عرض مشاركة واحدة
قديم 19 / 12 / 2009, 27 : 11 AM   رقم المشاركة : [8]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- بناء السَّرد الرّوائيّ

لا يجادل أحد في أن الرواية نصّ سرديّ، وأن السرد هو الطريقة التي يروي بها الراوي القصة للقارىء. ولكن الجدال النقديّ الخصب يكمن في تحليل طريقة الراوي في رواية القصة ؛ لأن مهارة الروائي وخصوصيّة الرواية تنبعان من الراوي المختار، ومن علاقته بما يرويه، ومن الكيفيّة التي يروي فيها الحوادث الروائيّة، ولا تنبعان من الحوادث نفسها أو من الأفكار التي تضمّها الرواية، تبعاً لتوافر إمكانيّة تقديم أفكار معيَّنة وحوادث محدَّدة بمئات الطرق، بل إن جيمس جويس قال إن : (هناك خمسة ملايين طريقة لحكي حكاية واحدة حسب الأهداف التي نقصد إليها)(1). ولا أشكُّ في أن جيمس جويس لا يقصد هذا الرقم حرفيّاً، بل يقصد الإشارة إلى الإمكانات الكبيرة المتاحة أمام الرواة لرواية حكاية واحدة، وهذا ما يجعل كل طريقة من طرق سرد الرواية تعبيراً عن القدرات الفنية للروائيّ كاتب الرواية ودلالة على تفرُّده.‏

وإذا كان الكلام السابق يُعضِّد القول إن السرد فنٌّ، فإنه لا يعارض استناد الرواة الساردين إلى تقنيات محدَّدة في بناء سردهم الروائيّ ؛ أي في تقديم عالم الرواية المتخيَّل إلى القارىء، على ألا يُعْزَى نجاح السرد إلى التقنيات ليس غير ؛ لأنها وسائل أو مبادىء عامة مُتاحة للروائيين كافّة، يختلفون في توظيفها لإحداث الأثر الجماليّ في القارىء، ويحكم النقاد على نجاحها أو إخفاقها لدى الروائيين تبعاً لنجاحهم أو إخفاقهم في توظيفها في التعبير الجماليّ عن مقاصدهم الروائيّة. وقد آثرتُ، بغية تخصيص الحديث، تحليل بناء السرد في رواية (فيّاض)(2) لخيري الذهبي، بادئاً بالراوي، منتهياً إلى مظهري السرد، عاملاً على توضيح التقنية التي تنفرد هذه الرواية بطريقة استعمالها.‏

1 – الرَّاوي والشّخصيات :‏

الرّاوي في رواية (فيّاض) راو عالم بكل شيء، أو قُلْ إنه ذو معرفة مطلقة بالحوادث والشخصيات في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفي حركتها في الزمان والمكان. ولكنه راو حياديّ غير منحاز إلى أية شخصيّة، وإن كانت شخصية فياض تستأثر باهتمامـه تبعاً لتعبيرها الضمنيّ عن القيمة الوطنيّة والقوميّة وتحولاتها المعاصرة. وتتجلّى حياديّة الراوي أيضاً في عدم تدخُّله في السرد(3)، وفي اكتفائه بمهمة الملاحظ العاكس القادر على التوسُّط بين الحدث والقارىء بوساطة ضمير الغائب.‏

أقام الراوي علاقات متباينة بشخصيات الرواية، وهي ثلاث وسبعون شخصية. اهتم بشخصيّة فياض وحدها فجعلها بؤرة السرد ومحور الحدث. أما الشخصيات الاثنتان والسبعون الأخرى فقد وظَّفها صراحةً أو ترميزاً لإضاءة أبعاد شخصيّة فياض وتحوُّل علاقتها بالفرنسيين والسلطة بعد الاستقلال، وخصوصاً شخصيّتي روجيه لوبلان وإياد الجوقدار. والواضح أن الراوي حريص على التقليد الروائيّ العريق، وهو جَعْلُ شخصية فياض واضحة أمام القارىء. أما طريقته في بناء هذه الشخصيّة الواضحة فتستند إلى ثلاثة أمور، هي تقديم شخصية فياض، ومنحها اسماً، وبيان تحوّلها.‏

ويمكنني تحليل طريقة الراوي في تقديم شخصية فياض استناداً إلى مقياسين كمّيّ ونوعيّ. إذ لجأ أول الأمر إلى نثر معلومات عنه. فهو راع كان عمره عشر سنوات حين التقطه ضابط فرنسيّ اسمه روجيه لوبلان من قلعة شيزر، وتبنّاه وعلَّمه وطوَّعه لطبيعة الحياة الفرنسيّة، فأدخله مدرسة السان جوزيف في بيروت، وأرسله بعد نيله البكالوريا (الثانويّة العامة) إلى باريس ليتلقى علومه العالية. ولم يكتف الراوي في أثناء استعماله المقياس الكمّيّ بهذه المعلومات، بل راح يُقدِّم وصفاً لهيئة فياض، فهو ذو وجه أبيض وعينين خضراوين واسعتين وشعر كستناوي(4)، خُيِّل إلى ماتيلد حين رأته أوّل مرّة أنه قادم من البلاد الاسكندنافيّة، ولكنّ روجيه أخبرها أنه شركسيّ(5). وعلى الرغم من أن الراوي قدَّم هذه المعلومات الشخصية عن فياض في افتتاحيّة الرواية، فإنه لم يُقدّمها في مكان واحد، بل جعلها منجَّمة، بحيث يتيح للقارىء المتلقّي فرصة المشاركة في جمعها ليكوِّن معرفة أوّليّة بالشخصيّة المحوريّة في الرواية .ولكنّ التراكم الكمّيّ للمعلومات المقدَّمة صراحةً عن شخصية فياض لا يؤدّي وحده إلى رؤية هذه الشخصية من جوانبها كلها، ومن ثَمَّ نحتاج إلى المقياس النّوعيّ لندقِّق في مصدر المعلومات وفي الطريقة المختارة لعرضها في السرد(6). فقد عزّز الراوي، بادىء الأمر، المعلومات الشخصية بإعادتها على لسان الشخصيات، كما هي حال عُمْر فياض حين التقطه روجيه من القلعة(7)، إذ ذكره الراوي وبعد أربعين صفحة ذكره فياض نفسه كذلك الأمر بالنسبة إلى صفات فياض الخَلْقيّة، فقد ذكرها كما رآها روجيه(8)، وبعد أربع وعشرين صفحة ذكرها الراوي نفسه ثانية(9)، وترك حسيبة بعد تسعين ومائتي صفحة تذكرها ثالثة(10). وهذا التكرار يؤكِّد الصفات الخَلْقيّة لدى القارىء، وهي صفات خارجيّة توحي بانتماء صاحبها إلى الأجانب لا العرب. ولكنها، أيضاً، تساعد الراوي على التّدرُّج في عرض شخصية فياض، بالانتقال من شكلها الخارجيّ إلى دخيلتها، ومن العامّ إلى الخاصّ في علاقاتها بالحوادث الروائيّة. وقد اتضح ذلك من خلال التركيز في البداية على أن فياضاً يأكل بهدوء كالفرنسيين(11)، ويتحلى بسلوكهم، ويتزيّا بزيّهم، ويتقمَّص أفكارهم. والفرنسيون، في الرواية، مختَزَلون في شخصية روجيه الذي تبنّى فياضاً وحاول أن يُشكِّله على مثاله، ولكنه اكتشف أنه خلق شخصاً ضعيفاً يخاف من منظر الدماء بدلاً من أن يخلق شخصاً قوياً يساعده على تحقيق حلم أجداده الصليبيين : (يا إلهي، أي فتى صنعت. لا. ليس هذا ما أريد)(12). لقد خلـق إنساناً لطيفاً لا يعرف من حاضره غير العادات والتقاليد الفرنسيّة، ومن ماضيه غير قلعة شيزر، ما جعل إياداً يسألـه مراراً: (أأنت سوري حقاً)(13)، ويخاطبه في أخريات الرواية قائلاً: (ربما كانت مشكلتكَ الحقيقيّة أنكَ لم تعايش أباكَ معايشة حقيقيّة ليربيكَ على قيمه ونظرته إلى العالم والناس والحياة. وحين انتزعكَ روجيه من عالمكَ الشيزريّ ليجعل من نفسه أباً لكَ يحمّلك قيمه ونظرته إلى الحياة انفصلت عنه رافضاً قيمه دون أن تستطيع العودة إلى قيم أبيك الشيزري. والأنكى من‏

هذا كله أنك لم تستطع تشكيل قيم معاصرة خاصة بك بعيداً عن الكتب والتاريخ)(14).‏

لقد خلق روجيه إنساناً ضعيفاً لا تجربة لديه، وحين اضطر في حفل التعارف الذي أقامه الطلبة في الجامعة لإلقاء كلمة يُعرِّف فيها بموطنه لجأ إلى الخيال، وقدَّم لزملائه الطلاب عالماً لا يمت إلى الحقيقة بصلة، عالماً يسوده الغزو وخطف النساء، ما جعل زميلاته يتهافتن عليه حباً بهذا العالم الغريب. لقد اضطر إلى إلقاء كلمة في الحفل ولم يستطع الرفض لأنه غير قادر بحسب تكوينه على أن يقول (لا) كما وصفته حسيبة بعد ذلك. وللسبب نفسه اعتنق رأي روجيه في أن الثُّوَّار مجرد أشقياء، وانصاع كثيراً للحب الذي أغدقته ماتيلد عليه. ولم يكن ذلك كله غير محاولة من الراوي لزيادة الوضوح في شخصية فياض الروائية ؛ وهو وضوح ينتقل بتدرُّج من مظهر فياض إلى علاقاته الروائيّة، وتبدو خلال ذلك الصلة العضوية بين صفاته الشخصية والحوادث الروائية. فليس له، وهو الذي لا يعرف وطنه، غير الخيال يبني به وطناً يُرضي مستمعيه. وليس له، وهو الشاب الجميل، من فخر غير تهافت النساء عليه. والظن أن التدرُّج الذي وفَّره المقياس النوعيّ أسهم في جعل شخصية فياض واضحة، ومهَّد لتحوُّلها بطريقة التدرُّج نفسها.‏

شرع فياض يتحوَّل حين تعرَّف إياداً في باريس. فقد اكتشف إياد براءة فياض وسذاجته ومعرفته بأسامـة بن منقذ والحروب الصليبيّة، وجهله التام بما يجري في سورية(15)، حتى إنه شكَّ في كونه سوريّاً. ولكنه لازمه، ودعاه إلى حفل أقامته رابطة الطلاب السوريين، وتجاهل رغبته في العزلة، وراح يناقشه في الثورة السورية على الفرنسيين، ويعرض على مسامعه أسماء الثوّار ومسوِّغات الثورة، وجعله يواجه السؤال الحاسم : من أنتَ ؟، ذلك السؤال الذي حيَّر فياضاً ودفعـه إلى البحث عن إجابة. ولم يتركه إياد، بل حفزه إلى السفر إلى الوطن ليعرفه معرفة حقيقيّة(16)، وصحبه في رحلته إلى سورية، وقاده إلى مقهى النًّوْفرة ليسمع الحكواتي يروي سيرة الملك الظاهر والمقدَّم معروف وابنه عرنوس، وزار معه المساجد والأحياء الشعبيّة، ساعياً من وراء ذلك كله إلى تعريفه بهويته الوطنيّة والتاريخيّة، وزجِّه في أتونها. ولم يكن فيّاض بعيداً عن التفاعل مع محاولات إياد. إذ بدأ يكتم أمر روجيه وماتيلد عن إياد. وحين قبل، بعد ذلك، فكرة صنع لغم وتفجيره في طريق إحدى الدوريات الفرنسيّة، اشترط أن يضمن ابتعاد روجيه عن مكان الدَّوريّة. وشيئاً فشيئاً بدأ فياض يشعر بانفصاله عن روجيه، حتى إذا جاء الكرنفال تزيّا بزيّ أسامة وهو يعرف أن روجيه سيتزيّا بالزِّيّ نفسه، وهذا الأمر أعلن انفصاله التام عنه والتحاقه بهويته الوطنيّة وتاريخ بلاده. ههنا اكتمل تحوُّل فياض من غير أن تنتهي حكايته، فقد تابع طريقه كاتباً في جريدة الصرخة، ومُنْشئاً جريدة خاصة بالاشتراك مع إياد، وهارباً من اتهامه بقتل الشهبندر، ومشاركاً في حرب فلسطين، ويائساً من استقلاله الهشّ، منعزلاً عن أسرته التي كوَّنها في أثناء اختبائه، عاكفاً على تدوين مذكراته.‏

إن شخصية فياض هي بؤرة السرد، ولهذا السبب عُني الراوي بتقديمها للقارىء المتلقّي، وجهد في توضيح ماضيها وحاضرها ومآلها إلى العزلة بعد تجربة مريرة طويلة. ولم يكرِّر هذه العناية حين قدَّم الشخصيات الأخرى، وعددها اثنتان وسبعون شخصية، انطلاقاً من أن هذه الشخصيات موظَّفة للتدقيق في أبعاد شخصية فياض، وليس لها كيان روائيّ مستقلّ. ولا شكَّ في أن تصنيف هذه الشخصيات يُحدِّد المجال الذي تحرَّكتْ فيه شخصيّة فياض :‏

أ – الشخصيات الأجنبيّة / الحاضر‏

روجيه لوبلان – رومل – هتلر – ماتيلد – ايفون – صوفي – مادلين – مدام توماسيني – إبراهام ليفي‏

ب – الشخصيات الأجنبيّة / الماضي‏

غليام لوبلان – أندرونيكوس – بوهمند – طوروس الأرمني – فيليبا – هيلينية – ثيودورا – دسبينا – ستيلا.‏

ج – الشخصيات العربيّة : الحاضر‏

حسيبة – زينب – مريم – أم إياد – أم منير – أم سعيد – وداد – نجدت – إياد – حسن – عبد الله – علي – مصطفى – حمدان الجوقدار – صياح المسدي – الشيخ عبد العزيز – أبو مسعود – أبو محمود – عبد الكريم الجوقدار – منصور الأحمد – سعيد – أبو كاعود الفوّال – حاج سعدو – وحيد بك – صلاح بك – عبد الرحمن الشهبندر – خليل بك – نبيل حمدان – [عز الدين ] القسّام – سعيـد العاص – نسيب البكري – سمعان – أبو منير – أبو سعيد – الشيخ عبد الكريم – الشيخ يوسف – رشيد عالي الكيلاني – عبد المجيد.‏

د – الشخصيات العربيّة / الماضي‏

صلاح الدين الأيوبي – نور الدين – هارون الرشيد – أسامة بن منقذ – سلطان – مسعود الكردي – ثابت – معين الدين – الغسياني – محمد علي.‏

هـ – الشخصيات العربيّة / السِّيَر الشَّعبيّة‏

السُّندباد – إبراهيم الحورانيّ – جمال الدّين شيحة – معروف – عرنوس.‏

يشير التصنيف السابق إلى أن الراوي دفع فياضاً إلى أن يُقيم علاقات معرفيّة ثقافية أو اجتماعيّة بشخصيات أجنبيّة من الحاضر والماضي، ، وأخرى عربيّة من الحاضر والماضي والسِّير الشعبية، بغية الإشارة بشكل مباشر إلى خمسة أبعاد متقابلة في شخصية فياض، هي :‏

- الشخصيات الأجنبية في الحاضر (ويمثلها روجيه لوبلان من الرجال وماتيلد من النساء) تقابل الشخصيات العربية في الحاضر (ويمثلها إياد من الرجال وزينب من النساء).‏

- الشخصيات الأجنبية في الماضي (ويمثلها أندرونيكوس) تقابل الشخصيات العربية من الماضي (ويمثلها أسامة بن منقذ).‏

- الشخصيات الأجنبية في الماضي (ويمثلها غليام لوبلان) تقابل الشخصيات العربية الرسمية (أسامة بن منقذ) والشعبية (يمثلها عرنوس).‏

يُخيَّل إليَّ أن حركة السرد كانت تهدف إلى بيان مآل الأبعاد الخمسة في شخصية فياض. فقد وضَّحت في البداية أن روجيه لوبلان (الممثِّل للاحتلال الفرنسي لسورية) حفيد غليام لوبلان (الممثّل للحروب الصليبيّة). ولكنها وضعت أسامة بن منقذ نقيضاً لغليام، ودافعاً له إلى مغادرة بلاد الشام خائباً. كما وضعت إياداً نقيضاً لروجيه ودافعاً له إلى مغادرة سورية بعد نجاحه في شدِّ فياض إلى العمل الوطنيّ. وقد أُعجب فياض بعرنوس ؛ لأنه البطل الشعبي المقابل للبطل الرسميّ أسامة بن منقذ، واستمرَّ معجباً به طوال الرواية. ولكنه أُعجب في البداية بإياد ثم انفضَّ عنه لأنه لم يره ممثِّلاً لأحلامه في استقلال الوطن. وفي المقابل أُعجب أسامة بن منقذ بأندرونيكوس لأنه رآه ينتقد الصليبيين ويعزف عن مشاركتهم في أعمالهم، وبقي معجباً به طوال حياته، ولكنه انتهى إلى العزلة والكتابة كما انتهى منتقد الحروب الصليبيّة أندرونيكوس إلى العزلة والكتابة. ويشير مآل فياض إلى العزلة والكتابة إلى أن التاريخ يكرِّر نفسه، فيجد النقيُّ المخلصُ لوطنه نفسه وحيداً في كهولته، لا يملك شيئاً غير التعبير عن سخطه بكتابة مذكِّراته. وقد جسَّد السرد هذا الأمر بإبعاده غليام لوبلان فروجيه فإياد، ومحافظته على أسامة وأندرونيكوس وفياض إلى نهاية الرواية.‏

على أن تصنيف الشخصيات يشير إلى أمر آخر، هو أن الفعاليّة الروائيّة مقصورة على الرجال. فماتيلد تابعة لروجيه، وزينب تابعة لفياض، وثيودورا تابعة لأندرونيكوس. ويمكن أن يتضح ذلك على نحو أكثر جلاءً إذا حلّلنا الأسماء الشخصيّة. ذلك أن الأسماء محكومـة باختيار الراوي، سواء أكانت متخيَّلة أم تاريخيّة، ولهذا الاختيار دلالات معيَّنة يحسن التنبيه عليها. وحين نُدقِّق في اختيار الراوي أسماء شخصيات الرواية نلاحظ استناده إلى المبادىء العامة الآتية :‏

أ – الحرص على تسمية الشخصيات الأجنبية المتخيَّلة بأسماء أجنبيّة : روجيه – ماتيلد – ايفون …‏

ب – الحرص على قرن الاسم بنسبة تزيده وضوحاً إذا كانت الشخصيـة مدار اهتمام الراوي : روجيه لوبلان – إياد الجوقدار – فياض الشيرازي – منصور الأحمد …‏

ج – إبقاء الاسم من غير نسبة إذا كانت الشخصية عارضة : نجدت – زينب – ماتيلد – ثيودورا …‏

ولو دقَّقنا في اختيار الأسماء الشخصية العربية لاكتشفنا ميل الراوي إلى الاختيار من أسماء الرسل والصحابة والتابعين (يوسف – إبراهيم – زينب – مريم – علي – حسن – سعيد)، ومن التقليد العربي الإسلاميّ القاضي بأن خير الأسماء ما عُبِّدَ وحُمِّدَ (محمد علي – عبد الرحمن – عبد الكريم – عبد المجيد – عبد الله)، أو أُضيف إلى (الدين) كصلاح الدين ونور الدين ومعين الدين وجمال الدين، أو المستمدّ من الصفات بإسقاط (ال) كمصطفى وخليل بدلاً من : المصطفى والخليل، أو من القبائل العربيّـة (إياد) أو من الأسماء المنسوبـة إلى قبائل وأشخاص (الكردي – الأيوبي – البكري)، أو من المهن (الفوّال). وقد يتخلّى الراوي عن إطلاق اسم شخصي على الشخصية الروائيّة مكتفياً بالكنية (أبو مسعود – أبو محمود – أم إياد – أم منير)، أو يجعل الاسم مسبوقاً بصفة تشير إلى المكانة الدينيّة، أو لاحقة تشير إلى المكانة الاجتماعيّة (الشيخ يوسف – الشيخ عبد الكريم – صلاح بك – وحيد بك). واللافت للنظر أن تُقدِّم الاختيارات السابقة دلالة واحدة، هي سيطرة الماضي على الحاضر. ذلك أن الأسماء والنِّسب مختارة من الماضي، وليست بينها أسماء لم تعرفها الثقافة العربيّة. فهل عكس الراوي استمرار الثقافة العربيّة القديمة حيّةً من خلال اختياره الأسماء الشخصية ؟. إن اختيار الأسماء النِّسَويّة يؤكِّد هذه الدّلالة. فالشخصية النّسويّة في روايـة (فياض) تحمل اسماً أحياناً (حسيـبة – زينب – مريم)، ولكنّ اسمها لا يُقرن بنسبة. كما أنها في الغالب الأعمّ تُسمَّى بكنيتها (أم منير – أم إياد – أم سعيد)، وكأنَّ الراوي يعتقد أن هذه الكنية كافية لوضوح الشخصية النسوية، ولا يدري أن ذلك امتداد للأعراف التقليديّة القاضية بعدم التصريح بأسماء النساء.‏

2 – الرّاوي وحركة الشَّخصيّات :‏

الراوي في رواية (فياض) عالم بكل شيء، فهو يتنقَّل بين الشخصيات بحرّيّة راصداً أحاسيسها وأفكارها وأقوالها وأعمالها وحركتها في المكان والزمان وعلاقتها بالحوادث الروائيّة. وهذا الراوي المعروف جيِّداً في الرواية الواقعيّة يبدو هنا ميالاً إلى أن يكون عاكساً لما تظهره الشخصيات من أقوال وأعمال أكثر من ميله إلى ردود أفعالها الداخليّة عليها. يشير إلى ذلك العدد المحدود من الأفعال التي تنمّ على معرفة الراوي بدخيلة الشخصيات قياساً إلى ضخامـة الرواية. فهناك نحوٌ من ثلاثين فعلاً في (486 صفحـة من القطع الكبير). والكثرة الكاثرة من هذه الأفعال ورد مرة واحدة في الرواية ليس غير، وما تكرَّر في الرواية أكثر من ثلاث مرات لا يجاوز ستة أفعال، هي على التوالي : فكَّر – تذكَّر – تمنّى – سمع – أحسَّ – تمتم. وهذا العدد الضئيل من الأفعال التي تشير إلى دخيلة الشخصيات هو الدليل على أن رؤية الراوي لشخصياته خارجيّة أساساً، وأن الرؤية الداخليّة شيء مكمِّل للرؤية الخارجيّة وليست هدفاً للراوي. كما أن الأفعال نفسها موزَّعة على شخصيات الرواية وليست خاصة بشخصية فياض، وهذا يشير إلى أن معرفة القارىء بدخيلة كل شخصية على حدة ضئيلة لا تعينه على تصوُّر طبيعتها الداخليّة وردود أفعالها على الحوادث الروائيّة.‏

يدلّ تشبُّث الراوي بالرؤية الخارجيّة على أنه راغب في الانصراف إلى سرد علاقة الشخصيات بالحوادث الروائيّة. ومن ثَمَّ لم يقتصر على علاقة فياض بهذه الحوادث، بل شملت رؤيته الخارجية الشخصيات الأساسيّة كلّها، وخصوصاً روجيه وماتيلد وإياد ونجدت وحسيبة. كما أنه لم يجعل معرفته أكبر من معرفة الشخصيات أو أصغر منها، بل جعلها مساوية لها أو ما يُسمَّى بالرؤية (مع)، ليتمكَّن من أداء مهمّة الملاحظ العاكس. وما هو أكثر أهمية من ذلك كله أنه لم ينحز إلى أية شخصية، بل ترك كل شخصية تُعبِّر عن وجهة نظرها وأفكارها من غير أن يُعلِّق عليها أو يتدخَّل لتفسيرها وتوضيحها. وهذا الأمر هو الذي سمح بوصف رواية (فياض) بأنها روايـة متعدِّدة الأصوات (ديالوجية) وليست رواية صوت واحد (منولوجيّة) كما يتبادر إلى الذهن أوّل الأمر من تسمية الرواية باسم (فياض). ولا شكَّ في أن حياديّة الراوي لا تنفي اهتمامه بفياض وتعاطفه معه. فالاهتمام يتضح من انطلاق الحوادث من فياض ودورانها حولـه ومآلها إليه. والتعاطف بادٍ من العناية بتقديم شخصية فياض وبيان تحوّلها والتذكير طوال الرواية بمستقبلها. وإذا كان تعدُّد الأصوات يشير إلى المنظور التعبيريّ للراوي، فإن تعاطفه الضمنيّ مع قيم فياض يشير إلى منظوره الأيديولوجيّ.‏

يمكنني استناداً إلى ما سبق تحديد علاقة الراوي بما رواه من خلال مظهرين أو حركتين للسرد، أوّلهما الترتيب الزَّمنيّ للحوادث الروائيّة، وثانيهما حركة السرد من حيث السرعة والبطء. وقد آثرتُ الحديث عن هاتين الحركتين لأنهما تُقدِّمان تصوُّراً كليّاً للسرد في رواية (فياض)، وهو الشيء الرئيس في شكل التعبير فيها، فضلاً عن أنه يسمح بتحليل عدد من التقنيات الفنيّة التي استعملها في بناء علاقته بما رواه.‏

أ – التّرتيب الزّمنيّ للحوادث الرّوائيّة :‏

من المفيد أن نتذكَّر، هنا، مصطلحين معروفين في نقد السرد الروائي، هما زمن الحكاية(17) وزمن السرد. يُراد بالأول الترتيب الزمني الطبيعيّ المنطقيّ للحوادث الروائيّة، ويُراد بالثاني الترتيب الزمني الذي قدَّمه السرد لهذه الحوادث. والمعروف أن الروائيـين يلجؤون، في الغالب الأعمّ، إلى بثِّ إشارات زمنيّة في نصوصهم تساعد القارىء المتلقّي على إعادة ترتيب الحوادث ليتمكَّن مـن فهمها والتواصل معها. والواضح أن خيري الذهبي جعل عُمْرَ فياض إشاراتٍ زمنيّةً. إذ التقطه روجيه من قلعة شيزر وعمره عشر سنوات، وانتهت الرواية بفياض كهلاً منعزلاً في البادرائيّة. وقد جرت الحوادث الروائية بين هذين الحدّين، أو قُلْ إن زمن الحكاية بدأ بالتقاط روجيه فياضاً من قلعة شيزر، وانتهى بعزلة فياض في البادرائيّة كهلاً. أي أن التقاط فياض هو الحدث الأول في زمن الحكاية، وأن عزلته في البادرائيّة هي الحدث الثالث عشر. وبين هذين الحدثين توالت الحوادث متسلسلة على النحو الآتي :‏

- الحدث الثاني : تربية فياض وإدخاله السان جوزيف في بيروت، وزيارته مع روجيه قلعة شيزر (هناك إشارة زمنية يمكن استنتاجها تنص على أن عمر فياض في أثناء الزيارة تسعة عشر عاماً).‏

- الحدث الثالث : زيارة روجيه وفياض منـزل نجدت، وسفر فياض إلى باريس بعد نيله البكالوريا (يمكن الاستنتاج بأن عُمْر فياض عشرون عاماً).‏

- الحدث الرابع : ما فعله فياض في باريس (حفل التعارف)، ولقاؤه إياداً، ومتابعته تحصيل العلم إلى الصف الجامعيّ الثالث.‏

- الحدث الخامس : زيارة فياض دمشق أول مرة بعد سفره إلى باريس صحبة إياد، ونزهاته مع ماتيلد. 0 هناك إشارة زمنيّة صريحة إلى أن عُمْر فياض ثلاثة وعشرون عاماً).‏

- الحدث السادس : جولات فياض وإياد في أحياء دمشق ومقهى النوفرة والبستان.‏

- الحدث السابع : إعداد اللّغم وتفجيره وما يتعلّق بذلك.‏

- الحدث الثامن : اكتشاف أمر فياض وإياد وسجنهما.‏

- الحدث التاسع : انتهاء علاقة فياض بروجيه وماتيلد، وعودتهما إلى باريس.‏

- الحدث العاشر : كتابة فياض في جريدة الصرخة، وتأسيسه جريدة خاصة به.‏

- الحدث الحادي عشر : اختفاء فياض في منـزل حسيبة بعد حرق الجريدة واتهامه بقتل الشهبندر، وزواجه من زينب.‏

- الحدث الثاني عشر : مشاركة فياض ومنصور الأحمد في حرب فلسطين، وما تلاها من سجن.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس