الأحزاب اليسارية لها في الستينيات، والشرعية الثورية لجارتها الجزائر، تماهيها مع المغرب الملكي الأبدي ومصيره ومنعت الملكية المغربية بعد ضم الصحراء الغربية من بروز بومدين مغربي جديد معاد للدولة المخزنية، كما أنها جعلت كل أحزاب المعارضة اليسارية تصطف على أرضية الخط السياسي للملك.
4 ـ وعلى الجانب الآخر، يمثل تشابك المسألة الصحراوية وتعقيداتها الصخرة التي تتحطم عليها كل محاولات تطبيع العلاقات بين الجزائر والمغرب، ويعود أساس التناقض بين فعل الإيمان بالوحدة المغاربية، والعدائية في واقع العلاقات بين البلدين إلى النمط السلطوي في شرعنة الحكم السائد في كلا البلدين. ففي المغرب والجزائرمعاً تحول استغلال الشعور الوطني إلى سلاح سياسي في الصراع على السلطة. وهنا تكمن صعوبة إيجاد حل في نزاع الصحراء الغربية خارج نطاق المشروع القومي الديمقراطي الوحدوي. فبالنسبة للدولة المغربية تعتبر أي تنازل في قضية الصحراء يقود إلى خسارتها، سيعني سقوط العرش. وبالنسبة للنظام الجزائري، فإن المزايدة الوطنية "حول تقرير المصير في الصحراء الغربية"، تشكل عنصراً من عناصر بقاء الدولة التسلطية. وقد حول كل من الجزائر والمغرب قضية الصحراء الغربية بفعل هذه المزايدة الوطنية إلى قضية أكبر من فلسطين. علما أن الدولتين لا تبديان أية معارضة ولو شكلية إزاء المخطط الأمريكي الصهيوني لتصفية فلسطين.
3 ـ القمة المغاربية من إخفاق إلى إخفاق
عجز قادة اتحاد المغرب العربي مرة أخرى عن عقد قمتهم في طرابلس. وفيما كان القادة المغاربيون يستعدون جميعا للذهاب إلى العاصمة الليبية بعد 12 عاما من دون قمة تجمع قادة دول الاتحاد الخمس (موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا)، وبعد أن أخفقوا في الالتقاء في الجزائر عام 2003 لأول مرة بعد آخر قمة جمعتهم في تونس عام 1994، وهي القمة اليتيمة منذ قيام الاتحاد عام 1989، جاءت رسالة التهنئة التي بعث بها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى زعيم جبهة البوليساريو محمد عبد العزيز بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لتأسيس جبهة البوليساريو، لتصب الزيت على النار، عندما جدد موقفه التقليدي بدعم حركة البوليساريو، الأمر الذي أدى إلى رد فعل طبيعي من المغرب، لجهة اعتذار الملك محمد السادس عن المشاركة في قمة طرابلس.
غير أن هذا التوجه نحو التطبيع بين الجزائر والمغرب، وفتح حدود البلدين لمرور الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال، تعرض لانتكاسة، بسبب ما وصفته الرباط بانحياز الجزائر ضد المصلحة العليا للمغرب، كما أن وصف جبهة البوليساريو بأنها حركة تحرير اعتبرته الحكومة المغربية تجاهلاً لأغلبية الصحراويين المتشبثين بانتمائهم إلى المغرب.وما كان لذلك الاستعداد أن يتم أصلا لولا أن اللقاء الذي جمع العاهل المغربي محمد السادس والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر علي هامش القمة العربية الأخيرة في آذار (مارس) 2005،مهد السبيل لإعادة إحياء مؤسسة القمة التي تكلست لا سيما منذ إعلان الرباط عام 1995 تعليق مشاركتها في هياكل الاتحاد.
هل "اتحاد المغرب العربي" لقيط إلى درجة أن أحداً لم يعد يريد تحمّل تبعات أبوته؟ هذا هو على كل حال الانطباع الذي يخرج به المتابع لقرار ليبيا الأخير تخليها عن رئاسة الاتحاد العتيد بسبب "تعثر مسيرته"، وتركت "موضوعه" لكي تبت به "الشعوب"، على اعتبار أنها صاحبة الكلمة الفصل في المسألة. وكانت الجزائر قبل ذلك قد تنفست الصعداء عندما قرر الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية المغاربيين الذي استضافته قبل نهاية العام الماضي، إسناد رئاسة الاتحاد إلى ليبيا، وإنزال هذا الهم عن كاهلها.
كان الظن أن الجماهيرية هي الأقدر على لمّ الشمل المغاربي، لاسيما أن مسؤولياتها الجديدة تزامنت مع انخراطها المفاجئ في معسكر الخير، وصرفها مليارات الدولارات لتعويض الضحايا الغربيين في الاعتداءات التي اتهمت بها أجهزتها أيام "الثورة العالمية". واعتبرت طرابلس حينها الأقدر على محاورة الفرقاء كلهم. وكان العقيد القذافي هو وحده من بين القادة المغاربيين من هنّأ العاهل المغربي محمد السادس في ذكرى المسيرة الخضراء لضم المحافظات الصحراوية في تشرين الثاني المنصرم، بعد أن كانت الجماهيرية في زمن مضى مصدر التمويل والتسليح الداعم الأساسي لجبهة البوليساريو.
لكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن "الاتحاد" مرة أخرى، فإضافة إلى موضوع الصحراء الغربية الذي شكّل حتى الآن العقبة الكأداء في رص الصفوف المغربية، وإزالة الجفاء في علاقات المغرب بالجزائر، برزت عقدة جديدة تمثلت في تدهور العلاقات الليبية ـ الموريتانية بعد توجيه اتهامات موريتانية إلى طرابلس بالوقوف وراء المحاولات الانقلابية التي تعاقبت على نواكشوط في الأشهر الماضية. وكانت تلك الاتهامات قد صدرت عن الرئيس الموريتاني نفسه معاوية ولد سيد أحمد الطايع في منتصف تشرين الأول الماضي، وطالت بوركينا فاسو إضافة إلى ليبيا(6).
وقد سعى الزعيم الليبي معمر القذافي جاهداً إلى إعادة وضع بلاده المنتجة للنفط على الخريطة الدولية بعد أن تخلت ليبيا عن برامج أسلحة الدمار الشامل، من خلال جمع زعماء اتحاد المغرب العربي في طرابلس، لكي يعزز من موقفه كصانع للسلام في إفريقيا. وكان بوتفليقة قد أخفق في عقد قمة للاتحاد المغاربي عام 2003. لقد كانت الآمال معقودة على قمة طرابلس التي دعا إليها الزعيم الليبي وعمل لها طويلا، لاسيما بعد نجاح مساعيه في عقد القمة الأفريقية المصغرة حول دارفور، وما صدر عنها من نتائج إيجابية مشجعة. وبدا أن كل الأمور تسير على ما يرام، حتى أنه تم التوافق على استبعاد قضية الصحراء الغربية من جدول الأعمال تجنباً لأي توتر أو اضطراب مغربي ـ جزائري. كما تم التوافق على حصر جدول الأعمال في قضايا التعاون بين الدول الخمس سواء لجهة علاقاتها جنوباً مع إفريقيا أو شمالاً مع أوروبا، وخاصة لجهة تعاونها المتبادل في الميادين الاقتصادية والمالية والسياحية والتنموية.
السبب وراء كل هذا التأجيل والإلغاء واحد ومعروف وهو الذي يطل دائماً برأسه ليكون وراء التجميد أو التأجيل أو الإلغاء: نزاع الصحراء الغربية القائم منذ 1975 والذي فشلت الأمم المتحدة في حله،و الذي أدى إلى تردي العلاقات بين دول المغرب العربي طيلة العقود الثلاثة الماضية،و إلى تقويض الاستقرار في المنطقة التي يراقبها الغرب عن كثب بوصفها مصدرًا محتملاً للتيار الإسلامي المتشدد ونقطة وثوبٍ بالنسبة إلى الهجرة غير المشروعة إلى القارة الأوروبية.فضلا عن أن تجاهل قضية الصحراء الغربية سيلحق الضرر بالتكامل الإقليمي.
والحال هذه، فإن تأجيل قمة طرابلس المجهضة إلي أجل غير مسّمى لن يسهم إلا في مزيد من الاستخفاف باتحاد لم ير الناس منه منفعةً واحدةً في وقت تخسر فيه دوله سنويا 10 مليارات دولار بسبب انعدام التعاون بينها في مواجهة أوروبا واحدة تزداد اتساعاً وقوة فيما تزداد الضفة الجنوبية للمتوسط تفككا وتبديداً للجهد والوقت.
ما لم ينجح في تحقيقه "اتحاد المغرب العربي" العصيّ على الانعقاد منذ أكثر من عشر سنوات، وما لم تنجح في تحقيقه اللجان المشتركة، والاتفاقات الثنائية، والزيارات المتبادلة، نجحت في اتخاذه الحركات المسلّحة في دول المغرب العربي الخمس التي أصبحت على قدر كبير من التنسيق والتعاون وشنّ الهجمات وتبادل "الخبرات" ورصّ الصفوف من بنغازي إلى نواكشوط. فقد تحوّلت الساحة المغاربية بأكملها مع امتدادها في الساحل الصحراوي وجنوب الصحراء الكبرى، إلى ساحة مواجهة جديدة بين "القاعدة" وامتداداتها المحلية، وبين الأنظمة القائمة وانخراط الولايات المتحدة في دعمها.
قصب السبق في هذا التحول الجديد يعود إلى "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، الجزائرية التي عوّضت عن انحسار نشاطها داخل البلاد، والانشقاقات التي تعصف بها بعد التحاق "أميرها" السابق حسّان حطّاب بركب المصالحة والوئام، بامتدادات أُفقية عابرة للحدود. وأصبح من الممكن الربط بين ما تقوم به، وما قامت به "الجماعة الإسلامية للمقاتلين المغاربة" التي نفّذت اعتداءات الدار البيضاء في أيار 2003، وبين محاولة اغتيال العقيد معمّر القذافي في بنغازي في الفترة ذاتها. فقد أصبحت أجهزة الاستخبارات في الدول المعنية على قناعة أن صلات وثيقة تمت إقامتها بين الحركات المختلفة خلال وجودهم في "الجهاد الأفغاني". لا بل إن المشرف على المخابرات المغربية الجنرال حميدو لعانيق ري، يرى أن "المقاتلين" المغاربة جرى تكوينهم وتدريبهم على يد الجماعة الليبية.وجاء إلقاء القبض في آذار الماضي في الجزائر على عشرة أعضاء في "الجبهة الإسلامية التونسية" ليؤكد عمق العلاقات بين التنظيمات في المنطقة، إذ تكوّنت قناعة أن هؤلاء كانوا في طريقهم إلى معسكرات "الجماعة السلفية" الجزائرية لتلقي التدريبات على يد مُدرّبين "أفغان"، وأنهم كانوا ينوون العودة الى تونس بعد ذلك لشن هجمات ضد مصالح ومؤسسات غربية، الأمر الذي يُفسّر التحذير الصادر عن الإدارة الأميركية الى رعاياها بعدم التوجه إلى تونس(7).
4 ـ مكافحة الإرهاب تمهد السيطرة الأمريكية على المغرب العربي من دون حرب
إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتبر الوجود الفرنسي داخل شمال إفريقيا عقب الحرب العالمية الثانية ضمانة حقيقية تقف في وجه المد السوفياتي الداعم لحركات التحرر الوطنية الإفريقية والأنظمة الوطنية التقدمية في وقت حاولت باريس الاستفادة من هذا الوجود في حمى الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، فإنه في الظروف الراهنة أصبحت واشنطن حاضرة بقوة على الساحة المغاربية، وترسم خطوط سياستها بدقة لضمان هيمنتها الأحادية، كما ظهر في كثير من القضايا، لعل آخرها تراجع الدور الفرنسي في منطقة المغرب العربي، وإعادة توزيع الأدوار فيها لمصلحة الولايات المتحدة.
اهتمام واشنطن بإفريقيا عامة، وشمال إفريقيا خاصة، لم يكن وليد اليوم، بل كان خطة قديمة، تبلورت ملامحها من حيث القدرة على التجسيد واقعيًا منذ نجحت الإدارة الأمريكية في خلق الاختلاف العميق بينها وبين فرنسا (الدولة الكلونيالية في إفريقيا). وكان التهديد لأول مرة على لسان "بول ولفويتز" بتاريخ 04 تشرين الأول/أكتوبر من سنة 2003 حين تكلم لأول مرة عن ضرورة التواجد في القارة الإفريقية، في كلمته التي أدلى بها بمناسبة الاحتفاء بما يسمى بجهاز الأمن القومي الأمريكي الذي كان نتاجًا "عسكرياً ومخابراتياً" تجسد بشكل ملموس منذ وصول المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض عام 2001. وإن كان الاختلاف الذي فجره قرار إدارة بوش بضرب العراق قد فجر آليا جبهة معارضة للحرب، إذتحولت أيضا "الحرب الباردة" بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا إلى حرب معلنة في المناطق التي تحتكرها الكولونيالية الفرنسية، في إفريقيا وآسيا الشرقية أيضا. فرنسا التي ظلت تتكلم عن إفريقيا أنها "مستوطناتها القديمة" وجدت نفسها أمام "صراع من نوع آخر" فرضته الاستراتيجية الأمريكية في الهيمنة على العديد من الدول الإفريقية، وبالتالي إصرار أمريكا على التواجد في الشمال الإفريقي ظل هو نفسه الهدف الاستراتيجي الذي على أساسه تكلم "دونالد رامسفيلد" بعد سقوط بغداد في ندوة صحفية جمعته بالمستشار الألماني في العاصمة الألمانية "برلين" حين قال بلهجة حربية موجها كلامه للفرنسيين: " لولا أمريكا لكانت فرنسا تتكلم اليوم بالألمانية !". وهي الجملة التي أزعجت الفرنسيين والألمان على حد سواء، لاسيما وأن رامسفيلد ذهب إلى حد التهديد بطريقته أنه سيكون لأمريكا الحق في الذهاب بعيدا لأجل "الدفاع عن الحريات والديمقراطية"، وكان الهدف من وقتها " المغارة الفرنسية" حسب جريدة "الواشنطن بوست" في عددها الصادر يوم 22كانون الاول/ديسمبر2003(8).
[/align]
|