عرض مشاركة واحدة
قديم 19 / 12 / 2009, 17 : 11 AM   رقم المشاركة : [6]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- منظور الرّاوي والرّوائيّ


استقلّت الرواية بنفسها، وشكَّلتْ مجتمعها الفنيّ الخاصّ بها وحدها، ولبست اللبوس الحديث، حين نجحتْ في التمييز بين الأحداث الحقيقيّة والحوادث المتخيَّلة. فكلُّ حدث يدخل الرواية يصبح متخيَّلاً وإنْ كانت أصوله حقيقيّة ؛ لأنه خضع للصوغ اللغويّ والمخيّلة الروائية. ومن ثَمَّ أصبح من اليسير التمييز بين روايـة مبنيّة استناداً إلى (منظور الراوي)، وأخرى مبنيّة استناداً إلى (منظور الروائيّ). فالمنظور الأول تخييليّ والمنظور الثاني حقيقيّ. الأول يبتدع ويُحلِّق بأجنحة الخيال، والثاني ينسخ ويجهد في إحياء الواقع الحقيقيّ والتاريخيّ. ولكلّ منهما شؤون وشجون، يحسن تحليلها والإفادة من نتائـجها في التمييز بين الروايات. وقد اخترتُ، هنا، روايتين لعبد الكريم ناصيف وسلطان القاسمي، تُمثِّلان المنظورين المذكورين (الراوي والروائي)، وتستطيعان، بمستواهما الفني، الدلالة على جانب آخر من بناء الرواية العربيّة.‏

منظور الرّاوي :‏

إذا أنعمنا النظر في رواية عبد الكريم ناصيف (الطريق إلى الشمس، تشريقة آل المرّ)(1)، انطلاقاً من أنها نصّ مغلق على نفسه ،مكتف بقوانينه، لاحظنا الهيمنة المطلقـة للراوي العالم. وإذا كان السرد هو الفعل الذي ينـتجه الراوي عادةً، فإننا نغامر من البداية بالقول إن السرد يطغى على العرض – وهو كلام الشخصيات – في رواية (الطريق إلى الشمس) .وقد نتج من هذا الطغيان فقدان التوازن داخل نصّ الروايـة بين السرد والعرض. فالكـثرة الكاثرة من النصّ سردية، والجزء القليل الباقي كلام مباشر للشخصيات الروائية، اعتدنا تسميته حواراً تمييزاً له من كلام الشخصيات ونجواها داخل السرد نفسه. والأمل أن تُفهَم الإشارة إلى فقدان التوازن على أنها إشارة وصفية وليست حكم قيمة سلبياً أو إيجابياً. إنها وصف يُحدِّد الطابع العام لرواية (الطريق إلى الشمس)، ويعلن أهمية تحليل السرد لفهم منظور الراوي والتبئير، وما يرتبط بذلك من مظاهر سردية.‏

إن الهيمنة المطلقة هي منظور الراوي في (الطريق إلى الشمس)، أو نظرتـه المتحكِّمة في صياغة السرد. ففي السرد علامات كثيرة تدلّ على أن الهيمنة المطلقة هـي الشكل الذي يُدرك الراوي بوساطته العالم الروائي. أولها الإخبار عن الحوادث. فهو محيط بالحوادث كلها، عالم بتفصيلاتها، حريص على أن يُقدّمها للمرويّ لـه، سواء أتمت في زمن واحد أم في أزمنة مختلفة، وفي بيئة واحدة أم بيئات عدّة. وثانيها معرفة حاضر الشخصيات وماضيها، سلوكها الخارجي وأفكارها ونجواها الذاتية. وفي السرد أفعال كثيرة تدل على معرفة الراوي بدخيلة الشخصيات، أبرزها : (يعلم – يشعر – يتساءل)(2). وتُسْتَعمَل هذه الأفعال منفية أحياناً، فعزيز لا يعلم أو لا يدري أو لم يكن يتساءل، وما إلى ذلك(3) من الدلالات على أن الراوي أكثر معرفة من الشخصيات .وثالثها التعليق والتوضيح والشرح والتفصيل. وقد استعمل الراوي لفظة (الحقيقة) مدخلاً إلى التعليـق على أمر ذكره في السرد. وعلى الرغم من أنه أهمل هذه اللفظـة أحياناً، فإن هذا الإهمال لم يحجب وظيفة التعليق التي تبدو أثيرة لدى الراوي. فقد استعملها في الصفحة الأولى من الرواية مرتين، حين ذكر آذار والمصاطب الجبلية. واستمر يستعملها بعد ذلك، ويُخصّص لها في الغالب الأعم مقاطع سردية مستقلة.‏

وليس لتعليق الراوي في (الطريق إلى الشمس) مناسبة محدَّدة .ويُخيَّل إليَّ أنه يُعلِّق على الأمور ليعطي ما يجري في الحاضر امتداداً في الماضي. تلك حاله في أثناء سيطرة المجاعة على سكان أم العيون. فقد اهتدى السكّان إلى حلٍّ لهذه المجاعة هو (جني النباتات)، فعلَّق الراوي على هذا الحل قائلاً : (فالمرأة تمضي إلى الأرض تجمع من خيراتها نباتات تغذي، درنات، حبوباً، ثماراً، بعضها يؤكل وبعضها الآخر يطهى .في البداية حين لم يكن الإنسان قد اكتشف النار لم تكن المرأة تطهو شيئاً مما تجمعه، كما لم يكن الرجل يفعل ذلك بما يأتي به من صيد، كله نيء يؤكل ليرد غائلة الجوع، تماماً كما يفعل أخوتـه من الحيوانات الأخرى. لكن الإنسان تطور، اكتشف النار، صنع الأواني، اخترع الأدوات التي يطهى بها الطعام، وراح يشق طريقـه المختلف بما ميزه عن سائر الحيوانات الأخرى، وجعلـه سيد الكون بلا منازع)(4) .‏

والراوي، في أحايين أخرى، يُعلِّق ليُوضِّح شيئاً. فقد نصّ على أن (الأعشاب الطويلة) تحول أحياناً بين النساء وبحثهنّ عن (الفطر والكمأة والعكّوب). ولكنه لم يكتف بذلك لاعتقاده بأن حيلولة الأعشاب دون عثور النساء على الفطر والكمأة قضية غير واضحة وغير مسوّغة لدى المرويّ له، ولهذا السبب راح يشرح الفروق بين الفطر والكمأة والعكّوب في التخفي داخل التربة(5). وربما علّق الراوي على شيء ليُعلّل حدوثه، كما هي حال إشارته إلى أن سكّان أم العيون لا يملكون المال. فقد علّل ذلك بأنهم أبناء الطبيعة(6). ومهما يكن الأمر فإن تعليقات الراوي نوع من التدخُّل في المحكيّ، ينم على رغبته في التوضيح والشرح والتعليل، انطلاقاً من أنه يَعْلم ويُعلِّم. ومن ثَمَّ لجأ في عدد غير قليل من مواضع التعليـق إلى افتتـاح تعليقه بلفظة (الحقيقة)(7)، وهي الدليل على أنه ينظر إلى العالم الروائي نظرة العالم الذي يملك وحده الحقيقة، ويستطيع البوح بها في المكان الروائي الذي يراه مناسباً .وادّعاء الحقيقة إرث قديم يسعى الراوي في (الطريق إلى الشمس) إلى التذكير به، وإحياء استعماله.‏

العلامات الثلاث السابقة (الإخبار عن الحوادث – معرفة أحوال الشخصيات – التعليق والشرح) واضحة في السرد، تدل على أن الراوي يدرك عالمه الروائي إدراك هيمنة مطلقة، ويجعل هذه النظرة، أو المنظور، تتحكَّم في صياغة السرد كله، من بداية الرواية إلى نهايتها. ولابدّ من أن نقبـل الراوي على هذه الصورة، بعيداً عن أي حكم قيمة سلبي أو إيجابي. ذلك لأن هذه الصورة تدلّ على طبيعة الراوي في السرد الروائي التقليديّ. وقد اختار راوي (الطريق إلى الشمس) أن يُقدِّم سرداً تقليدياً ،وسمح لنفسه أن يتحكّم بصياغته. وهذا الاختيار معروف شائع، يُشكِّل جزءاً من أسلوبية الرواية التقليدية. وليس من النقد مضاهاته ومقارنته باختيارات أخرى، كالراوي الممثَّل وتعدُّد الرواة … بل يكمن النقد في الاعتراف به أسلوباً، له جمالياته وروّاده في الرواية العربية، ومن ثَمَّ تحليله لتحديد خصائصه وتباينه بين الروائيين.‏

أعتقد، انطلاقاً مما سبق، بأن منظور الراوي في (الطريق إلى الشمس) يمتاز من المنظور السائد في الرواية التقليدية بخمس سمات، هي :‏

1 – إنه منظور واسع وليس ضيِّقاً ذاتياً. ذلك لأن الراوي لم يقتصر على وجهة نظر عزيز، وهو الشخصية المحورية، بل امتدّ إلى وجهات نظر الشخصيات الأخرى، وهي كثيرة في الرواية. كما أنه لم يقتصر على حدث النـزوح من الريحانة إلى أم العيون، بل امتدّ إلى حياة القبائل العربيـة في بادية الشام، راصداً عاداتها وتقاليدها وطبيعة الحِلِّ والتَّرحَال عندها. كما امتدّ إلى ثورة الشريـف حسين على العثمانيين، ورافق الجيش العربي من العقبة إلى دمشق، وتوقّف عند بعض المعارك التي خاضها ،وطبيعة علاقاته بالانكليز. ولم يكتف منظور الراوي بهذا كله، بل راح يشمل العلاقات العاطفية بين عدد من شخصيات الرواية، ويُصوّر أفراح النازحين وأتراحهم، ويلاحق حياتهم الجديدة في أم العيون من جوانبها الاقتصادية والاجتماعية. وباختصار، فقد اتسع منظور الراوي اتساعاً كبيراً، فبدا شاملاً الجوانب الأسرية والاجتماعية والإنسانية والوطنية والقومية، راغباً في أن يُعبِّر السرد عنها كلها من خلال حكاية عزيز وأسرته .‏

2 – إنه منظور ذو معرفة مطلقة متعدّدة الزّوايا. ذلك لأن الراوي في السرد التقليديّ يعرف الحوادث والمشاعر والأفكار ،ويُقدّمها للمرويّ له بعد حدوثها. أما الراوي في (الطريق إلى الشمس) فتبدو معرفته الكلية متعدّدة الزوايا، لأنه يُقدّم الحوادث والمشاعر والأفكار مباشرة كما تعيها الشخصيات. ويحرص من أجل ذلك على التّدرُّج ؛ أي تقديم هذه الحوادث والمشاعر كما تعيها إحدى الشخصيات، ثم تقديمها كما تعيها شخصية أخرى. وأبرز الأمثلة على ذلك تفكير عزيز في شمس في أثناء مشاركته في القتال، ثم تفكير شمس في عزيز في الزمن نفسه، وما لقيته من صعوبات في سبيل الاستمرار في انتظار عودته إليها . وتشمل المعرفة المطلقة زوايا أخرى كثيرة، كالزراعة والصيد والعادات والتقاليد والقتال والمناخ والشِّعر الشعبي والفصيح والأمثال، وما إلى ذلك مما يشير إلى الذاكرة الثقافية للراوي، وهي ذاكرة يمتاز بها الرواة في روايات عبد الكريم ناصيف الأخرى. ويتصل بهذه الذاكرة الثقافية إيرادُ أبيات من الشعر الفصيح والشعبي تُعبِّر عن موقف أو تُعزِّز حدثاً، وذِكْرُ وثائق تاريخية كالرسالتين المتبادلتين بين سليم الأطرش وسلطان الأطرش، واستعمالُ نصوص من مذكِّرات صبري البديوي مع النص في الهامش على ذلك(8)، وكأن الراوي دارس منهجي يعرف أسس البحث وما تقتضيه من أمانة علمية.‏

3 – إنه منظور منحاز في لبوس حياديّ. فالراوي في السرد التقليدي حيادي أو منحاز إلى قيم إحدى الشخصيات الروائية، ولكنه لا يكون حيادياً ومنحازاً في الوقت نفسه. أما الراوي في (الطريق إلى الشمس) فيتخذ لنفسه لبوس الحيادي ،ويروح يُصوّر المواقف ويُقدّم الشخصيات من غير إيحاء بموافقته عليها أو اختلافه عنها. تلـك حاله في أثناء تصوير أبي شعيب وهو يُعذِّب عزيزاً ويهينه في المخفر. فهو لا يبدي في هذا التصوير انحيازاً إلى أبي شعيب أو عزيز، بل يسرد الموقف وهو بعيد عنه، مرتفع فوقه، وكأنه شاهد عليه ليس غير. ولم يختلف الأمر في موقف سابق معاكس، تمكّن عزيز فيه من إهانة أبي شعيب أمام سكّان الريحانة بإيقاعـه أرضاً. فقد صوّر الراوي الحـدث بحيادية لا أثر للانحياز فيها. كذلك الأمر حين غزا البدو قرية الصابرة، وحين عضَّ الجوع سكّان أم العيون، وحين اكتشف عزيز أن الفارس الملثم بنت وليس ذكراً. ففي هذه المواقف كلها يبدو حياد الراوي أصيلاً لا يغمز من قناته شيء.‏

ولكن إنعام النظر في الرواية يقودني إلى أن هذا الحياد لبوس يخفي وراءه انحيازاً كاملاً للقيم التي يمثّلها عزيز ومَنْ يتصل به من أهل وجيران وأحبة وأصدقاء. فللشر في الرواية مصدر واحد هو المستعمر التركي. وأبو شعيب في الرواية واحد من ممثّلي هذا المستعمر. فهو يلاحق عزيزاً ويُعذّبه ويحرق منازل الريحانة ويقود شبابها إلى حرب (الترعة). والدرك في شوارع (سَلَمْيَة) هم الذين قادوا (عمران) أخا عزيز إلى حرب الترعة حيث مات وهو ضعيف البنية غير صالح للقتال. أما عزيز وأهله وجيرانه وأصدقاؤه فهم في الرواية مصدر الخير. لا يصدر عن أحدهم شرّ أو ظلم أو فعل قبيح. وإنْ شذَّ بعضهم، كعليا زوج عمران، عاد إلى رشده سريعاً ولم يُخلِّف وراءه أذى. لا يختلف في هذا الطِّيْب مَنْ بقي في الريحانة ومَنْ هاجر منها إلى أم العيون ،كما لا تختلف فيه الصابرة عن قبيلة أبي نوّاف … وهذا كله جعل الرواية تطرح قيمتين متناقضتين : الخير والشرّ، وتُشجِّع المروي لـه بشكل غير مباشر على أن ينحاز إلى الخير. وهذا – في رأيي – هو موقف الانحياز لدى الراوي، وهو موقف غير مباشر يتخذ من الحياد وسيلـة للتعاطف مع الطّيّـبين الصابرين الذين هاجروا بأموالهم وأنفسهم دفعاً للشرّ عنهم.‏

4 – إنه منظور موضوعي متعدِّد التبئيرات. فالراوي يسرد الحوادث ويُقـدِّم الشخصيات بضمير الغائب، وهـذا السرد موضوعي لأنه لا يُحيل إلى أي متكلّم، ويجـعل الخطاب غير مباشر. وهو، بذلك، يختلف عن الحوار الذي يتصف بالذاتية لأنه يحيل إلى متكلّم محدَّد وخطاب مباشر. وقد استند السرديون إلى هذا التقسيم في أثناء حديثهم عن التبئير أو الزاوية التي يرى الراوي منها الحوادث والشخصيات. ومن ثَمَّ نصُّوا على أن السرد الموضوعي لا يضم أي تبئير ،أو هو – حسب مصطلحاتهم – تبئير في درجة الصفر. أي أنه سرد لا يُحدّد الراوي فيه زاوية ينظر منها إلى الحوادث والشخصيات. بيد أنني لاحظتُ أن المنظور الموضوعي للراوي في (الطريق إلى الشمس) لا ينصاع لما قرّره السرديون، بل يخالفهم في أنه متعدِّد التبئيرات. فيه تبئير في درجة الصفر، وتبئير خارجي، وتبئير داخلي ثابت ومتغيِّر ومتعدِّد .ومنطلق الملاحظة عندي هو أنني لم أجعل الضمير النحوي معياراً وحيداً للكشف عن التبئير في السرد، بل أضفتُ إليه الضمير اللساني، أي المبئِّر الذي يُقدَّم المحكيُّ أو الموضوع المبأَّر من وجهة نظره أو زاوية رؤيته. وهذه ثلاثة مقاطع سردية تُوضّح ما قلتُه :‏

أ – (أكثر من مرة كانوا قد تداولوا فيما بينهم أمر الرحيل إلى الشرق. فالسهول هناك واسعة يمكنهم أن يزرعوها مئات الأمداد من الحنطـة والشعير، يمكن أن يربوا فيها الماعز والأغنام ..)(9). هذا المقطع السردي غير مبأَّر، لأن الراوي فيه لم ينظر إلى الحدث المحكيّ من زاويـة أيـة شخصية من شخصيات الرواية، بل تركه عاماً موضوعياً.‏

ب – (كان زي الرجلين الغريب، بذلك السروال الأسود والكوفية السوداء والعقال الثخين قد لفت نظر الدرك. وحين أجابهم أبو خليل عن سؤالهم " من أنت ؟ " لفت انتباههم أيضاً لهجته الغريبة. وإذ طلبوا الهويات ولم تقدم لهم فرح الدرك لوقوعهم على صيد ثمين ..)(10). هذا المقطع مبأَّر تبئيراً خارجياً، لأن الراوي سرد المحكيَّ من وجهة نظر الدرك، وقصره على السلوك الخارجي لهم ولم يُقدِّم للمرويِّ له أيَّ شيء يتعلّق بدخيلتهم.‏

ج – (كان يعلم أن المعركة صعبة وغير متكافئة، لكنه لم يكن قادراً على التراجع، فالاستسلام يعني الذل، والذل هو الموت بعينه : " إذن مت عزيزاً رافع الرأس " .وأحس بدفقة هائلة من القوة تملأ صدره، رأسه، ذراعيه.)(11). هذا المقطـع مبأَّر تبئيراً داخلياً ؛ لأن الـراوي سرد المحكيَّ من وجهة نظر عزيز وحدها، راصداً دخيلته في أثناء مواجهة الحدث الخارجي. والتبئير الداخلي هنا ثابت لأنه رصد دخيلة شخصية واحدة، ولكن السرد في (الطريق إلى الشمس) ضمَّ أمثلة أخرى للتبئير الداخلي المتعدِّد رُصِد الحدثُ المحكيُّ فيها من دخيلة شخصية ثم أخرى ثم ثالثة : (فالمصاب الجديد أنسى نرجس مصابها القديم. بل لم تعد تحس أن لها ركبة توجعها، فأطلقت العنان ليديها تلطمان وجهها ولفمها يولول ولعينيها تسكبان الدموع. أبو خليل حاول تهدئتها، لكنه لم يستطع. هو نفسه كان ممزق القلب، يجيء لمداواة الفتاة فيفقد الفتى)(12). لقد انتقل التبئير الداخلي المتعدّد في هذا المقطع من نرجس إلى أبي خليل، ولكنه كعادة التبئيرات في (الطريق إلى الشمس) جَمَعَ بين التبئير الخارجي والداخلي.‏

ومهما يكن أمر هذه التبئيرات فإنها كلها واضحة في السرد الموضوعي بضـمير الغائب. وهذا يقودنا إلى أن الدلالة النحوية لضمير الغائب ليست معياراً وحيداً للتبئير، لأنها وحدها تدلّ على اللاتبئير أو التبئير في درجة الصفر. ومن المفيد أن نضيف معياراً آخر يراعي الضمير اللساني أو زاوية نظر المبئِّر إلى الموضوع المبأَّر .فهذا الضمير يدلّ على أن الراوي في (الطريق إلى الشمس) نوَّع الصيغ السردية من خلال تعدُّد التبئيرات، فقدَّم سرداً موضوعياً خالياً من التبئير، وآخر من زاويـة نظر إحدى الشخصيات، سواء أكان التبئير خارجياً أم داخلياً، ما يشير إلى أن منظور الراوي موضوعي يستعمل في السرد ضمير الغائب وحده، ولكنه يصوغ السرد يحيث يؤدي ضـمير الغائب ما يؤديه ضمير المتكلّم من تبئير.‏

5 – إنه منظور ملتحم بوجهات نظر الشخصيات. ذلك أن الراوي، كما سبق القول، منحاز للقيم التي تمثِّلها الشخصيات الخيِّرة في الرواية، ولم تكن حياديته في أثناء تصوير المواقف المناهضة لهذه القيم غير لبوس لا يُخفي انحيازه لعزيز وأهله وأصدقائه. وقد عبَّرت الرواية عن هذا الانحياز بتخصيص جزء قليل من مساحتها للحوار الذي قدَّمت الشخصيات من خلاله بعضاً من وجهات نظرها في الحوادث والشخصيات. وتركت للسرد، وهو المهيمن، فرصاً وافرة للتعبير عن جوانب من وجهات نظر الشخصيات لم يتح للحوار التعبير عنها. إضافة إلى أن الرواية سمحت للسرد بتقديم التفصيلات الخاصة بوجهات نظر الشخصيات وأبعادها وخلفياتها، فبدا السرد المعبِّر تعبيراً مباشراً عن منظور الراوي ملتحماً بوجهات نظر هذه الشخصيات. يدلّ على ذلك أمران : أمر واضح هو عزوف الراوي طوال الرواية عن التعبير عن وجهات نظر الشخصيات العثمانية المناهضة لعزيز وأهله. وأمر يحتاج إلى توضيح هو جَعْل الشخصيات تُعبِّر عن تفصيلات وجهات نظرها وأبعادها في السرد بوساطة كلامها ونجواها الذاتية.‏

وههنا أميّز بين الحوار وكلام الشخصيات ونجواها بالقول إن الحوار يحتاج إلى متحاورين. فإذا تكلّمت الشخصيـة دون أن يكون هناك مَنْ يحاورها أُطلق على ذلك مصطلح (كلام الشخصيات). وإذا حدَّثت الشخصيـات نفسها حافظت على المصطلح الشائع (النجوى الذاتية). ويمكنني القول بعد هذا التمييز إن الحوار في (الطريق إلى الشمس) استقلّ بنفسه. أما كلام الشخصيات والنجوى فقد حرص الراوي على أن يدمجهما في السرد، ويجعل الشخصيات تُقدِّم تفصيلات وجهات نظرها من خلالهما، معبِّراً بوساطة ذلك عن التحام منظوره بها.‏

ومن المفيد أن نلاحظ هنا تنوُّع الصيغ السردية الدالة على التحام منظور الراوي بوجهات نظر الشخصيات. من ذلك مثلاً المقطع الآتي : (أحس بالاستغراب، لكن استغرابه زال وهو يعيد التفكير فيرى أن سلوكهن ينسجم مع ذواتهن " أليست المرأة كائناً أنانياً ؟ إذن لماذا يفكرن به إن كان لا يريد الزواج أبداً ؟ لماذا يهتممن به وهو غير ذي نفع لهن ؟ " وحل محل الاستغراب نوع من الراحة والاطمئنان)(13). يضمّ المقـطع السابق كلاماً لعزيز ميَّزه الراوي من السرد بوضعه بين علامتي تنصيص. ولابدّ من أن نلاحظ في هذه الصيغة السردية التي يُميَّز كلام الشخصية فيها من السرد إمكانية نسبة الكلام إلى عزيز بتحويل الضمير من الغائب إلى المتكلّم من غير أن يتغيّر شيء في المعنى. وقد توافرت هذه الإمكانية هنا، بحيث نستطيـع تجسيد التحويل على النحو الآتي : (أليست المرأة كائناً أنانياً ؟ إذن لماذا يفكِّرنَ بي إن كنتُ لا أريد الزواج أبداً ؟ لماذا يهتممن بي وأنا غير ذي نفع لهنّ ؟). هـذه الإشارة إلى التحويل ضرورية، لأن السرد قدَّم كلام الشخصيات بصيغتين أخريين : ذكر في الأولى كلام الشخصيات بضمير المتكلّم مع المحافظة على تمييزه بعلامتي تنصيص .وذكر في الثانية نصَّ كلام الشخصية بضمير الغائب أو المتكلّم من غير علامتي تنصيص. وفي هذه الصيغة الأخيرة يكثر اللبس، ويبدو التحويل معياراً لتمييز كلام الشخصية من كلام الراوي، كما هي الحال في المثالين الآتيين : الأول منهما قابل للتحويل فيُعَدُّ كلاماً لعزيز، والثاني غير قابل للتحويل فيُعَدُّ كلام الراوي.‏

- (أحس عزيز برغبة شديدة في البكاء. أين أم يونس تستقبله بذراعيها المفتوحتين ؟ أين أبوه بجلاله ومهابته ؟ أين نرجس ؟ الإخوة، الأطفال ؟ ماذا حل بهم، أين أراضيهم ؟.)(14)‏

- (لا يملك عزيز إلا أن يقف بارد الجسم، موهن الأطراف، كأنما يحمل على ظهره أثقال الأرض كلَّها. أمسكه حامد بيد وأمسكته سعدى باليد الأخرى. دفء ما تسرَّب إلى راحة يده عبر مسام الكف التي أطبقتها سعدى على يده. حنان ما .. راحة ما ..)(15)‏

إن تنوُّع الصيغ السردية، وخصوصاً تلك التي خلت من علامتي التنصيص، يدلّ على اقتراب منظور الراوي من كلام الشخصيات، حتى إنهما يلتحمان فيعسر تمييز أحدهما من الآخر. يُعزِّز ذلك ما لاحظتُه من غزارة النجوى الذاتية في السرد، ومن حرصٍ على التنوُّع نفسه في الصيغ السردية، وعلى الإتيان بفعلٍ دالٍّ على النجوى، هو في الغالب الأعم : (تساءل)، وأحيـاناً : (فكَّر)، يمنع التداخل بين النجوى وكلام الراوي .على أن مقاطع النجوى تشير إلى أمر آخر، هو عناية منظور الراوي بمنظور عزيز. إذ إن هذه المقاطع انصرفت – غالباً – إلى نجوى عزيز الداخلية، فدلّت على أن منظور الراوي واسع، يشمل الشخصيات الروائية كلَّها تقريباً، ولكنه يركِّز في أثناء ذلك تركيزاً واضحاً على وجهة نظر عزيز، ويبدو أكثر التصاقاً بها وقرباً من قيمها ونظرتها إلى العالم المحيط بها، حتى إنه سما بها فجعلها مثالاً للتمرُّد على الظلم والظالمين، وللشجاعـة والمـغامرة والتوق إلى المعالي، وللبراءة، ولعفة النفس حتى إن النساء يتهافتنَ عليه، فضلاً عن صفاته الخَلْقية التي جعلت بنيته قوية قادرة على تحمُّل الصعاب.‏

أخلص مما سبق إلى أن (منظور الراوي) مفهوم فنيّ يشير إلى التحكُّم في السرد. وقد دلَّ هذا المنظور في (الطريق إلى الشمس) على راو مهيمن ذي منظور واسع ومعرفة مطلقة، فضلاً عن موضوعيته وتعدُّد تبئيراته والتحامه بوجهات نظر الشخصيات الروائية. ولا بدَّ من أن نتابع التحليل لنلاحظ اختلاف (منظور الروائي) عن (منظور الراوي) .‏

منظور الروائي :‏

ليست العلاقة بين الحقيقيّ والمتخيَّل جديدة، ولا خاصّة بالرواية التاريخية. فقد عرف النقد الواقعيّ ذو الاتجاه الاجتماعيّ ضروباً من محاولات تقنين الحقيقيّ في الرواية عموماً، والرواية التاريخية خصوصاً. ولم يكن غريباً أن يبذل أتباع هذا النقد الوقت والجهد في تعديل النظرة إلى التاريخ خارج الرواية وداخلها، وأن يهتموا – كما هي حال جورج لوكاتش في كتابه : الرواية التاريخية – بالتبئير التاريخي، دون أن يستعملوا هذا المصطلح، تبعاً لاهتمامهم المباشر بصانعي التاريخ الحقيقيين، ونبذهم التاريخ الرسمي وتشكيكهم في تمثيله الماضي. ولكن الغريب أن تتطوّر الروايـة التاريخية خارج الحقل الواقعيّ، وأن تنمو في اتجاه تفسير الحاضر وفهم آلياته من خلال الماضي نفسه، مكوِّنةً جماليتها الخاصة، وردود أفعالها على الحاضر، وكأنّ الروائيين أصبحوا راغبين في قراءة ما لم يقله التاريخ بأكثر من رغبتهم في إعادة إنتاج ما سطَّرته كتب التاريخ.‏

وقد تعقَّدت العلاقة بين الحقيقيّ والمتخيَّل نتيجة ذلك كله، وبرزت الحاجـة إلى قراءات روائية وتحليلات ترجع إلى المفهومات الواضحة المحدَّدة التي تُعين على فهم أساليب الرواية في هضم التاريخ وتحويله إلى التاريخيّ، وتقنين ألوانه وتبئيراته. وقد رأيتُ من المفيد أن أستند هنا إلى نموذج محدَّد،هو رواية (الأمير الثائر) للشيخ الدّكتور سلطان بن محمّد القاسميّ، دون أن أتنازل عن الضبط المنهجيّ وما يستدعيه من دقّة في استعمال المصطلحات.‏

بداية التاريخ، نهاية الرواية :‏

كتب الدّكتور سلطان بن محمّد القاسميّ المقدمـة الآتيـة لروايته (الأمير الثائر)، وذيَّلها بتوقيع (المؤلِّف) : (إن قصة الأمير الثائر هي قصة حقيقيّة، فإن كل مـا جاء فيها من أحداث وأسماء شخصيات ومواقع موثّقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي، ولا يوجد بها أي نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام. أقدِّمها للقارىء العربي ليطَّلع من خلالها على جزء من تاريخه في الخليج العربي)(16).‏

لاشكّ في أن الرواية، أية رواية، لا تحتاج إلى مقدمة، لأنها تُقدِّم نفسها بنفسها للقارىء، فتضعه في مجتمعها، وتستطيع التأثير فيه من خلال قدرتها على إمتاعه وإقناعه .ولكنّ الروائيين يخالفون السائد أحياناً، فيكتبون لرواياتهم مقدّمات تشي، عادةً، بما يعتمل في دخيلتهم حول الموضوعات التي يرغبون في تقديمها(17) .وما رواية (الأمير الثائر) إلا نموذج لهذا الأمر. فقـد كتب سلطان بن محمّد القاسميّ لهذه الرواية مقدّمة تشي بمجموعة من رغباته التي تخصّ العلاقة بين الرواية (وهي الجنس الأدبي الذي اختاره شكلاً للتعبير) وتاريخ الأمير مهنا (وهو الموضوع الذي رغب في تقديمه للقارىء). ولابدَّ من تحليل المقدّمة لتوضيح الرغبات الكامنة وراءها ،وما يرتبط بهذه الرغبات من دلالات العلاقة بين الرواية والتاريخ، أو بين الشكل والمضمون .‏

يستطيع القارىء بسهولة ملاحظة الهدف الأساسي من كتابة هذه المقدمة، وهو القول إن رواية الأمير الثائر (قصـة حقيقية). وهذا الهدف هو جوهر الخطاب الذي وجَّهه سلطان بن محمّد القاسميّ لقارىء روايته. فهو يرغب في أن يزوّده بمعرفة محدّدة تلزمه في أثناء قراءة الرواية، هي أنه مقبل على قراءة (قصة حقيقية) وليس مقبلاً على قراءة (قصة متخيَّلة). ولهذه الرغبة مسوّغ معروف، هو أن القارىء يطالع على غلاف الكتاب كلمة (رواية)، فيهيّىء نفسه لقراءة أحداث متخيَّلة ابتدعتها مخيّلة الروائي، ووظّفت من أجل دلالاتها شخصيات معيّنة. في حين أن سلطان بن محمّد القاسميّ كتب أحداثاً حقيقية غير مبتدعة، اعتقد أنه من المفيد – كما سنرى لاحقاً – أن يطَّلع القارىء عليها. وإذا تحرّرنا من الضغط الأسلوبي الذي سلَّطه سلطان بن محمّد القاسميّ على قارىء نصّه، فإننا سنكون قادرين على الشروع في توليد الأسئلة واقتراح الإجابات لتفسير هذا العمل. ذلك لأن القول إن روايـة الأمير الثائر (قصة حقيقية) يعني أن سلطان بن محمّد القاسميّ يوحي لقارئه بأنه مجرّد سارد للأحداث التي سيطالعها القارىء بعد فراغه من قراءة المقدمة. والإيحاء نفسه يعني التّنصُّل من مسؤولية المسرود، والاكتفاء بمهمّة السارد، وكأننا أمام صوغ آخر للعبارات الحكائية العربية القديمة. فحين يبدأ راوي الحكاية بالقول : (كان أو ما كان)، فإن هذه العبارة التي افتتح بها السرد تعني قولـه للقارىء المتلقّي: (إن الأحداث التي سأسردها عليك حدثت في الماضي أو لم تحدث). وكأن هذا السارد بدأ سرده بتشكيك المتلقّي بوقوع الأحداث .وهذا التشكيك هو سبيل السارد إلى إقناع المتلقّي بأنه ليس مؤلّف هذه الأحداث، ومن ثَمَّ فهو غير مسؤول عن صحتها لأنه مجرد راو لها. وفي إحالة الأحداث إلى الماضي فائدة أخرى للسارد، هي منحه حريّة السرد، لأن المتلقّي لا يعرف هذا الماضي، ولا يستطيع إنكار ما يسرده الراوي عليه. ولهذا السبب لم تختلف دلالة العبارة الحكائية العربية الأخرى : (في قديم الزمان وسالف العصر …). فهي تعني أن سارد الحكاية يقول لمن يستمع إليه، من بداية السرد، إنني سأروي لك شيئاً حدث في الزمن الماضي، وعليك أن تفهم الأحداث المروية في ضوء هذا الماضي، ولا تمتدّ بها إلى الحاضر. والراوي، بتلك الإحالـة الصريحة إلى الماضي ،يتنصَّل من مسؤولية ابتداع الأحداث، ويفوز بحريّة السرد حين يعلن أنه مجرد وسيط بين الأحداث والمتلقّي.‏

هل يختلف عمل سلطان بن محمّد القاسميّ عن دلالات العبارات الحكائية؟. لا أعتقد ذلك. فقد كتب مقدمة توازي العبارة الحكائية العربية القديمة، وقال فيها للقارىء المتلقّي : (انتبه قبل القراءة إلى أن الأحداث التي ستقرؤها بعد فراغك من المقدمة هي أحداث حقيقية، لم أبتدعها لك، بل اكتفيتُ بنقلها إليك من كتب التاريخ إلى الصفحات القابلة). وهو يعزّز مهمة الوسيط بين كتب التاريخ والقارىء المتلقي حين يدوِّن بعد العبارة السابقة ما يلي : (إن كل ما جاء فيها من أحداث وأسماء شخصيات ومواقع موثّقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي). فهذه العبارة الجديدة تُعزّز قوله السابق للقارىء المتلقي إن القصة التي سأسردها عليك حقيقية، وتضيف إلى هذا التعزيز شيئاً آخر، هو النص على مصدر الأحداث المسرودة. ذلك لأن القول إن هـذه الأحداث موثّقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي يعني أن سلطان بن محمّد القاسمي يبيّن لقارئه أن السماع ليس مصدر الأحداث المسرودة، بل التدوين هو مصدرها. وهناك فارق بين السماع والتدوين، فالسماع لا يوحي بالثقة، في حين يوحي التدوين بالثقة، لأن القارىء قادر على الرجوع إلى الكتب التاريخيـة للتأكـد من صحة المسرود. ولاشكّ في أن هدف سلطان بن محمّد القاسمي ليس دفع القارىء إلى كتب التاريخ ليتأكد بنفسـه من صحة الأحداث المسرودة، بل هدفه هو مجرد الحصول على ثقة القارىء بصحة المسرود. وهذه الثقة ضرورية للإمساك بتلابيب القارىء في أثناء القراءة ،بحيث لا يحيد عن الاقتناع بأن الأحداث حقيقية، وعليه أن يصدّقها على أنها شيء من تاريخ الخليج. ومن ثَمَّ كانت هناك رغبة أخرى وراء العبارة الجديدة، هي تقديم الحقيقة التاريخية في حدود المسرود في النص، بحيث يتحوّل هذا النص إلى مصدر آخر لتاريخ الخليج. وعلى الرغم من أهمية هذه الرغبة وخطرها فإنني سأؤجّل تحليلها ومناقشتها، تبعاً لارتباطها بنص الرواية وخوفاً من أن ينحرف التحليل الراهن للمقدمة عن قصده.‏

لا أظن بأن القارىء سيرجع إلى كتب التاريخ ليتأكد من صحة الأحداث المسرودة في النص. وهذا الموقف من القارىء لا علاقة له بوجود هذه الكتب التاريخيـة في مكتبـة سلطان بن محمّد القاسميّ، و هو حاكم الشّارقة ومكتبته خاصّة به وحده. أي أن عدم عودة القارىء إلى الكتب التاريخية للتأكُّد من صحة الأحداث لا يحكمها كونُ السارد في موقع المسؤولية السياسية، ولا كونُ مكتبته خاصّة به وحده وليست مكتبة عامّة يستطيع القارىء ارتيادها إذا رغب في تنفيذ التأكُّد. بل يكمن عدم العودة في شيء آخر، هو أنها عودة مستحيلة تبعاً لكون الأحداث المسرودة في النص غير مجموعة في كتاب من كتب التاريخ. ولو كانت الأحداث المسرودة في (الأمير الثائر) موجودة في أيّ كتاب من كتب التاريخ لما كانت هناك حاجة إلى أن يُتعب سلطان بن محمّد القاسميّ نفسه بنسخها ثانية، وتقديمها للقارىء ليطَّلع عليها .وعلى الرغم من أن هذا الأمر سيكون موضع تحليل لاحق، فإنني لا أستبق النتائج ولا التحليل حين أقول إن نص الرواية شيء وكتاب التاريخ شيء آخر، سواء أكان هناك كتابُ تاريخٍ يسرد ما ضمّته الرواية أم لم يكن، وسواء أكان المسرود في الرواية موجوداً في كتاب واحد من كتب التاريخ أم لم يكن.‏

أما العبارة التي تلت العبارة الثانية، وهي القول : إن الأحداث (لا يوجد بها أي نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام) فعبارة صحيحة إذا ربطناها بالأحداث وأسماء الشخصيات والمواقع، وغير صحيحة إذا ربطناها بنص الرواية بما فيه من أحداث وشخصيات ومواقع. وسأؤجّل الحديث عن جانبها غير الصحيح إلى تحليل نص الرواية، وأكتفي هنا بجانبها الصحيح .ذلك لأن سلطان بن محمّد القاسميّ لم يبتدع هذه الأحداث، ولم يُسمّ الشخصيات، ولم يُعيّن الأمكنة، بل وجد ذلك كله مبثوثاً في كتب التاريخ، فجاء به إلى الرواية، وصرَّح بذلك اعترافاً بالحق. وهذا الكلام لا يناقض ما سبق قوله في أثناء تحليل العبارتين السابقتين، ولا يمسُّه في شيء، لأن استمداد المادة التاريخية شيء، وتقديمها شيء آخر. فالمادة صحيحة تاريخياً ،والرواية التي ضمّت هذه المادة صحيحة فنيّاً لا تاريخياً .ولابدَّ من التمييز بين هذين الأمرين في أي حديث عن الرواية التاريخية، أو عن أية علاقة بين الرواية والتاريخ، فحين تبدأ الرواية ينتهي التاريخ. وإذا كان المؤرخون يتحدثون عن (التعليل التاريخي)، فإن الأدباء والنقّاد يتحدثون عن (التعليل الفنّي)، وليست هـناك إمكانية – في رأيي – لتبادل المواقع، وتوظيف الخبرات. وإذا كان سلطان بن محمّد القاسميّ يختم مقدّمته ببيان الغرض الذي يهدف إليه، وهو خدمة القارىء العربي، وتحفيزه بوساطة تقديم جزء من التاريخ إليه، فإنه يوقِّع هذه المقدّمة بالمؤلّف، ولا يوقّعها بسلطان. فهو مؤلّفٌ بين الأحداث الحقيقيـة، وليس مجرّد مقدِّم لها. وفي كلمة (المؤلِّف) تكمن بداية الجانب غير الصحيح في العبارة، فنحن أمام (رواية) و (مؤلِّف) أو روائي، ولسنا أمام مؤرِّخ وكتاب تاريخي. ومع كلمة (المؤلِّف) التي ذُيّلتْ بها المقدّمة تبدأ الرواية، وينتهي التاريخ. وهذا – أيضاً – شأن القصص والروايات الواقعية التي ظهرت في الثلاثينيات والأربعينيات، وهي تُدوِّن عبارات من نحو : من ملفات القضاء – من محاضر الشرطة … فحين كان القاص والروائي ينتهي من تدوين هذه العبارة أو تلك يبدأ يكتب قصة أو رواية ليس لها معيار غير الفن، سواء أكانت مستمدّة من ملفات القضاء أم من ملفات التاريخ.‏

لعبة الرواية، ذوبان التاريخ :‏

تبدو العلاقة بين الرواية والتاريخ شائكة أوّل وهلة، ولكنّ إنعام النظر فيها يقود إلى سؤالين أساسيين : أوّلهما سؤال التخييل، وثانيهما سؤال الحقيقـة. وهذان السؤالان يسيران في خطّين متوازيين، ويملكان إجابتين مختلفتين. فسؤال التخييل يستبعد سلطان بن محمّد القاسميّ، ويضع الروائي (المؤلِّف الذي وقَّع المقدّمة) بدلاً منه. والمراد، هنا، أن سلطان بن محمّد القاسميّ لبس لبوس الروائي من اللحظة التي رضي فيها باستعمال الشكل الروائي في تقديم المادة التاريخية الخاصة بالأمير مهنا. وهذا الشكل الروائي شكلٌ تخييلي إبداعي، يُقدِّم حقيقة فنية احتمالية، تُعبِّر عن صدقها الفني بأساليبها الثلاثة المعروفة : الإمتاع والإقناع والتأثير، وهي وسائل أسلوبية كما هو معروف في النقد الأدبي. أما سؤال التاريخ فيستدعي أن يلبس سلطان بن محمّد القاسميّ لبوساً آخر، هو لبوس المؤرِّخ. وهذا اللبوس يفرض الأمانة العلمية في تقديم الحقيقة الموضوعية، وسرداً مباشراً لا أثر للتخييل فيه. وإذا كان المؤرِّخ مضطراً، أحياناً، إلى استعمال مخيّلـته في ترميم بعض الثغرات في الحقائق التاريخية، فإن مخيّلته تستند إلى سياق تاريخي، بحيث يبدو الترميم الذي تنهض به مخيّلته منسجماً والدلالات العامّة والخاصّة للمرحلة التاريخية. ومن ثَمَّ تبدو مخيّلته مقيَّدة وليست مطلقة كما هي حال مخيّلة الروائي.‏

هكذا تبدو العلاقة بين الرواية والتاريخ علاقة بين حقيقتين فنية وموضوعية. وهاتان الحقيقتان لا تجتمعان مادامت كلٌّ منهما تسير في خطٍّ موازٍ للآخر. وترجمة ذلك بالنسبة إلى روايـة الأمير الثائر هي : إذا لبس سلطان بن محمّد القاسميّ لبوس الروائي فالواجب الأدبي يحتم عليه أن ينصاع لمرجعية الرواية، وهي التخييل. والتخييل في أبسط صوره هو ابتداع مجتمع روائي ذي حوادث وشخصيات وعلاقات في زمن معيَّن ومكان محدَّد. وإذا لبس سلطان بن محمّـد القاسميّ لبوس المؤرِّخ الراغب في تقديم حوادث فترة زمنية برز فيها الأمير مهنا، وكان له تأثير فيها، فالواجب التاريخي يفرض عليه أن ينصاع لمرجعية التاريخ، وهي الحقيقة الموضوعية للواقع الذي يؤرِّخ له. ولا أعتقد بأن هناك إمكانية للجمع بين اللبوسين، والإخلاص لمرجعيتهما، فالتاريخ تاريخ، والروايـة رواية، ولا مجال للإبقاء على نقاء عنصريهما دون جور على أحدهما.‏

والمشكلة في هذه النتيجة التي تبدو لي دقيقة هي أننا لا نستطيع – إذا آمنا بها وصدَّقناها – أن نُصنِّف رواية (الأمير الثائر) بين الروايات التاريخية، على الرغم من أن رائحة التاريخ تفوح منها، وتُشكِّل بنيتها، شأنها في ذلك شأن سلسلة الروايات الممتدّة من جرجي زيدان إلى أمين المعلوف. بل إن المشكلة في هذه النتيجة تبدو أكثر خطورة في عالم النقد الأدبي، لأنها تقول صراحة إنه ليس هناك رواية تاريخية، وإن المفهوم السائد لهذه الرواية يطرح إشكالات لا حلَّ لها. وما فعله المعترضون على كتابة جرجي زيدان سلسلة روايات (تاريخ العرب والإسلام) لا يخرج عن اللجوء إلى المرجعية التاريخية، وملاحظة اختلافها كليّاً أو جزئيّاً عمّا ورد في بعض الروايات، ما سمح لهم بالحكم على هـذه الروايات بمخالفة التاريخ، والإساءة أحياناً إلى العرب والإسلام. ومَنْ يرجع إلى الأعمال الكاملة لزكي الأرسوزي في المواضع التي تحدَّث فيها عن لواء اسكندرون في نهايات الثلاثينيات سيكتشف شيئاً مغايراً لما سجَّله حنا مينة في روايته (بقايا صور). ولا يختلف الأمر إذا لجأنا إلى المرجعية التاريخية في النظر إلى روايـات نجيـب محفـوظ التاريخيـة : عبث الأقدار (1939) – رادوبيس (1943) – كفاح طيبة (1944)، أو الروايات التاريخية لنجيب الكيلاني (قاتل حمزة /1971 مثلاً)، ومحمّد فريد أبو حديد (زنوبيا ملكة تدمر /1941 – صلاح الدين الأيوبي /1946 – أبو الفوارس عنترة /1947)، وكرم ملحم كرم (لويس الرابع عشر /1936 – صقر قريش /1948 – أبو جعفر المنصور /1954)، ومعروف الأرنـاؤوط(18)، وعلي الجارم(19) ، وعلي أحمد باكثير(20)، وغيرهم. وهذا كله يدفعنا إلى القول إن الإبقاء على مفهوم المرجعيتين المختلفتين، أو الخطّين المتوازيين، سيحافظ على الإشكالية، ويرسِّخ مفهوماً غير سليم للرواية التاريخية، ويدفع القرّاء إلى الاعتقاد بأن التاريخ انتقل إلى الرواية، وبأنه هدف في الرواية التاريخية، وبأن الرواية مجرّد وسيلة لبلوغ هذا الهدف. وفي ذلك إهانة للرواية، وإساءة للتاريخ، واستمرار للخلل في مفهوم الرواية التاريخية.‏

تبدو نتيجة المشكلة التي عددتُها دقيقة منطقيّةً من وجهـة نظر الخطّين المتوازيين والمرجعيّتين المختلفتين، فإذا نفينا المرجعية التاريخية، وأبقينا المرجعية الروائية وحدها، بدت المشكلة زائفة، وزال الخلل عن مفهوم الرواية التاريخية. ولاشكّ في أن الإبقاء على المرجعية الروائية وحدها يطرح قضية الحدود، حدود الرواية وحدود التاريخ، مادامت المادة الروائية تاريخية وليست مادة مختلقة. وأفضِّل، ههنا، استعمال عبارة: لعبة الرواية، ذوبان التاريخ ؛ لأنها – في رأيي – دالة على قضية الحدود، مفسِّرة لها، عاملة على ترسيخ معيار نقدي للرواية التاريخية في ألوانها كلها.‏

2 – 1 : يلاحظ قارىء رواية (الأمير الثائر) أن المادة التاريخية الخاصة بالأمير مهنا مسرودة سرداً واضحاً مباشراً .وهذا الشكل من السرد الواضح المباشر لون من ألوان الرواية التاريخية، وليس تاريخاً للأمير مهنا. ذلك لأن خمس عشرة سنة من حياة مهنا، أمير بندر الرق، اختُزلتْ في مائة صفحة تقريباً(21). وهذا الاختزال ليس تلخيصاً، بل هو تبئير(22). إذ إن الراوي (النائب عن الروائي داخل نصّ الرواية) لم يلاحق حياة الأمير مهنا من جوانبها كلها، بل اكتفى بحياته السياسية – العسكرية، وهي حياة تُبْرز نزوعه العربي، ورغبته في الاستقلال عن الفرس وحلفائهم الأتراك، ومصالحهم التجارية مع الهولنديين والانكليز. ومن ثَمَّ كانت هناك متابعة متلاحقة طوال الرواية لمحاولات الأمير مهنا السيطرة على التجارة في الخليج، ومحاربته الفرس، ومقاومته النفوذ التجاري للهولنديين، حتى تمكَّن الباشا التركي في بغداد من شنقـه ، وإرسال رأسه إلى (كريم خان زند) حاكم الفرس. ولو لم يكن هناك تبئير لما اختار الراوي طريقة تقديم الحوادث في الرواية، ولما انتقى المعلومات التي رسّخت وجهة نظره في النزوع العربي عند الأمير مهنا. ولا بأس في أن نمتدّ إلى خارج التبئير لنثبت التبئير نفسه.‏

أشار الراوي إشارات سريعة إلى أمور تخصّ الأمير مهنا، أبرزها : مقتل والده ووالدته ووفاة ابنته. فقد غضب الأمير مهنا حين علم بأن والده ناصر، أمير بندر الرق، سيشارك في الحملة على البصرة. وكان يعلم أن شباب المنتفق الذين تسربلوا بالنـزوع العربي، وبينهم صديقه الشيخ ثامر، سيضطرون إلى الدفاع عن البصرة، ومواجهة والده. ولهذا السبب حاول منع والده من المشاركة في الحملة بالقوة، فاستلَّ سيفه كما استلَّ أبوه سيفه، وحين وقع سيف الأمير مهنا على الأرض إثر ضربة من سيف أبيه، وتظاهر أبوه بأنه سيهوي بسيفه على ولده، طعن أحد أتباع الأمير مهنا الأمير ناصر والد مهنا في خاصرته، فخرَّ صريعاً. وشاهدت والدة الأمير مهنا الحدث، فدفعها ابنها إلى المنـزل ليبعدها عن المشهد فاصطدم رأسها بحجر، وماتت(23) . أما ابنة الأمير مهنا الوحيدة، حديثـة الولادة، فقد نسيتها أمها على الرمال عندما دهمت المكان مجموعة من رجال الأمير حسين أخي الأمير مهنا، (وقد اتُّهـم الأمير بأنه تركها هناك متعمداً لأنه أراد ولداً بدلاً من البنت)(24). هذه الإشارات الثلاث إلى مقتل والد مهنا ووالدته وابنته الوحيدة، تكملها إشارة رابعة إلى أن الأمير مهنا قتل أخاه الأمير حسين الذي تولّى إمارة بندر الرق بعد أبيه، وتبع أسلوبه في التحالف مع الفرس والهولنديين والانكليز. كما قتل الأمير مهنا أيضاً، في أثناء هجومـه على منـزل أخيه حسين، بعضاً من أقاربه وأتباعه وحرّاسه(25).‏

تحتاج هذه الإشارات، في نصّ الرواية، إلى متابعة لمعرفة أثرها في شخصية الأمير مهنا ؛ لأنها أحداث جسام في أسرته، مرتبطة به، مؤثِّرة في سلوكه. ولكن الراوي لم يلتفت إليها بغير الإشارات العابرة، ولم يسع إلى توظيفها في بناء شخصية مهنا، وفي ترسيخ صورته الروائية لدى أتباعه وأعدائه. والأحداث نفسها – من جانب آخر – جزء مهم من التاريخ الحقيقي للأمير مهنا. فهل يعني ذلك أن الراوي اختار بعضاً من التاريخ ولم يختر التاريخ كله ؟. إن التبئير هو زاوية تقديم الحوادث التي اختيرت من جانب دون آخر من التاريخ. فالأحداث الأسرية الجسيمة غير مرغوب فيها، لأن الراوي يريد التركيز على الجانب السياسي – العسكري في منطقة الخليج، وعلى اللمعـة العربية التي بزغت في وسط التهافت الأجنبي التجاري على المنطقة، وضعف السيطرة الفارسية والتركية عليها. ولهذا السبب اكتفى الراوي بإشارات سريعة عابرة إلى الحوادث الأسرية، وراح يتابع أحداثاً أخرى سياسية – عسكرية تُجسِّد التركيز وتُعلنه. وهذا كله يعني أن تاريخ الأمير مهنا ومنطقة الخليج خلال خمس عشرة سنة لم ينتقل كله إلى الرواية، بل انتقل بعضه إليها. وحين انتقل هذا (البعض) اختير جانبه السياسي – العسكري وحده وسُلِّط الضوء الروائي عليه انصياعاً لرغبة الراوي، وكأن التاريخ يذوب ويصير في الرواية تاريخياً تبعاً للعبة الروائية التي تنصاع لرغبة الروائي ويجسّدها الراوي.‏

2 – 2 : إن التاريخ غير التاريخيّ(26). التاريخ أحداث تـمّت في الماضي، وشخصيات حقيقية نهضت بهذه الأحداث وأصبحت عنواناً عليها. أما التاريخيّ فهو أحداث اختيرت من التاريخ حسب تبئير الروائي، ووظِّفت في الرواية تجسيداً لغرض روائي ماض أو راهن أو مستقبلي. بل إن الأحداث التي اختيرت من التاريخ حسب تبئير الروائي لم تُنْسخ من كتب التاريخ، ولم تنتقل إلى الرواية بقضّها وقضيضها، بل قام الروائي بتفكيكها وإعادة تركيبها بما يلائم الغرض الذي يرمي إليه، أو بحسب دواعي التخييل إذا أردنا الدقة في التعبير النقدي. وتبعاً لذلك نفينا المرجعية التاريخية وحافظنا على المرجعية الروائية ؛ لأننا لا نملك خطّين متوازيين، أو مرجعيتين مختلفتين، بل‏

نملك مرجعيـة واحدة، هي المرجعية الروائية التي يُشكِّل التخييل عمودها الفقري(27).‏

أما الهيكل الخارجي لهذا التخييل فيتشبَّث بالإيهام، إيهام القارىء بأنه يقرأ تأريخاً حقيقياً. ووسيلة هذا الإيهام حوادث وشخصيات تاريخية حقيقية، ينثرها الراوي بشكلها ومضمونها، أو بمضمونها وحده في الغالب الأعم. ومن ثَمَّ يصعب أحياناً، ويستحيل غالباً، أن يطابق القارىء بين ما ورد في كتب التاريخ وما ورد في الرواية. فالتاريخي في الرواية يؤخذ بدلالاته العامة ورؤياه وقيمه، والتاريخ يؤخذ بحقيقته الموضوعية وزمنه. التاريخي في الرواية احتمالي فني، والتاريخ خارج الرواية حقيقي موضوعي. ومن ثَمَّ فالرواية لا تنوب عن التاريخ، ولا ينوب التاريخ عن الرواية، لأنهما حقلان مختلفان، جمالي ومعرفي. بل إن التاريخ لا يُسْتَقى من الرواية ؛ لأنها نصّ فنيّ يطرح رؤيا ولا ينسخ معرفة. فالنـزوع العربي لدى الأمير مهنا لا نصَّ عليه في تاريخـه الحقيقي كما أعتقد، ولكن مجمل سلوكه في أي تعليل تاريخي ينم على هذا النـزوع. وقد التقط الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ هذا النـزوع ضمن اهتمامه بالتعليل التاريخي لسلوك الأمير مهنا، ورغب في تسليط الضوء عليه لأن ظروف منطقة الخليج في الحاضر واحتمالات المستقبل لا تختلف عن الظروف التي عاش فيها الأمير مهنا. وهذه الظروف تحتاج إلى نزوع عربي أصيل يتمرّد على محاولات الهيمنة الغربية والإقليمية كما تمرَّد الأمير مهنا في القرن الثامن عشر.‏

وإذا كانت تلك رؤيا رواية (الأمير الثائر)، فإن الروائي سلطان بن‏

محمّد القاسميّ لم يترك أمر استنباطها لذكاء القارىء، بل راح ينصّ عليها صراحة(28)، ويُدوِّن في عنوان الرواية كلمة معاصرة دالة، هي : (الثائر)، لتأكيدها في وجدان القارىء قبل دخوله الرواية. وإذا افترضنا بأن تاريخ الأمير مهنا ينصّ على نزوعه العربي، فإن أمر الرؤيا لا يختلف لأن الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ رغب في التركيز على شيء في تاريخ هذا الرجل يخدم الحاضر والمستقبل، ولم يكن راغباً بأية حال من الأحوال في نسخ تاريخ هذا الرجل، أو نقله من كتب التاريخ إلى الرواية. ومن ثَمَّ فإن رواية (الأمير الثائر) رواية تاريخية، تُقدِّم رؤيا فنيّة تخصّ الحاضر والمستقبل، ولكنها تتوسّل إلى هذه الرؤيا باعتماد شيء من تاريخ منطقة الخليج العربي، تراه أكثر فاعليّة في وجدانات القرّاء من كتب التاريخ نفسها. وما قدَّمته الرواية مما يخدم الرؤيا المذكورة هو حدود التاريخ، أو هو التاريخي في الرواية بعد ذوبان التاريخ الحقيقي وانصياعه للعبة التخييل الروائية. وسواء أكان هناك تاريخ مكتوب للأمير مهنا أم كان هذا التاريخ مبثوثاً في تضاعيف كتب التاريخ الخاصة بمنطقة الخليج، فإن رواية (الأمير الثائر) تكتب هذا التاريخ بأسلوبها، وتطرحه برؤياها، وتعدّه التاريخ الفنيّ للأمير مهنا.‏

2 – 3 : إن الرواية التاريخية ليست تاريخاً، ولكنها تتعامل مع التاريخ. وهذا التعامل يفرض عليها حدوداً، هي قيود لها، لا تعرفها الرواية الفنية. أوّل هذه الحدود والقيود أن تبقى الرواية مخلصة لطبيعتها الفنيّة ولا تتحوّل إلى كتاب من كتب التاريخ، وثانيـها أن تستعير من التاريخ دون أن تحوِّر فيه، وثالثها أن تنتقي من التاريخ دون أن تتلاعب بسياقه وحقائقه ودلالاته. ولا أظنّ بأن الأمور الثلاثة السابقة كافية وحدها لترسيخ مفهوم دقيق للرواية التاريخية. ذلك لأن الروائيين يملكون إمكانات كثيرة للاستعارة من التاريخ الحقيقي دون أن يخرجوا عن الأمور الثلاثة. وكلّ إمكانية تطرح أمام القارىء لوناً من ألوان الرواية التاريخية، بحيث تبرز الحاجة إلى نوع من تقنين هذه الألوان، وتحويلها إلى معيار يُقاس به اللون أو درجته في الرواية التاريخية. فرواية (الأمير الثائر) لسلطان بن محمّد القاسميّ مختلفة عن رواية (أرض البطولات) لعبد الرحمن الباشا، وعن رواية (حسن جبل) لفارس زرزور، وعن رواية (خطط الغيطاني) لجمال الغيطاني، على الرغم من أن هذه الروايات كلها روايات تاريخية. وهذه السلسلة من الروايات التاريخية المختلفة عن رواية الأمير الثائر مقترنة بسلسلة أخرى من الروايات التاريخية تتفق مع رواية الأمير الثائر، كروايات نجيب محفوظ ومحمّد فريد أبو حديد ونجيب الكيلاني وكرم ملحم كرم ومعروف الأرناؤوط وعلي الجارم وعلي أحمد باكثير .فما معيار الاتفاق والاختلاف الذي يسمح للمحلّل والقارىء بالتمييز بين كل لون منها مادامت كلها تنتمي إلى دوحة واحدة، هي دوحة الرواية التاريخية ؟.‏

يبدو لي أن الروائيين مختلفون أو متفقون بحسب قدراتهم الفنية وعلاقتهم بالمادة التاريخية وموقفهم من الحاضر :‏

أ – علاقة الروائيين بالمادة التاريخية :‏

تحدَّثتُ، سابقاً، عن علاقة الروائي بالمادة التاريخية، ويمكنني أن أضيف هنا كثافة الحضور التاريخي في الرواية أو توسُّطه أو ضعفه. فكلما ارتفعت نسبة المادة التاريخية اضطر الروائي إلى التقيُّد بالأحداث الحقيقية والشخصيات والأمكنة والأزمنة، وضعفت في الوقت نفسه قدرته التخييلية الروائية. وهذا ما فعله سلطان بن محمّد القاسميّ وجرجي زيدان ومعروف الأرناؤوط، إذ قدَّموا المادة التاريخية واضحة مباشرة، وجعلوها تشمل نصوصهم الروائية، وقيَّدوا أنفسهم بالأحداث والشخصيات والأمكنة والأزمنة. ومن ثَمَّ كان سلطان بن محمّد القاسميّ – على سبيل التمثيل لا الحصر – مضطراً إلى تحديد السنوات كلما تقدَّمت الأحداث في روايته، من نحو قوله : (في بداية سنة 1753 – الخامس من يوليو 1754 – الحادي عشر من ديسمبر سنة 1754 – مارس من سنة 1755 – يونيو 1755 – 8 يونيو 1756 – اكتوبر سنة 1756 – نوفمبر سنة 1756 – يناير 1757 – نهاية سنة 1758 – منتصف 1761 – السادس من أبريل سنة 1762 – نهاية سنة 1762 – فبراير 1763 – منتصف 1763 – في الثلاثين من ديسمبر 1764 …)(29). وعلى الرغم من أن هذا التحديد للسنوات والأشهر والأيام يُذكِّرنا بكتب التاريخ التي رصفت مادتها بحسب السنوات، فإنه في الرواية تعبير عن التقيُّد بالأحداث الخارجية، والالتزام بالأمانة العلمية، والدقة في استخدامها، دون أن يكون الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ مجبراً على التقيُّد والالتزام ؛ لأنه روائي في (الأمير الثائر) وليس مؤرِّخاً.‏

يمكنني القول، بعد ذلك، إن الالتزام الدقيق بأحداث التاريخ الحقيقية، وشخصياته، وأمكنته وزمانه يشير إلى لون من ألوان الرواية التاريخية ذي معيار محدَّد هو الالتزام والأمانة والدقة في التعامل مع المادة التاريخية. ولا يكتمل هذا المعيار دون أن نلاحظ أثره في فنيّة الرواية، وهو أثر سلبي غالباً، لأن تغليب الحقيقي سيضيّق الخناق على المتخيَّل، فلا يترك له فرصة ابتداع الأحداث والأزمنة والأمكنة والشخصيات الرئيسة (على أقل تقدير). وإذا استُلَّتْ هذه العناصر الفنيـة من التخييل فلن يبقى غير الهيكل العام للرواية، وهو تقسيم النص إلى فصول، والإفادة من الفراغات (البياض) بين الفصول للقفز الزمني والانتقال من حدث إلى آخر، وابتداع بعض الشخصيات الثانوية والهامشية. وهذه كلها أمور مشتركة بين الروائيين الذين يغلِّبون الحقيقي على المتخيَّل. وعلى الرغم من ذلك فإن هؤلاء الروائيين سيقدّمون ألواناً متباينة من الرواية التاريخية. ويرجع سبب تباينهم إلى أمرين يُعبِّران عن قدراتهم الفنيّة، هما : التبئير واللغة الروائية.‏

ب – قدرات الروائيين الفنيّة :‏

إذا اختارت مجموعة من الروائيين الأحداث نفسها فمن المتوقَّع أن يُقدِّمها كلُّ واحد منهم من منظور أو وجهة نظر أو تبئير مختلف. وهناك على الأقل ثلاث درجات للتبئير(30)، هي اللاتبئير (أو : التبئير في درجة الصفر)، والتبئير الخارجي، والتبئير الداخلي. ففي اللاتبئير يكون الراوي أكثر علماً من الشخصيات، وفي الخارجي أقل علماً منها، وفي الداخلي مساوياً لما تعلمه. فإذا كان الروائيون يختلفون بحسب التبئير الذي اختاروه فإنهم يختلفون أيضاً حين يختارون تبئيراً من هذه التبئيرات. ففي اللاتبئير الذي اختاره الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ تقديم للأحداث تقديماً تصاعدياً، يبدأ بمقدّمة تُعرِّف بالموقع الجغرافي والزمني والاقتصادي والتاريخي السياسي لبندر الرق، وبأسرة الأمير مهنا، ثم تترك الأحداث تتوالى إلى قتل الأمير مهنا في آخر صفحات الرواية. ولكن فارس زرزور الذي اختار التبئير نفسه في رواية (حسن جبل)، وكان لديه تغليب للحقيقي على المتخيَّل، قدَّم الأحداث بعد زمن نهايتها، ثم استدعاها شيئاً فشيئاً. ولهذا السبب يلاحظ قارىء روايته ورواية (الأمير الثائر) أنه أمام روايتين تاريخيتين مختلفتين من زاوية تقديم الحوادث. وهما مختلفتان أيضاً في اللغة الروائية، لغة السرد بمكوّناته كلها. فلكلٍّ منهما قدرة على السرد تنبع من موهبتهما وتمرُّسهما في الكتابة. وليس هناك شكّ في أن الحوادث المبأَّرة تُقدَّم بوساطة السرد، وترتفع بالإمتاع، أو تنخفض فيه، بحسب قدرة الروائي السرديـة، سواء أكان يصف أم يُصوِّر أم يعرض الحوادث أم ينمِّي الشخصيات أم يخترق الأمكنة، وما إلى ذلك مما لا سبيل إلى تفصيله في هذا المقام.‏

ج – موقف الروائيين من الحاضر :‏

يرغب الروائي أحياناً في الالتزام بالمادة التاريخية وتغليب الحقيقي على المتخيَّل، ولكنه يُقدِّم الحوادث تقديماً يضمن له إبراز الرؤيا التي يريدها كما فعل سلطان بن محمّد القاسميّ. وقـد يلتزم روائي آخر بالمادة التاريخية وتغليب الحقيقي على المتخيَّل ولكنه لا يملك رؤيا، كما هـي حال فارس زرزور في (حسن جبل)، فتبدو روايته مختلفة عن سابقتها. وإذا كانت الرؤيا تعبيراً عن موقف، فالموقف نفسه متباين بين الماضي والحاضر والمستقبل. وقد يلجأ الروائيون في أثناء تعبيرهم عن مواقفهم إلى أمور أخرى إضافة إلى ما سبق الحديث عنه. فمنهم مَنْ يُبْقي المادة التاريخية بمضمونها وهيكلها الخارجي، ولكنه يُقدِّمها بوساطة منظور يضمن إيحاءها بالحاضر، كما فعل الغيطاني في خططه. ومنهم مَنْ يهمل التاريخ الرسمي، ويلتفت إلى حركة المجتمع في الماضي، أو حركة (الذين تحت) بحسب تعبير جورج لوكاتش(31) ، ليُعبِّر عن صانعي التاريخ، ويطرح رؤياهم الاجتماعية السياسية. ومنهم مَنْ يلتزم بالمادة التاريخية دون أن يُغلِّب الحقيقي على المتخيَّل، أو المتخيَّل على الحقيقي، بغية تقديم رؤيا تخصّ الماضي وحده، كما فعل نجيب محفوظ في (رادوبيس). وقد يغلِّب الروائي المتخيَّل على الحقيقي، فيذوب التاريخ، ويبرز الفنّ ومعه رؤيا تخصّ الحاضر وحده دون المستقبل، كما فعل نجيب محفوظ في الثلاثية والقاهرة الجديدة، وعبد الرحمن الباشا في (أرض البطولات). وهذا كله يُعلي من شأن الرؤيا، ويُقرِّبها من درجة المعيار المعبِّر عن موقف الروائي مما يرويه.‏

**‏

تلك، في رأيي، الملامح العامـة لمنظور الراوي ومنظـور الروائي. الأول فنيّ داخليّ ذو معرفة مطلقة، والثاني خارجيّ يبحث عن علاقة الرواية بالتاريخ. وقد آثرتُ الحديث عن هذين المنظورين دون الخوض في الموازنة الدقيقة بين النصوص الروائية، رغبة في تقديم الإطار العام لقضايا هذين المنظورين. وقد انتهيتُ من محاولتي إلى الاعتقاد بأن التحليل النقدي يجب أن يميِّز بين ألوانٍ من الرواية التاريخية، ويضع لكلّ لونٍ منها معياراً وصفياً يكفل التمييز، ويعين على التحليل، ويوضِّح الموقف، ويُعرّي الوظيفة. كما انتهيتُ إلى أن الروايـة التاريخية تحافظ على قدرتها التخييلية، أو تتنازل عن بعضها، بحسب المادة التاريخية التي استعارتها من التاريخ، وتبعاً لتقيُّدها بها وتعاملها مع شكلها ومضمونها. كما سعيتُ، استناداً إلى رواية (الأمير الثائر)، إلى تقديم نموذج لتحليل مقدّمة الرواية، ولتجسيد العلاقة بين الرواية والتاريخ. ونبَّهتُ من خلال النموذج نفسه على أن الرواية التاريخية ذات مرجعية فنيّة، وأنها ليست مصدراً لمعرفة التاريخ، بل هي مصدر للرؤى الفنيّة الخاصة به. ولم تكن نتائج تحليلي رواية (الطريق إلى الشمس) تخص هيمنة الراوي المطلقة وحدها، بل كانت توضيحاً لإدراك الراوي العالم الروائيّ وطبيعة تدخُّله في المحكيّ.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس