22 / 12 / 2009, 28 : 09 PM
|
رقم المشاركة : [7]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق
في فضاء سحيق شاسع وجدتني أحلِّق إلى جواره ـ وربما ملاك آخر غيره من يدريني ـ مواكباً له بين نجوم تتلألأ باهرة الضياء، ذات أحجام كبيرة. ثم تظلم الآفاق من حولنا حيناً وتضيء حيناً بنورٍ طاغٍ. نعبر ركاماً من ضباب كثيف في فضاء مطلق،وأنفاقاً هائلة الأعماق ننتهي منها إلى آفاق رحيبة. جزر كأنها معلقة في الفضاء المطلق، ذات ألوان غريبة، منها زرق لازوردية تشع بريقاً يأخذ بالألباب، ومنها جزر خضر شفيفة، وأكثرها بيضاء تبرق كحجارة ماسية تخطف الأبصار. بغتة تظهر أعداد من البشر أنَّى نظرت. ألا ما أكثرهم.. لكنهم يبدون على بعد يخفي هيآتهم ولا تنجلي لعينيَّ ملامحهم. الملاك الذي يحملني يتوقف أمام بوابات ضخمة فاحمة اللون. فتحت إحداها بإيماءة منه، فكان لها زفير كهزيم الرعد، تهب
من جهتها ريح تلفح الوجه سخونتها. نيران مستعرة تتصاعد ألسنتها وبخارها إلى ما لا نهاية في فراغ بغير حدود، وعواصف نيرانية سوداء تكتسح الفضاء تعلو وتهبط كأن لها شهيقاً وزفيراً. كائنات غريبة الأشكال والألوان، قميئة كالحة الوجوه، مرآها يثير الهول والفزع، مخلوقات تبدو كأن لها أشكالاً بشرية تستنجد وتستغيث، تضرع بالدعاء، وما من منجدٍ أو مغيث. رثيت لأحوالهم. هممت بسؤاله عنهم. غير أنه بادرني بقوله، وكأنما قرأ أفكاري قبل أن أنطق بها: إنهم يلقون جزاء ما قدمت أيديهم، وما حملت قلوبهم في حياتهم الدنيا. وسيلبثون فيها أحقاباً.
تحيط بهم من كل اتجاه كائنات ضخمة غريبة الهيئة تبدو عليها غلظة وشدة. وقبل أن أبدي تساؤلي المتردد في ذهني بادرني يقول: هؤلاء ملائكة موكَّلون بساكني جهنم. هذا عملهم. عالم شاسع أكبر من دنياكم بما لا يقاس. فريق منهم جاءتهم رسلهم ابتغاء هدايتهم، بيد أنهم أصمُّوا آذانهم ولم يستجيبوا للنداء. بل هم خاصموا من سعوا إلى خلاصهم، ثم حاربوهم جهاراً نهاراً، واستكبروا استكباراً حتى انتهى بهم الأمر إلى قتل الأنبياء والرسل، قابلوا الخير بالشر والتسامح بالعدوان. وفريق من هؤلاء ابتغوا الفتنة في الأرض، واقترفوا من الموبقات في حياتهم الدنيا ما لا يغفره الله لهم؛ فهم مخلَّدون في عذابهم هذا أبداً. تراءى لي أن بينهم من عرفت. أصوات تهتف بي ما الذي جاء بك أنت الآخر؟ ويلك عد من حيث أتيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. ولكنك إذا ما حللت بيننا فلن تضيرنا ولسوف نبتهج لانضمامك إلينا. قد تحكي لنا حكايتك، بعض ما أخفيت عمن حولك هناك. هنا ينكشف الغطاء يا هذا وتبدو الحقائق عارية كما هي فالأبصار حادة كاشفة. لا ننتظر خلاصنا على يديك حتى لو كنت من الصالحين فلا شفاعة إلا لمن يأذن الله ويرضى، ولا يبدو أنك منهم. لن تستطيع فعل شيء من أجلنا للخروج من هذا الجحيم المقيم.. حيث لا طعام إلا من غسلين ولا شراب إلا من ماء كالمهل يشوي الوجوهبئس الشراب هنا وساءت هذه مرتفقاً.
أسمع أصواتهم الصارخة المعولة آتية من بعيد كهبوب العاصفة دون أن أرى وجوههم على الرغم من محاولاتي الخائبة. خطر لي: أين هم أولئك الذين أمعنوا في ظلمهم وغيّتهم فأنفقوا أعمارهم عاملين على إشقاء إخوة لهم من البشر، طغَوا وبغَوْاوعاثوا في الأرض فساداً..؟
لكأنه سمع تساؤلاتي الخفية برغم أني لم أنطق بكلمة. أجابني دون أن يلتفت إليّ: أولئك الذين حسبوا أن الموت نهاية المطاف وأنهم لن يبعثوا بعد أن يمسوا عظاماً وتراباً. وأنت لست مؤهلاً لأن تراهم في مكانهم ذاك الأكثر سواداً مما رأيت.
ـ أتعني أنني أستحق هذه التي أريتني للتو؟
ـ ...
أشحت بوجهي بعيداً.. ولكن أين البعيد وأين القريب؟ لم أجرؤ على مواصلة النظر. لفحتني حرارة مفاجئة هائلة، ولسعات كالجمر في حلقي وأماكن أخرى من جسدي. صحت به مرتاعاً.. خذني بربك بعيداً عن هذا المكان. ضحك طويلاً بصوت مرعد، ثم بصوت أهدأ طمأنني إلى أنني هنا لمجرد الاطلاع. ولم تفته الإشارة إلى أنه لا يضمن لي ألا أغدو واحداً من هؤلاء فيما بعد إذا لم يكن لديَّ من الحسنات ما يرجح كفَّتي ويضمن لي من ثم أن أظل بعيداً عنها، ذلك أن مسألة مصيري ومنتهاي ليست من اختصاصه، فبادرته بسؤالي:
ـ شأن من إذن..؟
ـ شأن الملائكة ذوي الاختصاص.
ـ وهل الملائكة فئات وكوادر لكل منها اختصاص..؟
ـ ماذا تحسب..؟ أليس غريباً ألا يكون الأمر كذلك؟ إليك اختصاصي وهو غير اختصاص أخي جبريل.. أو أخي ميكائيل.. غير اختصاص خزنة النار وهؤلاء غير أولئك الموكلَّين بأهل الجنة وقبل هؤلاء وأولئك حملة العرش. نعم لكل ملك وظيفة يقوم بها.
قلت ملحفاً في الرجاء:
ـ هل لك أن تقدم لي عوناً لدى المختصين من الملائكة في شأني لكي يرأفوا بشخصي الضعيف الذي ترى فلا أردُ هذا المورد المفجع..!! أتحسبني أطيق صبراً على النار؟
ـ لا توسط ولا وساطة هنا. وأنتم الذين بأيديكم توردون أنفسكم موارد التهلكة أو موارد النجاة. أنتم تصنعون مصائركم بأنفسكم، فكل امرئ على نفسه بصير. من يحسن منكم فلنفسه ومن يسيء فعليها. المسألة يا هذا بأيديكم باستثناء مسائل القضاء والقدر. ولقد ترك لكم الخيار في حياتكم الدنيا في التصرف بعقولكم وقلوبكم التي وهبكم إياها بارئكم. ما من شيء مما عهدت في دنياك الفانية له أن يسري ها هنا.. هذا مكان مختلف وقوانين الدنيا غير قوانين الآخرة. كم مرة عليَّ أن أنبهك إلى هذا..!؟
اجتاحتني عاصفة من الرعب أكثر من ذي قبل. حلَّ بي إحباط قاتل. وقبل أن أغرق في حالة انعدام الوزن هذه ألفيتني وعلى حين غرَّة، أسبح في الفضاء قرب جناحه. سماء رحبة مترامية الأطراف شاسعة بلا آفاق.. فراغ مطلق بغير أبعاد مكانية كالتي نعرف. فراغ لا نهائي، وأنوار ذات ألوان باهرة متماوجة في حركة دائبة تبادلية كعروض تخطف الأبصار وتأخذ بالألباب.
يمتد بصري إلى أجواء بعيدة سحيقة وهي قريبة في الآن ذاته. تلك مباني غريبة الهندسة في أشكالها، متناثرة على مسافات متباعدة، بيض وزرق وخضر وألوان أخرى غريبة، تكتنفها أشجار ملونة باسقة وارفة الظلال، سامقة لا ترى نهاياتها، تجري من تحتها أنهار يترقرق ماؤها متلألئاً.. يتطاير رذاذه في الفضاء ينشر عطراً ندياً عبقاً.. وهنا مواقع أخرى ذات نور خفيف واهٍ شفيف يحيط بمدى الرؤية فلا هو ضوء الشمس ولا هو نور القمر.. وهناك أناس يظهرون بغتة في ظلال أشجار كالغابات وعلى شرفات تتبدى أشكالها المهيبة، والأنوار الهادئة التي تضيؤها تأخذ بالألباب، أحس أني اقترب منهم. مشرقة وجوههم بالنور، تلتمع البهجة في أعينهم. لكأني ببعضهم ينظر إليَّ مستبشراً. يشيرون إليَّ بالاقتراب أكثر. أحاول.. أهمُّ بالانطلاق نحوهم.. إلا أن شيئاً ما يمنعني.. حركتي مكبَّلة، تشدها قوة خفية. يدفعني شوق جارف لملاقاتهم لكني لا أبرح حيث أنا عند جناحه. يسخر الملاك من محاولاتي الفاشلة. لا بدَّ أنه حدس ما في ذهني كما كان يفعل طوال الوقت.. وكأني أسمعه دون صوت في أذني: لن تستطيع.. لن تستطيع.. لسوف يتبين فيما بعد إن كنت جديراً بهذا المقام..!
أمعن النظر حولي مشدوهاً مذهولاً.. مشاهد ساحرة باهرة تشدني إليها قوة جذب غريبة. تجذب وتصدّ في الوقت عينه. أنهار وجداول تترقرق بين ضفافها سوائل لا أتبين ما هي. يتناول منها بعض ساكني المقصورات الباديات كالخيام، فيما هم يقتعدون الضفاف في آنية لامعة لها بريق أخَّاذ، كأنها من ذهب ومن فضة وغير ذلك مما لا عهد لي به ويعجزني وصفه. لمحت بينهم أصدقاء قدامى أعرف أنهم غادروا دنيانا، ولكن ها هم أولاء أحياء نضرة وجوههم، موفورو الصحة، ناعمو البال كما يتراءى لي. إشارة الملاك بالمرصاد كما هي دائماً.. تسمِّرني في مكاني حيث أنا منه لا يغفل عني هنيهة. حدَّق بي مليّاً متأملاً حالتي المنذهلة قبل أن يقول:
ـ هذه إحدى الجنان. وهؤلاء أهلها الذين استحقوها عن جدارة جزاء ما قدمت أيديهم من خير، وما حفلت به قلوبهم من إيمان ومحبة لإخوتهم في الإنسانية. بلى هذا ما كسبت أيديهم في الحياة الدنيا.
قلت في ضراعة:
ـ ربِّ اجعلني واحداً منهم واحشرني في زمرتهم.
ـ لعل الله أن يجيب دعاءك. لسوف ترى موقعك المقدَّر لك في وقته والله أعلم.
قلت متشبثاً بالأمل والرجاء:
ـ لقد فعلت غير قليل من الخير في حياتي أنا الآخر. كما أنني أحجمت عن اقتراف الكثير من الموبقات والابتعاد عن مواطن الشر والأذى ما وسعني ذلك. كانت هناك عوامل إغراء شديدة، وكان في وسعي أن أستجيب لها، بيد أني لم أفعل إلا ما ندر.. أصدقك القول..! ألا يكفي هذا لكي أسلك في عداد هؤلاء المتبوئين مقاعدهم هذه من الجنة..!؟
حدجني بنظرة مستريبة، مما حدا بي إلى أن أضيف موضحاً:
ـ لا أزعم أني كنت ملاكاً أمشي على الأرض فلقد وُجدت في زمن فيه من عناصر الغواية والضلال ما يفتن العقول ويثير الغرائز. يكفي أن أذكر منها السينما الملونة وشاشات التلفاز والإنترنت والملاهي والمقاصف والمرابع والشواطئ العامرة تعرض الألوان الزاهية على الأجساد الفارهة. ناهيك عن النوادي الحافلة بكل مثير.. ومسابقات الجميلات الكاسيات العاريات.. وأشياء أخرى لا يحصيها عدّ. أنتم دونما ريب أدرى بها مني فأنا لا أرى إلا نزراً يسيراً من حولي فيما أنتم تحيط رؤاكم سائر أرجاء دنيانا. أغوتني هذه أحياناً ولكني لم أنغمس فيها إلى الحد الذي يجعل مني أسيراً لها كما حدث لغيري من خلق الله.
رشقني بنظرة حادة تومئ بالتأنيب الشديد:
ـ هكذا إذن، ثم تطمع في الجنة..!؟ يالك من مراوغ..!
ـ كنت كالقابض على جمر. ثم إن الله غفور رحيم يا سيدي. بل إن الله يغفر الذنوب جميعاً..
ـ قل لمن يشاء..
ـ أرجو أن أكون واحداً ممن يشاء لهم الغفران.
نظرة صارمة أخرى حدجني بها قبل أن يقول:
ـ على أية حال لسوف يتبين أمرك جليّاً يوم الحساب الوشيك. تأتي يومئذ حاملاً كتابك بإحدى يديك.. وتشهد عليك آنئذ أعضاؤك ذاتها.. كل شيء بميزان قسط. حتى حواسيبكم على دقتها التي تثير اندهاشكم ليست بمثل دقته، وأنَّى لها أن تكون..؟ ما قمت به في دنياك سوف تراه هنا دونما زيادة عليه أو نقصان فيه. فإن خفَّت موازينك تلقى في هاوية، كتلك التي أريتك وإن ثقلت موازينك بالحسنات فأنت في جنة عالية، في عيشة راضية كهذه التي ترى.
ـ لقد أثلجت صدري أثلج الله صدرك وأحسن الله إليك في الدنيا والآخرة.
لكأنما يضحك لسذاجتي فيقول:
ـ حتى الكلام تحفظونه قوالب جاهزة، ثم ترددونها بغير تدبر. نحن لا دنيا لنا. نحن من عالم الغيب الذي لا تدركونه أبداً، إذ أنتم لا تملكون من الوسائل والملكات ما يؤهلكم لاختراق حجب الغيب، إذ هي قاصرة تصلح لشؤون دنياكم ولا تتعدَّاها.انتماؤنا للسماوات السبع الحافلة بأسرار لا حدود لها خفية عليكم لا تنكشف لكم إلا غبَّ انتقال أرواحكم إليها إثر خلاصها من أجسادها الترابية.
ما أعجب هذا.. ترى كيف يعرف عنا دقائقحياتنا الدنيوية فضلاً عما يحيط بنا من أسرار لا ندركها على نحو ما يقول؟ وكما ألفت منه.. يحدس ما في نفسي فيبادرني قائلاً:
ـ ألم أخبرك من قبل بأن أجساد البشر تمتلك هالات من أشعة أثيرية كونية خفية، لا تُحسُّ ولا تُرى، تجهلون كنهها فضلاً عن وجودها. تلك الهالة هي الرقيب العتيد الذي لا يخطئ ولا يحيد. ألا ما أكثر ما تجهلون من أسرار الكون سواء منها ما كان في الدنيا أو ما سيكون بعد الموت. وأنتم برغم ذلك تتيهون في الأرض كبراً وخيلاء، مع أن واحدكم يدري أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً. بل ما أكثر ما تأخذكم العزَّةُ بالإثم، فتعمدون إلى المكابرة حتى عندما يتبين لكم الحق وتطلَّعون على أي قدر من الغفلة تنطوي عليه ذواتكم.
لكي أدفع عن نفسي التهمة التي قد تفضي بي إلى جهنم، صحت جزعاً:
ـ ولكني لست كذلك وأيم الله.
ـ أعرف هذا وإلا لما كان لي أن آتي بك إلى هذا المكان لكي ترى. يبدو لي أنك لست على ذلك القدر من السوء.
ـ ولكنك مضيت بي إلى جهنم في البدء..
ـ إنك لمحظوظ حقاً إذ أتيح لك أن تراها رأي العين. فلعلك من أهل الخير. هذه مسألة مؤجلة. على أية حال لا سبيل إلى الجزم في شأنها الساعة.
شوق طاغٍ يهيج بي لرؤية أبويّ. أمي التي قضت نحبها في حالة مخاض عند ولادة توأمين. وأبي الذي مضى شهيداً دفاعاً عن المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. عن بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. وقبل أن أعلن عن رغبتي ما راعني إلا أن أراهما في مواجهتي.. قريبين مني.. بعيدين عني في الآن ذاته.. يقتربان ويبتعدان في موجات متتالية. على كتفي أمي طائران يخفقان بأجنحتهما. في بياض الثلج أراهما حيناً، وفي خضرة شجرة لوز ربيعية حيناً. هممت أن أهتف بأعلى صوتي في لوعة جارفة. إلا أن صوتي لم يغادر حنجرتي التي أحسُّ بها وقد زايلها الاحتراق الذي حلَّ بها من قبل.
ها هما يبتعدان.. ليطلا من شرفة زرقاء لقصر باذخ. طفقا يرمقانني بنظرات حانية مشفقة. غير أن البشر يعلو وجهيهما الرائعي الجمال. أذهلتني الأنوار المتلألئة في شرفات القصر ومن حوله، وقد حفَّت به أشجار عالية زرق من فوقه ومن كل جانب. جدرانه لامعة كالماس الأزرق الشفيف يُري ما وراءه من أفق لازوردي. صامتان لا ينطقان بشيء وإن كانت نظراتهما الحانية تلامس جسدي. أحسست كأن أبي يربت على جبيني فيما يد أمي تمسح صدري. ثم خلتهما، أو كأني سمعتهما يقولان لي، دون أن تتحرك شفاههما:
ـ لا عليك يا بني. عافاك الله. هداك ورعاك. لا تتوان عن صنع الخير ما استطعت إليه سبيلاً كي تنضم إلينا فيما بعد. نلقاك هنا وليس بعيداً عنا في مكان آخر نعيذك بالله منه. نحن لسنا أمواتاً.. نحن أحياء عند ربنا يأتينا رزقنا رغداً.. لا يشحُّ ولا ينضب. وأي رزق لو تعلمون. أما الزمن فلا شأن لنا به هنا. الزمن مواقيت لعالمكم هو حسبان لأهل الدنيا، لكي يعرفوا الفصول وعدد السنين والحساب، الأعمار والمواسم. لا حاجة لشيء من هذا لدينا. نحن لا نخشى موتاً ولا فناءً. خلود سرمدي في نعيم مقيم. اختفيا فجأة كما ظهرا في البداية. أيُّ نوع من الأحاسيس تغمرني.. أبكي.. أبكي.. غير أن ما أرى من حولي في الآفاق الرحيبة سرعان ما يصرفني عن البكاء. يا إلهي ما من شيء أرى يشبه شيئاً أعرفه. ترى في أي جنة سأكون؟ أفي هذه لدن والديّ؟ إذا كان لي أن أختار فلسوف أختار البقاء معهما..!
لقد عرف فيم فكرت فبادرني:
ـ لتعلم أنك إذا ما زحزحت عن النار فقد فزت فوزاً عظيماً، إذ أنك ستدخل الجنة عندئذ.
ـ وهل هذه الجنات كلها مخصصة لأهل الأرض..؟ حدجني بنظرة استخفاف ليقول وكأنه يخاطبني على قدر عقلي:
ـ تحسبون أنكم وحيدون في الكون العظيم. لكأنه خلق من أجلكم وحدكم. ألا تعلم أن كرتكم الأرضية وأنتم مَنْ على ظهرها لا تمثلون أكثر من قطرة في بحر، وأن الكون لا يني عن التمدد والتوسع في كل آن دونما توقف. قل لي أنت. هل ترى أن هذه المجرات التي تشاهد في كبد السماء وما تحوي كل منها من نجوم وشموس وما يدور حولها من كواكب وتوابع تخلو من الحياة والأحياء؟ أيعقل أن تكون جزيرتك الصغيرة وحدها عامرة بالفصيلة العاقلة التي أنت منها، ومَنْ يزاملكم على ظهرها من الكائنات الأخرى من حيوانات وطيور وأشجار وأسماك في البر والبحر والفضاء؟ أتحسب أن الكون العظيم كله قفر يباب؟ أتحسبه خالياً إلا منكم؟ ألا ما أضيق آفاقكم المعرفية.. بيد أنكم لم تؤتَوْا من العلم إلا قليلاً..
ـ عذراً سيدي عما أقيم عليه من جهل بليغ..!
ـ لا بأس.. لا بأس.. أعرف أن عقولكم قاصرة عن إدراك ما في الكون من حقائق..ستمكثون في غياهب الجهل بها ما لبثتم على ظهر ذلك الكوكب.
ـ إذن نحن معذورون إن لم تتسع مداركنا لاستيعاب الكون وإن عجزت قدراتنا الذاتية عن إدراك ما أشرت إليه. لكن مراصدنا العظيمة كشفت لنا أبعاداً سحيقة في الكون المحيط بنا.
ـ لم تكشف لكم مراصدكم المضحكة إلا عن جانب غاية في الصغر والضآلة من الكون لا يعدو قشرته السطحية. بيد أن ما خفي عليكم أعظم بما لا تتسع له مدارككم.
ـ ولماذا لا نستطيع الاتصال بتلك الخلائق إن كانت موجودة في أماكن مأهولة من الكون العظيم؟ أم ترى أن ذلك محظور علينا لأسباب لا ندركها؟
ـ إنها إرادة الله، لحكمة يراها اقتضت ذلك..ولا تنس الأبعاد السحيقة بينكم وبين أيٍّ منها.
ـ وهل حياتهم في الكواكب الأخرى كحياتنا هذه؟.. وهل يشبهوننا في خَلْقهم وممارساتهم ومصائرهم..؟ هل بينهم متعلمون وجهلة؟ فقراء وأغنياء؟ سعداء وأشقياء؟ أذكياء وأغبياء؟ طيبون وأشرار؟ والأخيرون هؤلاء أهم الغالبية.. أعني السواد الأعظم كما هو الحال على ظهر كوكبنا البائس..؟
ـ تلك أسرار كونية لست مخولاً إطلاعك عليها.
ـ وهل سنبقى على جهلنا المطبق بها..؟
ـ سوف تعرفون كل شيء عقب الموت الفيزيقي. من أعجب أموركم خشيتكم العجيبةللموت.. أعني عملية الانتقال التي تنكشف لكم عندها الحجب وتنجلي الأسرار عن كون الله العظيم أمام الروح إثر انطلاقها من سجنها الجسدي. حيث لا حدود ولا قيود زمانية ولا مكانية. لعلي أخبرتك عن هذا من قبل. الموت، يا هذا، هو البوابة الوسيعة المفضية إلى العالم الآخر الأرحب الذي ما إن يلجه واحدكم حتى يعلم بكل ما لم يكن يعلم. الناس إذا ما ماتوا انتبهوا. إثر الموت يصحون من غفلتهم. ألا ترى الآن أنت أنني أقرب إليك من كل من هم حول سريرك غير أنهم لا يشعرون بوجودي؟ أما أنت فيحسبونك نائماً حيث جسدك المسجَّى أمام ناظريهم. هل يعرف أيٌّ منهم أين أنت الآن وبرفقة من..؟ هذا واحد من الأسرار التي أكشفها لك إذ أنك على مشارف الأبدية..!
أغمضت عينيّ أريحهما من وهنٍ حلَّ في سائر أنحاء جسدي، لكأن أحداً أسبلهما برفق.. ها هو ذا أمامي يسرح ببصره في الآفاق. وجدتني أقول متهيباً:
ـ إنك يا سيدي، والحق أقول، تتمتع بقدرة خارقة على الإقناع، فضلاً عن قدرتك الفائقة على إزهاق الأرواح مفرقاً وبالجملة. بل أوشك أن أقرَّ لك بأن منطقك هذا يوشك أن يلقى موقعاً من نفسي لولا أنها مسألة موت.. أعني موتي، فكيف تنتظر مني موافقةً ورضى عما تقول؟ برغم كل ما أفضت في شرحه، فإنا نتشبث، لسبب لا ندريه، بهذه الدار على نحو عجيب مع كل ما نلقى فيها من عنتٍ وضنكٍ وعناء.
ـ ويحك يا هذا.. ألم تشهد ببصيرتك ما ينتظركم هنا من رفاه ورغد ونُعمى لا مثيل لها في دنياكم الخادعة الفانية؟
ـ بلى إي وربي. ولكني أتساءل وحسب، أليس السؤال مشروعاً؟
ـ عمَّ تتساءل؟ لكأن ما ألقيته على سمعك، وما أطلعتك عليه من أسرار علوية قد ذهب أدراج الرياح برغم أنه لا رياح هنا..
ـ أتساءل يا سيدي عما إذا كان ذلك الكم الهائل من المنجزات في حقول المعرفة، وما بلغناه من شأوٍ في ميادين العلم لم يبلغ بنا محراب الحقيقة الكونية وكأنه لا يعني شيئاً. أليس هذا تهويناً من شأننا وما أنجزنا معشر البشر..؟
ـ المعرفة الحقة والحقيقة الوحيدة هنا يا هذا. ثق أنكم لم تؤتَوْا من العلم إلا قليلاً بالفعل. لتعلم أن الكثير مما تحسبونه حقائق ثابتة تلمسها أيديكم، وتبصرها أعينكم لا يعدو أن يكون وهماً وخيالاً. وما تحسبونه وهماً أو خيالاً لأن حواسكم لا تدركه قد يكون حقيقة. ألا ترى إلى الروح التي بها تحيون دنياكم فلا ترونها ولا تلمسونها ولا تدركون وجودها ومكانها في أجسادكم ذاتها هي برغم هذا الجوهر الثابت الذي يبقيكم أحياء والذي لا يفنى بالموت. ولولا أنه قيل لكم أن لكم أرواحاً لما عرفتم أن لكم أرواحاً. الروح تغادر أجسادكم لتعود الأجساد مادة من عناصر الأرض. من التراب إلى التراب تعود. تختلط بأديم الأرض فتغدو كأنها لم تكن لكم على الإطلاق. ثم تمسي طعاماً للأحياء عند اختلاطها بالتربة وإسهامها في إنبات الزرع الذي يغدو بدوره طعاماً للإنسان والحيوان وهذا الأخير يتناوله الإنسان طعاماً أيضاً. صاح خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد..!
إنها إحدى الحقائق التي أدركها أحدكم. أتذكر أولئك الذين كانوا يملأون دنياك.. كانت عامرة بهم ثم انتقلوا.. أحقيقة كانوا على الأرض أم تراهم كانوا وهماً.. أين هم الآن؟ لك أن تذكر ما مضى من حياتك أنت نفسها. لكأنك لم تعش تلك الحياة أوَ تستطيع الإمساك بلحظة مما مضى؟ أوَ تقدر أن تفرق بين حلم رأيته في منامك ذات ليلة وبين أمسية قضيتها ذات يوم في مكان ما مع الرفاق؟ دعني أحدثك، آخذاً في الحسبان صغر عقلك بطبيعة الحال.
أوشكت أن أصيح معترضاً. ولكني إيثاراً للسلامة أمسكت، خشية ورهبة فانحبس صوتي. بصعوبة بالغة وبكلمات متقطعة أحسست أنها بالكاد تخرج من حنجرتي:
ـ حسبي هذا.. ولكني برغم كل شيء لا أجدني راغباً في مغادرة عالمي الأرضي..
رد ساخراً وبحزم من يملك سلطة الحسم والجزم:
ـ ومن قال أن الأمر يتوقف على رغباتك وأهوائك فكما جئت إلى هذا العالم بغير إرادتك هكذا تغادره أيضاً وكما وجدت نفسك موجوداً سوف تجد نفسك مغادراً ولست أنت من حدَّد الزمان والمكان والنوع والشكل والجنس والانتماء والمصير وسُبل العيش على المدى..
ـ وما بالنا نحن أصحاب الشأن في المسألة؟ ألا رأي لنا في أخصِّ شؤوننا.. أجسادنا.. أرواحنا.. لكأننا غرباء عنها فيما هي نحن.. ونحن هي..
ـ هي أقداركم ولا يد لكم في القضاء والقدر.
ـ أقدارنا..!! هذه مسألة حيَّرت يا سيدي الأقدمين والآخرين وما برحت مثاراً للجدل وباعثاً على التفكر. أوجدت مدارس فلسفية وتيارات فكرية شتى..
ـ أزيدك إيضاحاً أيها المكابر ضيِّق الأفق: كان ممكناً أن تولد أنت في زمان ومكان غير هذين. ومن ثم يختلف قدرك ومصيرك باختلاف ذلك الزمان وذاك المكان. كان يمكن أن توجد في عصر الفراعنة، أو عصر الفاطميين أو السلاجقة، أو عصر هولاكو أو يوليوس قيصر، أو تجيء في المستقبل الآتي، أو ألاَّ تكون ولدت بعد لكي تحين ساعتك الآن. أما فيما يتعلق بالمكان فكان ممكناً أن تولد في فنزويلا أو موزامبيق أو في مكان ما من أدغال إفريقيا منذ قرون، فتتخذ عبداً في تجارة الرقيق. أو تولد في أوسلو فتسهم فيما يجري هناك بين الثلوج أو حتى على سطح كوكب آخر. ما من أحد إذن في وسعه اختيار مصيره، حياةً وموتاً.. سعادةً وشقاءً، ثقافة ولغة، ابن من تكون.. لأي أمة تنتمي أو أي فئة من المخلوقات إنساناً تكون أو حشرة.. نبتة أو شجرة.. صخرة أو حجراً.. هذه أقانيم الخلق. فالله هو الذي قدَّر أن تكون أنت أنت دون أيٍّ من الكائنات..
ـ إنك يا سيدي لا تفتأ تأتيني بالجديد الغريب مما يشتت ما بقي لي من عقل..
مضى يقول غير آبه لما يصدر عني:
ـ حتى أسماؤكم لم تختاروها، وما هي إلا عناوين تُلصق بكم، من قبل غيركم، على مدى حياتكم لتكون هوية لكم تُعرفون بها. أبواك أو من حولهما.. وربما القابلة من حمَّلك اسمك وليس أنت الذي فعل أو استشير. ما اسم أحدكم إلا كاللوحة على باب دكان أو واجهة سيارة للدلالة عليه. كان ممكناً لو أرادت مشيئة الله أن يكون لك غير هذين الأبوين لتعيش ظروفاً مختلفة عما أنت عليه الآن. أفضل..؟ أسوأ..؟ ما من أحد يدري. حتى صورتك التي أنت عليها كان يمكن أن تكون أكثر جمالاً أو أشد قبحاً.. أطول أو أقصر.. أسود أو أبيض ولكل حالة نتائج جوهرية مختلفة مؤثرة تؤدي دورها في سيرورة حياتك. ما من شيء إذن لك فيه رأي أو خيار.
ـ زدتني معرفة.. كما زدتني رهبة.. وتشتتاًوأيم الله..!
ـ هذه القدرية القسرية قمينة بأن تدخل الإيمان إلى قلوبكم إذ تدركون أنكم مسيَّرون. وفي العالم الآخر تُعرفون بسيماكم وليس بأسمائكم.
ـ لعلي عرفت شيئاً من هذا يا سيدي قبل تشرفي بلقائك..
ـ إلا أنك ما برحت تجهل الكثير.
ـ أقرُّ بأني ما زلت أجهل أكثر مما أعرف. سقراط قال هذا من قبل بل زاد على ذلك قوله: كلما عرفت جديداً أدركت كم أنا جاهل. لعلك سمعته أنت عندما ذهبت تقبض روحه وهو يحادث زوجته ساعة تنفيذ الحكم عليه بالموت بالسم الزعاف من حكام أثينا الظالمين. كانت شجاعته غريبة. لعلي أذكر أنه سألها عندما بكت قائلاً لها ما يبكيك؟ قالت: أنك تموت مظلوماً. أجابها: وهل كنت تريدين أن أموت ظالماً أيتها الجاهلة..!؟ أصحيح يا سيدي أن هذا حدث؟ أنت كنت هناك ـ أمْ ترانا نصنع الأساطير للذين مضوا في محاولة من الأحياء لتخليد الموتى.. للعيش على وهم الخلود..!!؟
ـ هه.. كأنك تريد استعراض عضلاتك الثقافية أمامي.على أية حال هل خطر لك قبلاً أنه لو قيض لك أن تخلق في عهد المسيح بن مريم أو محمد بن عبد الله ما الذي كان يمكن أن تكون عليه..؟
ـ لم يخطر لي هذا ببال أقول لك الحق.
ـ كان يمكن أن تكون حواريّاً.. أو تكون صحابياً.. ومصيرك الجنة التي رأيت طرفاً منها عند حافتها. وكان ممكناً كذلك أن تكون واحداً من أعدائه الألداء الذين سعوا إلى صلبه ولكن الله العلي القدير رفعه إليه. وفي الحالة الثانية ربما كنت أبا جهل عمرو بن هشام أو أبا لهب ومصيرك آنئذ النار التي شهدت، وتنديداً إلهيّاً أبديّاً يردده البشر آياتٍ في صلواتهم ما بقي على الأرض بشر. أتراك بحاجة لمزيد..؟
الموت.. الحياة.. أتُراني متُّ حقاً.. لا.. ها أنذا أدرك.. أفكر فأنا مازلت حيّاً إذاً. وهذا ملك الموت.. لم لا أسعى إلى مداهنته.. إلى تلطيف الجو المتأزم بيني وبينه.. ألم تثبت المداهنة والملق أيضاً جدواهما في عالمنا عند بعضهم..؟ ولكن هذا ملاك...!
قلت متظارفاً:
ـ ضربت أمثلة يا سيدي بلغت فيها ذروة الحكمة مما حدا بي إلى التفكير في أنه كان ممكناً أيضاً في نطاق ما عرضت أن أكون نابليون أو هتلر.. وإن كنت أوثر لو أنني كنت صلاح الدين الأيوبي..!
هتف مستنكراً:
ـ أنت..؟ صلاح الدين أنت..؟ ما شاء الله..!!
كلما حاولت إصلاح الموقف وقعت في مطبٍّ جديد، كمن يسعى إلى تكحيل العين فيعميها كما كان آباؤنا يقولون. فلأعد إذن إلى الجديَّة التي يصرُّ على مخاطبتي بها. تلك هي طبيعته كملاك فيما يبدو. تساءلت في حذر:
ـ كيف أكون إذن مسؤولاً عن أي شيء مادمت مسيَّراً غير مخيَّر..؟؟
ـ المرء مسؤول عن تصرفاته في حياته الاجتماعية ومسلكه الشخصي والتزامه القيام بواجباته الدينية والدنيوية نحو إخوته في الإنسانية. أنت، بتوضيح أكثر إذ إني ما أراك إلا بطيء الإدراك، أنت مسؤول عن معتقدك وفكرك ونواياك في دخيلة نفسك أي في نطاق ما أنت فيه مخيَّر قادر على التحكم فيه. ومسيَّر فيما عدا ذلك.
ـ أعترف أني عاجز عن الفهم يا سيدي. لقد أعيت هذه المسألة حكماء وفلاسفة ومناطقة على مرِّ العصور فكيف تنتظر من جاهل مثلي كما يحلو لك وصفي، أن يفقه شيئاً منها أو يقطع فيها برأي أو قول..؟من عندنا يا سيدي جماعات المعتزلة والجبرية والغزالي وابن عربي وإخوان الصفا وابن رشد وغيرهم كثير.
ـ هذا ما قلته منذ البداية.. وإنك لن تفقه الكثير مما ألقيته في روعك.
ـ ألا ترى إذن، بثاقب بصرك، أنك تنفق الكثير من وقتك الثمين مع كائن هيِّن الشأن مثلي..؟ بل إني لعلي يقينبأني أعقتك عن مواصلة قيامك بعملك العظيم..! أعني إزهاق آلاف من الأرواح التي حان أوان قطافها في أكثر من مكان في الأرض.
أطلق ضحكته الهادرة المخيفة، ثم قال:
ـ ما تحسبه وقتاً طويلاً أضعته معك ليس أكثر من ثوانٍ في حساباتكم. أما في الحساب الكوني فهو بمثابة اللاشيء. معضلة أخرى لن تستطيع استيعابها كدأبك.. هذا على الرغم من أن عليك أن تتفكر وتتدبر.
ـ حقاً لم أفقه ما رميت إليهالآن أيضاً.
ـ أقول لك. إن أي رؤيا أو حلم يتراءى لأحدكم لا يعدو ثواني قليلة من زمنكم. قد ترى حياة طويلة عريضة مداها عدداً من السنين. قد تتزوج وتنجب ويكبر الأبناء ثم تصحو وتحسب أنك قضيت عمراً بطوله في حين أن ذلك كله لم يطل أكثر مما ذكرت. ثوان قليلة ليس إلا..!
خطر لي أن ألهيه بطريقة ما عسى أن أهتدي إليها، بعد أن سُدَّت السبل جميعاً في وجهي. ولقد أحسست أن ما ألقاه في روعي قد أمَّحى أو أوشك. كيف لي أن أتخلص من هذا المأزق..؟ أما من مهرب..؟ وقبل أن يفاجئني بالرد على تساؤلاتي حتى قبل أن أعلنها، وهاجس الموت يلازمني.. هو شاغلي الذي لا يبرح مخيلتي. بادرته قائلاً:
ـ ربما كان هناك إعصار في غواتيمالا.. أليس هناك عملك الأهم الآن..؟ ستحصد من الأرواح في ذلك البلد ما تشاء.. ألن يفرحك ذلك الحصاد الوفير..!؟
ـ لا عليك.. هذا ليس من شأنك.. سأتدبر الأمر حيثما يكون من أرجاء الكوكب. الإعصار القادم سيكون في كاليفورنيا.. وزلزال بدرجة عالية سيواكبه في بلاد الأناضول والقارة الهندية..!
ـ أعداد هائلة إذن من الأرواح في انتظارك..
ـ أعرفها عدّاً.. الأرواح التي ستصعد إلى بارئها..
ـ وقتك ثمين إذن وليس من الحكمة في شيء إضاعته مع إنسان واحد نكرة مثلي.. لا هو في العير ولا هو في النفير..!
ـ ما زلت تحسب أن مماطلتك هذه سوف تؤتي أكلها أو تجديك نفعاً. إني لا أجهل ألاعيبكم وحيلكم للفرار من مصائركم المحتومة التي لا مناص لكم عن مواجهتها.
ـ عنيت يا سيدي أن هناك من هم أجدر مني برعايتك.. فعلى بركة الله تيسَّر..!
ـ عليَّ أن أنتهي منك أولاً..
ـ ألا ترجئني، كما رجوتك من قبل لكي أصلح من سيرتي بعض الشيء على الأقل قبل أن ألقى وجه ربي وبعد أن شهدت ما شهدت على يديك أحسن الله إليك..؟
ـ أيحسب أحدكم أن في وسعه إصلاح سيرته في ربع الساعة الأخير..؟
ـ ربما.. فلم العجلة والزمان طويل..؟ أليست هي من الشيطان الرجيم؟ ثم ألا يمكنك اعتباري حالة خاصة؟ عندما تعود إليَّ في المرة القادمة ستجدني وقد صليت الأوقات الخمسة من كل يوم، وأديت فريضة الحج مرات عديدة خمساً أو حتى عشراً إن شئت وزدت عليها من العمرة مثلها، وأديت الزكاة إلى مستحقيها، واعتذرت للذين أسأت إليهم أو كذبت عليهم، وما أكثرهم. وسدَّدت ما عليَّ من ديون وأموال استحوذت عليها.. أعني على بعضها دون وجه حق.. وصارحت تلك الفتاة المخدوعة هيفاء بحقيقة أني كذبت عليها واعداً إياها بالزواج.. وما إلى ذلك من شؤون وشجون سهوت عنها فيما مضى.. وأمور أخرى نسيتها وما أنسانيها إلا الشيطان أن أذكرها..
ـ ثق يا هذا أني لو أرجأتك الساعة، مع أن أمر الإرجاء ليس بيدي، فلن يحدث شيء غير عودتك إلى سيرتك الأولى. لقد عُرفتم يا أبناء آدم عليه السلام بالانتهازية. تلجؤون إلى بارئكم وقت الشدة، فتجأرون بالدعاء، وتلحفون في الرجاء والضراعة، تطلقون الوعود، وتُشهدون الله إن نجَّاكم فلسوف تصبحون من عباده الصالحين، وما إن تكتب لكم النجاة حتى تنكثوا العهد وتنكروا الوعد وتنكصون على أعقابكم.. جلُّكم هكذا إلا من رحم الله.
ـ أعدك أني سوف أكون بدعاً من هؤلاء.
ـ لعلك تحسب يا هذا أنه لا عمل لي سواك. ولكن ألا تدري أنه من الخير لك مغادرة هذا العالم اليوم قبل الغد تفادياً لاقتراف المزيد من الخطايا والآثام تضاف إلى صحيفتك فتزيد من رصيد سيئاتك. ولا يكون مقرك في الختام إلا حيث كنا عما قليل.. والعياذ بالله..
ـ لك أن تطمئن يا سيدي بأني لن أكون إلا عند حسن ظنك. وإني لأعدك بأني لن أقترف ذنباً البتة بعد اليوم وقد رأيت ما رأيت.
قال في سخرية بادية.. ولكن في ضيق ظاهر أيضاً:
ـ هذا صحيح ما دمت مغادراً معي الساعة.
رمقني بنظرة خاطفة فوجدني أرتجف هلعاً. فقد أدركت أنها النهاية حتماً فضاق صدري واحترق حلقي فيما جسدي كله يضطرب.
بتهكم واضح عاد يقول:
ـ أنت لم تصنع في حياتك السالفة أي أمر ذي بال. لم تنفع أحداً من خلق الله في شأن ما.. لم تقاتل في سبيل الله والوطن أعداءه. وها أنتذا تموت كما البعير على فراش وثير.. فعلام تأسف؟
ـ ألا ترى، يا سيدي، أنك لا تنفك عن استخدام تعابير غير لائقة في حقي؟ لكأني بك تتعمد إهانتي وتحقير شأني. سمعتك تقول مثل هذا من قبل ولم أعلق عليه آنئذ ولكني الآن أبدي اعتراضي وامتعاضي..!
ـ هو ذا دأبكم.. الشكل هو ما يهمكم وليس المضمون. القشرة لا الجوهر.. بلى إنكم لتخدعون أنفسكم باحتيالكم على الصِّيَغ التعبيرية، والخدع البلاغية اللفظية، فتسمون ذلك تهذيباً وتحضُّراً وتمدُّناً.. وربما إبداعاً.. وأما تسمية الأشياء بأسمائها التي هي جديرة بها فتطلقون عليها أوصافاً من قبيل الوقاحة.. الجلافة.. وما إلى ذلك من صفات وضعتم لها القواميس التي تناسبكم لكل حالة. قائلين إن لكل حالة لبوسها..!
بدا عليه الضيق ونفاد الصبر. خشيت مغبة ذلك، حدثتني نفسي، أو لعلي أنا الذي حدثتها: أليس من الحكمة وسداد الرأي أن أجنح إلى التودد إليه من جديد..؟ ماذا أصنع..؟ إنه الموت وما أدراك ما الموت حين تواجهه..؟ أوَ يأتي هكذا على حين غرة ودون سابق إنذار..؟ بلى إنه لكذلك. ألم يمت معظم أصدقائي على هذا النحو؟ فواز كان يجلس في غرفة الجلوس ينظم شعراً غزلياً لفتاته حين جاءته الزوجة (أم وسيم) بفنجان القهوة لتجده قد فارق الحياة لتوه. وحين قرأت ما كان يكتب قالت حانقة: (تستاهل.. لا ردك الله يا فواز..!) هذا ما صرحت به (أم وسيم) لزوجتي صديقتها..! صديقي عبد الكريم، الوسيم الجسيم، الذي يملك قوة عشرين حصاناً حقيقياً لا بخارياً، دخل حمام منزله لدقائق ولم يغادره إلا محمولاً على محفة. أما عبد الحميد فقد كان يلعب النرد في مقهى مع صديقنا وحيد، مريض القلب منذ أمدٍ بعيد، وحين انحنى عبد الحميد، القوي المعافى، كي يلتقط قطعة النرد التي سقطت على الأرض، لم ترتفع له قامة أبداً. بلى إنه الموت.. إي وربي.. تذكرت سجائري، ها هي ذي العلبة في جيبي. قلت وأنا أبادر لإخراجها، دون وعي مني كمن فقد رشده، فأقدم له واحدة منها، فيما كان الدوار يعصف برأسي فأكاد أفقد القدرة على التمييز، بل كأني في غيبوبة مطلقة. قلت متلعثماً، ولكن الكلمات لا تكاد تغادر لساني:
ـ هل لك في سيجارة، سأقول لفافة إن شئت العربية الفصحى، حيث إن صديقاً لي قارئاً في رقابة الوزارة لم يوافق على طباعة كتابي ذي الأربعمائة صفحة بمحتواه السليم كله، إذ قلت سيجارة بدلاً من لفافة في سطر من الكتاب. أرأيت الحرص على اللغة يا سيدي. هي لفافة من نوع جيد وفاخر أيضاً.. لا تحوي الكثير من النيكوتين..!!
أطلق ضحكة عالية مزمجرة كما لم يفعل منذ أول لقائي المشؤوم معه ليقول ساخراً وكأنه يلتقط أنفاسه، برغم أني لم ألحظ من قبل إن كان يتنفس مثلنا..
ـ لعلك نسيت من أكون.. أليس كذلك..؟ لكنك معذور..
ـ إنها من نوع جيد.. ومستورد..!
واصل ضحكه المرعب، أو قل استأنفه دون أن يقول شيئاً.
حسبت للحظة أنني اقتربت من هدفي. ولكن أين أنا الآن؟ ما الذي جاء بي ها هنا..؟ إنه الفندق الفخم الذي تمنيت يوماً النزول فيه وتناول وجبة عشاء في مقصفه. انتهزتها فرصة لأبادره بقولي:
ـ إذن نتناول العشاء معاً في هذا الفندق الفاخر. ومن ثم ينصرف كل منا إلى شأنه.. ما رأي سيادتكم..!؟
لبث صامتاً.. شجعني ذلك.. قلت في إلحاح:
ـ دعوة أرجو قبولها. أصدقائي يتمنون أن يُدْعَوا إلى مثلها.
بشيء من الحدة قال:
ـ ألا تدري أيضاً أننا لا نتناول الطعام إذ لا حاجة لنا فيه..؟
لفرط اضطرابي، وهول جزعي مضيت أقول كلاماً أدركت فيما بعد أنني كنت أهذي، وأن أكثره كان بلا معنى، ولا مبنى. قلت:
ـ ولكنك لست مريضاً.. كما أنك لست في حمية على ما أظن ولك هذه البنية العظيمة، فما المانع لديك إذن من الناحية الصحية..!؟
نظر إليَّ ساخراً ليقول بتهكم واضح:
ـ في حمية دائمة نحن لا نهاية لها أيها الجاهل. هلا تعلمت شيئاً في المدارس والمعاهد؟ ألم يقل لك معلموك شيئاً عن ماهية الملائكة.؟
ـ بلى.. ولكني لا أتصور أنكم تحيون ما لا يعلم إلا الله من قرون ودهور دونما طعام أبداً.. الدهر بطوله هل هذا ممكن..!؟ فمن أين تستمدون الطاقة لكي تتحركوا في أرجاء الكون..!؟
ـ إذن أنت تعرف هذا كمعلومة، ولكنك عاجز عن التصور إذ أنت تقارن الملائكة بالبشر.. وهنا مكمن الخطل وهذا حال كثير من أضرابك في عالمكم.
ـ قالوا لنا شيئاً من هذا القبيل. لكننا لم نصدق.. هذا ما يصعب تصديقه والركون إليه حسب فهمنا، فواحدنا يوشك أن يفقد صوابه إذ ما حيل بينه وبين طعامه بعض الوقت. كم من رجلٍ طلقَّ زوجته بسبب تأخرها في إعداد طعام غدائه قبيل عودته من عمله. بل كم من الحروب والغزوات قامت في عالمنا بين الجياع والمتخمين. بين المحتاجين والمحتكرين.. بين البسطاء والمستغلين.. وكم وكم.. ثم بعد هذا تريد لنا أن تستوعب عقولنا هذه المسألة..؟
ـ تلك طبيعتكم التي جبلتم عليها. نحن وأنتم من عالمين مختلفين. ألم تفهم ذلك بعد..؟ ألا تعقل ما أقول..؟
ـ بلى.. نحن معذورون إذ إنكم من عالم الغيب الذي لا ندركه ولا نعرف خفاياه وأسرارهكما سبق أن أعلمتني.
بيد أني عدت إلى محاولاتي العقيمة التي لم تفترولم تهن .. وتساؤلاتي الحائرة كسباً للوقت. قلت في عجب:
ـ لا تأكلون ولا تشربون.. لا تدخنون أيضاً بطبيعة الحال.. ولا تشاهدون المسلسلات التلفزيونية ولا الأفلام السينمائية.. قل لي أنكم لا تقرأون الصحف أيضاً..؟ كيف لا يعتريكم الملل والضجر..!؟ نحن نفعل هذا كله وغيره أيضاً مما لا يخفى على فطنتكم ومدى علمكم بشؤوننا.. ومع ذلك ترانا نضيق أحياناً بالوقت الذي يصبح رتيباً مملاً، بل عبئاً ثقيلاً تنوء تحت وطأته كواهلنا. نحتال عندئذ على الوقت بلعب النرد أو الورق أو الإنترنت أو غير ذلك كالانغماس في حكاية حب.. ككتابة قصيدة مقفاة أو مرسلة حسب الموهبة، إن وجدت، في التغزل بمن خيِّل إلينا أننا نحب.. كما أن لدينا مَهَرة يبدعون لنا في كل يوم ألعاباً وألهيات لا ندري كيف تتفتق عنها عبقرياتهم. والغاية المبتغاة على الدوام من وراء ذلك هي قتل الوقت.. نعم قتله وكأنه عدونا الألد، على الرغم مما قيل لنا بأننا سوف نُسأل عنه فيم أمضيناه في دنيانا وذلك عندما ننتقل إلى رحابكم.
ـ هذا دأبكم برغم أن الوقت هو العمر نفسه في المحصلة النهائية.. وها أنت ذا تعترف "بعضمة لسانك أيضاً" بضحالة أفكاركم وسخف توجهاتكم وعقمها، فتمضون أعماركم دونما كلل فيما أنتم سادرون فيه بحثاً عن مزيد من وسائل الترفيه واللهو مما يوقعكم في المحاذير والخطايا المؤذية لكم في الدنيا والآخرة.. وقد توردكم موارد التهلكة والوبال..لكأن واحدكم جاء إلى هذا العالم وقد منح عمراً محدداً ليبدده فيما لا طائل وراءه..
أرتجّ عليّ فلم أعد قادراً على قول أو حركة. طفق ينظر إليّ في غضب يشوبه الازدراء. تصورته للحظات متردداً بشأن المهمة العتيدة، وإلا فبماذا أفسِّر صبره الطويل.. وحواره الأطول معي، متقبلاً الإصغاء لما يصدر عني، برغم الفارق العظيم بين عجزي وضعفي إزاء قوته وجبروته الأمر الذي لا يتقبله أحدنا من أخيه ابن أمه وأبيه في معظم الأحوال. ثم ما شأن هذه الجولة التي حُملت فيها إلى تلك الآفاق الغريبة العجيبة. ومن يدريني فلعله ملاك جاءني كي يعمل على هدايتي وليس ملك الموت إياه.. لعلي إذن في حلم.. ولكن لعله حقاً ملك الموت. من أجل الحياة ينبغي على المرء ألا يألو جهداً في الحفاظ عليها. هي فرصة إن هي ضاعت فلن تتكرر أبداً. وإذا ما غادرتُ هذه الدنيا فأنَّى لي أن أعود إليها كرَّةً أخرى؟ وجدتني من ثمَّ، أقول بين اليأس والرجاء:
ـ سيدي الفاضل.. ما الذي يسعني صنعه لكي تدعني وشأني زمناً إضافيّاً؟ أيضيرك هذا في شيء..!
ـ كم مرة تراك ستوجه سؤالك العقيم هذا إليّ..؟
ـ مرات بلا عدد. لن أكلَّ ولن أملّ. لن أتوقف عن طلب ذلك ما بقي فيَّ عرق ينبض.. وما بقي هناك رجاء. المسألة ليست لعبة يا سيدي. إنك الموت.. الموت المريع الذي نفرُّ منه فزعاً ونعمل على تجنبه ما حيينا. هو كما تعلم هاجسنا الدائم حتى لو تجاهلناه أو تناسيناه لكنه مستقر في أعماقنا ولا وعينا..
ـ تقضون أعماركم، فرادى وجماعات، في السعي إلى إبعاده وتفاديه. بل إن الصراع الأزلي بينكم قائم منذ بدء الخليقة بين طرفين كل منهما يعمل على إيقاع الموت بالآخر لكي ينجو هو. يبتهج لموت الآخر في ظلِّ وهم خادع بأنه نجا ناسياً أنني في انتظاره بطريقة أو بأخرى، ونجاته وقتية وإلى حين، فيومه آتٍ.. وكل أتٍ قريب..
ـ ولكن يا سيدي..
ـ أيّ لكن بعد..؟ أتحسب أن منطقك الأفلاطوني أو أقوالك المعسولة قد تنطلي عليّ..؟
ـ سأواصل مسعاي.. من يدري فلعلي أفلح في إقناعك، أحسن الله إليك بأن تمدَّ لي في عمري بضع سنين.. عشرة أو عشرين يا سيدي وليس مائة أو مائتين.. ما الفرق..؟ في عالمنا يمدون للمرء سن الخدمة عند الضرورة.. وبدونها أحياناً..!
ـ لكل حالة لبوسها وظروفها الحاكمة.
يا إلهي. لو كانت المسألة بالنقود ننفقها في السر أو في العلن كما نفعل في حلِّ أزمات كثيرة لهان الأمر.. لو كان بالوساطة لأمكنني الاستعانة بذي نفوذ للتخلص من هذا الموقف العصيب.. لو.. لو..
قاطع أفكاري ليقول:
ـ لو أنك حاولت افتداء نفسك بما في الأرض جميعاً لما نفعك ذلك في شيء. المال في نظركم هو المبتغى.. هو الغاية والوسيلة معاً. هو الداء والدواء. من أجله يقع في دنياكم ما ترون من مآسٍ ورزايا وكوارث لا حدود لها. بل إنه يتدخل في تكوينكم وبالتالي في ممارساتكم ومواقفكم وتصرفاتكم. إنه كفيل بإلغاء ضمائركم ومحو عواطفكم وقتل إنسانيتكم. فينتزع الرحمة من أفئدتكم لتغدو كالحجارة أو أشد قسوة. بسببه عمَّ الفساد في الأرض. تستكثرون منه بغير حدود ودونما داعٍ، حتى إنه يلهيكم عن عمل الخير حتى الموت.. إلى أن آتيكم بغتة وعلى غير انتظار فيمسي جلّ مسعاكم هباء منثوراً.. أكفانكم ليس لها جيوب.. مقولة أطلقها حكماؤكم بيد أن أحداً لا يأبه لهاأو يأخذ بها.. لكأنها محض نكتة.. وهي أثبت الحقائق كالموت نفسه.. وأنتم في غفلتكم إبَّان سعيكم الحثيث بلا هوادة لجمعه وتكالبكم للحصول على أكبر قدر منه تنسون أنكم تجعلون من أنفسكم عبيداً مسخّرين له. هو الذي يستعبدكم ويذلكم إذلالاً ما بعده إذلال. يؤرق أيامكم.. لياليها ونهاراتها، فيفقدكم القدرة على الإحساس بالحياة وادعة هنيئة مطمئنة ويحول بينكم وبين الاستمتاع بمباهج الحياة الهيِّنة الطبيعية في بساطتها الجميلة.إنه لمرض عضال يصيبكم.
في اعتذار صادق نابع من القلب قلت في لهجة أقرب إلى الضراعة:
ـ ما تقوله صحيح تماماً وسديد. وكدأبك دائماً تصيب كبد الحقيقة.. يا سيدي رحماك.. فاعذرني، فلقد نسيت وما أنساني إلا الشيطان مرة أخرى أن أذكر أنك من طبيعة ملائكية مختلفة عنا. أنت لن تشتري معطفاً أو رباط عنق أو حذاء.. كما إنك لست في حاجة إلى جهاز كمبيوتر. ولن تطالبك زوجة بنفقة أو أولاد بمصروف. ولا شأن لضريبة الدخل معك.. كما إنك لن تشتري تلفازاً.. ولن تذهب إلى دار للسينما..!؟
ـ بلى أذهب إلى ما تسمونها السينما..!!
ـ أحقاً يا سيدي..؟ وكيف بالله عليك..!؟ إن هذا لأمر عجاب أيضاً..!
ـ أتحسب أن في الأرض مكاناً لا أرتاده..؟
ـ ولكنك قلت لي..
قاطعني بحدة ونفاذ صبر كما بدا لي:
ـ افهمني يا هذا.. ذهابي إلى السينما لأسبابي الوجيهة شيء وسعيكم أنتم إليها لأسبابكم المتعدّدة الأغراض شيء آخر.
ـ كيف أفهمك..؟ أكاد لا أفهم شيئاً..كدأبي معك دائماً مذ رأيتك.
ـ أذهب إلى السينما عند الضرورة والاقتضاء أيها الـ..
ـ تعني عندما يكون الفيلم جيداً.. يستحق المشاهدة.. وهل تفضله عربياً أم أجنبياً.. أو أمريكياً على وجه التحديد..!؟ فالأخيرون بارعون في ابتداع ما يثير لاجتذاب الجماهير..! هوليوود وما أدراك ما هي.. لا ريب أنك تعرفها..
ـ ليس من أجل ذلك أيها الأحمق ولكن عندما يقتضي عملي الذهاب إلى هناك. ليس من أجل الفرجة..
ـ عملك..!؟
ـ أجل حين يكون في برنامجي قبض عدد من الأرواح في واحدة منها ينجم عن حريق شبَّ أو زلزالٍ وقع.. أو ما شابه ذلك من موجبات حضوري..
ـ وما هي هذه الموجبات غير ما ذكرت يا سيدي في مثل هذا المكان المخصص للترفيه والمشاهدة والاستمتاع بالوقت والصحبة الحلوة.. فالسينما ليست ميدان حرب..
ـ كأن يكون البناء متداعياً بسبب غشٍّ مارسه المقاول من قبل ابتغاء التوفير في مواد البناء لكي يزيد من أرباحه ويشبع نهمه وحان وقت سقوط السقف فوق رؤوس أولئك الرواد التعساء، الذين جاءت بهم أقدارهم في تلك الساعة دون غيرها، وهم دون غيرهم من الناس، وإلى هذه الدار دون غيرها من الدور..
ـ آه.. قلت لي.. مفهوم هذا تماماً..
ـ ألا ينبغي لي أن أكون حاضراً عندئذ..؟
قلت همساً بيني وبين نفسي، وقد تملكني الفزع أكثر فأكثر:
ـ بلى.. بلى.. تلك أسباب وجيهة.. وهل لمثلي أن يجادل فيها..؟
ـ ولربما يممت شطر أخرى لأسباب طارئة أقل أهمية ووجاهة كما قد تقول بعد سماعك إياها.. وقد لا تكون كذلك في نظرك فأنت لا تملك رأياً ثابتاً يركن إليه.
ـ من قبيل ماذا أسبابك الوجيهة.. أفدني أفادك الله..!
ـ كأن يتحرش فتى مراهق بفتاة تجلس في المقعد المجاور مصادفة، مستفيداً مما يغشى القاعة ومن فيها من ظلمة، مستغلاً فرصة انشغال الآخرين بمتابعة الأحداث الجارية على الشاشة، التي ربما تكون وهمية وسخيفة أيضاً أو حافلة بمشاهد الإغراء الشيطانية. يحدث هذا دون أن يتنبه صاحبك إلى أن الجالس إلى جوارها من الناحية الأخرى هو شقيقها الغيور، الذي يبادر إلى طعنه بسكين في مقتل. أجدني أهرع عندئذ إلى المكان. يجيء بي هذا الأحمق من أقصى أطراف الأرض، إذ أكون قد فرغت لتوي من قبض أرواح جمع من ركاب كانوا على متن الطائرة الليبية فوق صحراء سيناء بفعل فاعل.. أو المصرية التي أقلت ضباطاً فوق الأطلسي بفعل جناة مسكوت عن جرائمهم.. أو الغواصة الروسية في بحر الشمال.. أو قتلى في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها على أيدي جناة عتاة. هذه وهذه.. وتلك.. أتيك بهذه الأمثلة لأنك سمعت عنها وقرأت. صورة أخرى أفضي بها إليك قد تكون أكثر هزلاً. قد يحدث أن يجلس رجل طويل أمام آخر قصير، فيحجب الأول الرؤية عن ذاك الأخير. يطلب إليه هذا أن ينحيِّ رأسه قليلاً، لا سيما أنه يرتدي قبعة مفرطحة.. يرفض الرجل.. يتلاسنان.. يتشاتمان.. يطلق الرجل القصير النار على الرجل الطويل. لن يقضي هذا نحبه طبعاً إلا في حضوري، وعلى يدي، وما ذهابهم بالمصاب إلى المشفى في سيارة إسعاف إلا تريثاً، دون أن يدركوا، حتى أحضر. ألا تسمعهم يقولون عندئذ في الإذاعة أو الصحيفة: لم يلبث الرجل بعد دخوله المشفى أن قضى نحبه متأثراً بجراحه.. هذه الـ لم يلبث هي انتظار مجيئي. وقد يصفونه بالشهيد.. شهيد ماذا..؟ قل لي.. هذه إحدى سخافاتكم وتجاوزاتكم..؟ ولكن ما من أحد يدرك مثل هذا السر الذي أطلعك عليه الآن..
ـ ولكن أليست هذه ذروة الحماقة أن يتصرف ذلك الرجل القصير على ذلك النحو..؟
ـ أنا وأنت لا نحاكم المسألة الآن.. ولكنه مثال أضربه لك.. أوَ ليست هناك حماقات أكثر سخفاً وهزالاً ولكنها واحدة من أسباب الموت ووسائله على أية حال.
ـ أرى أنك تطلعني على هذه الأسرار ثقة منك في شخصي الهزيل بعد أن توطدت معرفتك بي أيضاً.. أليس كذلك..؟
ـ إطلاقاً.. فمن تراك تحسب نفسك يا هذا؟ إنما أطلعك على مثل هذا السر حيث إنك لن تتوافر لك فرصة إفشائه إذ أنت راحلٌ عنهم توّاً، ولن تلتقي أحداً بعد الآن كي تباهي أقرانك، كعادتك، زاعماً أنها إحدى بنات أفكارك المصونات..! ألا ترى كم تسبب لي حماقاتكم من متاعب..!؟
إثر صمت ثقيل كالجبال جثم على صدري تجرأت على سؤاله:
ـ ما أحسب أن لك زوجة وأولاداً..!
ـ ها أنتذا كرَّة أخرى.. تقع في حالة تخريف. الملائكة لا يتزوجون. هم خلق آخر لا تعرفون كنهه.
ـ هنيئاً لكم إذ لا زوجات لكم..
ـ ألا ترى أنك تزري بالمرأة فيما تقول؟ بل إنك توجه إليها إهانة منكرة.. مع أنك في حضورها لا تجرؤ على ذلك. بل إنك لتمضي في إغداق فيوضٍ من المديح والإطراء لها جلُّها نفاق متقن الصنعة.. أجل أنت لا تني تنزلف إليها كي ترضى عنك.. بل أنت قلما تقطع برأي في أمر قبل الأخذ برأيها فيه. هل لك أن تنكر ذلك؟
ـ لكننا في أيامنا الراهنة تنازلنا لها مكرهين عن الكثير من الحقوق التي ملكناها طويلاً عبر العصور.
ـ تزعمون ذلك نفاقاً ورياءً..
ـ بلى. لقد أصبح لهن جمعيات واتحادات ونوادي وتنظيمات شتى. وهذه جميعاً لا عمل لها سوى السعي إلى مساواة النساء بالرجال بل والتفوق عليهم في مكتسبات يحصلن عليها.
ـ أتظن أنه قد تحقق لهن ذلك..؟
ـ بل لقد تجاوزنه.. ولكنهن يطمعن بالمزيد شأنهن في كل أمر. بعضهن غدون أديبات.. شاعرات وقاصات..!
ـ بعضكم يزعم أنهن يستكتبن رجالاً..!
ـ قد يحدث هذا لغاية في نفس ذلك الرجل الذي لن يحجم عن فعل ذلك ابتغاء مرضاتها لأسباب تخصه هو وهي.. غالباً ما تكون عن غرضية تجافي النزاهة وتزري بالأدب.. ولكن بعيداً عن هذا يمكنني القول بأنه لن يطول بنا الوقت، قبل أن يصرخ الرجل مستجيراً.. مطالباً بالعدالة الشاملة التي هي في هذه المرة مساواته هو بالمرأة ورفع ظلمها عن كاهله..!
ـ هل ترى أنذلك قد يحدث حقاً..؟
ـ نعم.. إذ هن سوف يجنحن إلى الانتقام تعويضاً عن عصور مضت تعرضت جدَّاتهن فيها للظلم والطغيان والعنف من قبل أجدادنا الأوليين. لقد كنَّ مهيضات الجناح في تلك الأزمنة الغابرة خلافاً لما تنزلت به كتب السماء.
ـ الويل لكم آنئذ. وإن كنت أنت مستثنى مما سيحدث..
ـ لم الويل..؟
ـ لأنها ستنتقم.
ـ وكيف أستثنى من القادم على أيديهن..؟ ألدي حصانة ما؟
ـ لا.. فأنت ذاهب معي الساعة ولن تشهد تلك التطورات القادمة وشيكاً. وما عليك إلا أن تحمد الله إذن على نجاتك..!
وجدتها فرصة سانحة أهتبلها لأقول له متبسِّطاً مترفقاً:
ـ ما دمت يا سيدي الملاك، لا تحتاج لشيء مما تدعونا إليه طبيعتنا البشرية الأرضية، وما دمت، بطبيعة الحال، لا تتقاضى راتباً عن عملك، فما الذي يغريك على مواصلة قتل بني البشر مذ جيء بهم إلى هذا الكوكب ليعمروه،تتربص بكل منهم إما على حدة ليلقى حتفه، كحالتي هذه، أو مع جماعة في وضع ما لتنقض عليه أو عليهم، منهياً حياته أو حياتهم وهم بعد في قمة العطاء وذروة التفتح على الحياة ولو أن العمر امتد بهم لزمن أطول لأعطوا من علمهم المتحصَّل وخبرتهم المكتسبة الكثير لمنفعة البشر. تأتي أنت لتميتهم بهذه الطريقة أو تلك، ولديك من الوسائل البارعة الكثير الوفيروالحق يقال، فلكل ميتة لديك سبب، وإن كانت مفضية كلها إلى النتيجة الواحدة التي عبَّر عنها أحدنا ممن حيرتهم هذه المسألة بقوله:
من لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعَّت الأسباب والموت واحد
ـ هي الصورة البادية لكم، أما ما خفي في مسألة الموت وما وراءه، والحكمة منه، فإنكم تجهلون ذلك تماماً، ولسوف تقيمون على جهلكم في شأنه إلى ما شاء الله.
ـ الذي لا أفهمه، على الخصوص، ذلك التفنن والابتكار في وسائل الموت وطرائقه التي تستخدمها أو أسبابه التي تختلقها وتبتكرها على الدوام، ليكون لكل ميتة سبب مختلف وصيغة مختلفة.
ـ بسبب من جهلكم الموما إليه آنفاً فأنتم تحسبون أن من يقتل بالسيف يشبه كل آخر يقتل بالسيف، ومن يُقتل برصاصة يشبه كل من يقتل برصاصة، ومن يموت مريضاً بداءٍ ما سوف يعاني ما عاناه تماماً كل من مات بالداء ذاته. هذا كله بعيد عن الصواب، منافٍ للواقع. إذ إن لكل كائن ميتته الخاصة به، والتي لا تشبه في المعاناة والتفاصيل الخفية ميتة أخرى لأي كائن آخر إلا في الصورة البادية للعيان.
ـ أصدقك القول بأني لا أشعر إلا بالضياع إزاء ألغاز وأحاجي لا تفتأ تتحفني بها.
ـ أين هي الأحاجي فيما أفضي به إليك؟ أهي في قولي الواضح لكل ذي عقل بأن معاناة كل امرئ عند موته هي حالة فريدة خاصة به. هي حالة موته هو دون غيره من سائر الخلق. هي معزولة عن الآخرين عند وقوعها كانعزالهم هم عنها. لا يحس بها أو يعانيها غيره أيّاً كان قربهم منه وموقعه منهم. لكل امرئ إحساسه الذي لا يشاركه فيه أحدٌ ولا يشبه إحساس إنسان آخر. لعلك قد فهمت الآن..؟ وإن كنت في شك من ذلك..!
ـ على الرغم من تعقيدك للمسألة برمَّتها في الوقت الذي تحاول تبسيطها إلا أنني لا أرى سوى أنك في النهاية، وفي سائر الأحوال، ستقضي على الجميع على حدٍّ سواء. قتلك إياهم أعني..
ـ لقد سبق أن أوضحت لك.. وإن لم أكن مضطرّاً إلى ذلك بأن ما أقوم به لا يندرج تحت مسمى القتل حسب تعريفاتكم ومفاهيمكم. إني أقبض الأرواح قبضاً.. وهذا شيء آخر. أنتم تقتلون وأنا أقبض..!
ـ ما شاء الله.. لكأني بك يا سيدي، تفسِّر الماء بالماء.. أليس سواء أن تسمي ذلك قتلاً أو تدعوه قبضاً أو ما شئت دون ذلك من أسماء ومسميات؟ ما الفرق بالله عليك..؟ كنت أحسب أننا وحدنا، البشر، من يتلاعب بالألفاظ ويتفنن في ابتكار المصطلحات المراوغة ويكيل بأكثر من مكيال..!
ـ الفرق كبير للغاية والبْون شاسع. القتل هو ما تجترحونه أنتم، لأسباب تخصُّكم وهي أبعد ما تكون عن العدل والصواب في الغالب الأعم. يزهق القاتل منكم روحاً بشرية لغاية يرمي إليها حين يقتل. القتل هنا وسيلة لغاية لا تتحقق من دونه. إزهاق الروح في هذه الحالات وراءه نيَّة مبيَّتة ومغرضة.. وهادفة..
ـ مرة أخرى أستميحك عذراً إذا ما قلت بأني لا أستطيع موافقتك على ما تذهب إليه من تفسير وتسويغ لما تفعل.
ـ سأزيدك إيضاحاً إذن. إن القاتل من بينكم يقدم على فعله لكي يحقق نفعاً يعود عليه، أو ليدفع ضرراً عن نفسه، أو ليمنع خطراً سيحيق به.. وربما يكون الباعث على هذا أو ذاك تصورات خاطئة أو حمقاء أو موهومة، وربما تكون صحيحة. المهم أن هناك دافع أو لنسمِّه ذريعة أو مسوِّغاً حسب الحالة وملابساتها وظروفها، كأن يغتصب مالاً، أو يبلغ جاهاً، أو يشفي غليل حقد، أو ينال امرأة غصباً، أو يصون عرضاً. الأسباب كثيرة عصيَّة على الحصر. فهي بكثرة أعداد الخلق الذين يتعرضون للموت بهذه الطريقة، وبكثرة الحالات المفضية إلى عملية القتل. ولا يفوتنَّك كذلك قتل جماعي وسيلته الحروب لأسباب وذرائع مختلفة، ودوافع شتى بعضها مُحقّ، ومعظمها من غير وجه حق. أما أنا، فكما ترى، لا غاية شخصية لي فيما أقوم به. خذ حالتك أنت مثالاً. هل كان بيني وبينك ثأر؟ هل رأيتني من قبل..؟
ـ لا يا سيدي، فلو كنت عرفتك من قبل لما كنا معاً الآن. وليتنا لم نلتقِ أصلاً ولم يتح لي هذا الشرف العظيم. كنت أفضِّل ألا يتاح أصلاً برغم احترامي لك وإكباري لوظيفتك العتيدة..!
ـ على أية حال أنتم لا ترونني أكثر من مرة واحدة ووحيدة، أولى وأخيرة عندما تحين ساعة انتقالكم من داركم الفانية إلى داركم الباقية.
ـ بلى.. بلى إن هذا لأوضح من الشمس في رابعة النهار والقمر في ليلة بدر.
ـ لتذكر يا هذا أن قتل نفسٍ واحدة مؤمنة بغير حق كقتل الناس جميعاً. أي إنها جريمة إبادة بشرية..
ـ لعلك قلت لي شيئاً من هذا القبيل عما قليل يا سيدي.. ولكن.. كيف أذكر وأنا على شفا الموت..؟ من الموت قاب قوسين أو أدنى..!؟
|
|
|
|