22 / 12 / 2009, 31 : 09 PM
|
رقم المشاركة : [8]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق
- 4-
ها هو ذا ينشغل عني.. يرنو ببصره في اتجاه آخر، إلى أفق بعيد. تجلَّى أمام ناظري شريط طويل لحياتي الماضية، مذ وعيت العالم من حولي. بدا لي فيما يشبه شريطاً سينمائياً.. أو مسلسلاً تلفزيونياً لا نهاية لحلقاته.. المدرسة.. قريتنا.. الرفاق.. نعيم حسين.. سليمان.. إسماعيل.. الأساتذة.. عبد الهادي.. علي.. الشيخ محمد.. الصفوف المتعاقبة.. يوم استشهاد أبي.. بكاء أمي وأخواتي.. استشهاد أخي.. بيارات البرتقال القريبة من منزلنا.. المعارك حول بلدتنا.. الذين استشهدوا يومذاك.. قبة الصخرة والأقصى في زيارتي لها مع خالتي وزوجها. القتلى في الطرقات والأزقة.. دماء الجرحى النازفة حتى الموت.. الصديقات والرفيقات.. المشاهد تتوالى كوميض برق خاطفخلَّب.. وأراني وسطها.. وأمي ترنو إليَّ مشفقة.. حتى تلك التفاصيل الصغيرة هيِّنة الشأن التي لم آبه لها كثيراً في وقتها.. ها هي ذي تتجسَّد أمامي كأنما تحدث الساعة. لكأني أستعيد دقائق حياتي ثانية منذ النشأة الأولى. أفعالي قاطبة تتمثل حيَّة أمامي.. لكأن هذا الشريط لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها على المدى الذي حييت. مضيت مع الصور المتعاقبة أتكون هذه الصور هي الهالة تدور بما سجل عليها..؟ أين أنا..؟ أين هو..؟ هل انصرف عني..؟ ضباب كثيف يغطي الأفق.. أنفاق على المدى في مجاهل الكون أعبرها كما الطيور دون عناء.. جسدي ينساب فوق لجة المحيط الأزرق الشفيف.. فوق هواء رقيق رخيّ علوّاً وانخفاضاً.. يهتز كل ما حولي اهتزازاً وانياً رهيفاً. ولكن هو ذاك جسدي.. أرنو إليه عن كثب. مسجَّى على سرير ناصع البياض. أين غاب عني جسدي ذلك الزمن الذي لا أدريه.. أين كان هذا الجسد.. لكأنه ليس لي.. وهو لي.. هو أنا.. يا إلهي.. أناس من حوله بملابسهم البيضاء المتشابهة. يضغط أحدهم هناك على صدري مضطرباً، بكفه صعوداً وهبوطاً.. أستغرب صنيعهم.. لماذا تراهم يفعلون ذلك.. الآخرون ينظرون.. ينتظرون.. عيونهم وحدها شاخصة بادية من وراء أقنعة.. بعضهم يتحرك هنا وهناك في المكان.. أجدني على مقربة من السقف.. أطلُّ من علٍ وجسدي الذي أراه قيد أذرع مني أو أقل إلى الأسفل.. أراه منفصلاً عني.. لا بل هو متصل بي.. في الفراغ ما بين السقف والجسد أجدني.. أيّ حالٍ هذه.. ما من شيء يقينيّ. كل ما أرى غائم وراء غلالة شفيفة.. والجسد بين أيديهم لا يبدي حراكاً.. عدا انخفاض الصدر وارتفاعه تباعاً تحت أيديهم.. يضيق.. ينفرج.. ماذا يفعل بجسدي هؤلاء.. ولماذا هو هناك بعيداً عني.. لم يتصرفون هكذا.. ما من أحد يراني.. هكذا يبدو لي.. كيف يحدث لي هذا.. ألا ما أشدَّ شوقي إليه.. لكم أتوق إلى العودة إليه.. أنساب إلى داخله.. تلك الأعضاء الممدودة تدعوني... تلك الخلايا النابضة تناديني.. أتوق لأن أحتويها شوقاً وحنيناً.. أن نتوحَّد معاً.. فليبتعد هؤلاء عنه.. عني.. أهبط إليه رويداً.. أقترب.. أنسلُّ إلى داخله.. أنساب في الشرايين دون أن يشعر بي أيٌّ منهم.. ولكن.. يا للروع ها هو ذا يعود.. قبل أن يتم التحامي بجسدي.. ينبهني صوته مدوياً في داخل رأسيكصليل أجراسٍ يأتي من بعيد..
ـ تركتك عامداً تمضي في رحلتك نحو ماضيك.. رحلة حياتك عوداً على بدء.. لكي ترى بنفسك إلى صنيعك في أيامك الغابرة.. هذا هو كتابك الذي تقرأ.. مسجَّلٌ فيه كل ما حدث لك، ما بدر منك وما صدر عنك.. كتابك هذا يعرض يوم الحساب. أعضاؤك التي هي لك سوف تكون شاهداً عليك..
قلت منبهراً، بل مأخوذاً تماماً بما رأيت:
ـ أجل.. أجل.. لقد عرَّفتني هذه الرحلة الكثير الكثير مما كنت أجهل.. ولك الفضل وأيم الحق..
ـ لقد أريتك ما قد رأيت.. ما وددت قوله لك.. وما أحسب إلا أنني أضعت معك جهداً فائقاً فهيّا بنا ننتهي منك..
لمحت جسدي أبعد قليلاً مما كان.. ومَنْ هم حوله يضطربون متحركين في كل اتجاه يعرو وجوههم القلق.. اختفى ذاك فجأة عن ناظري.. يا إلهي أين هو؟ هل ذهب عني نهائياً أم تراه سيعود أدراجه ثانية؟ السكينة تنداح في صدري.. كان ظلُّه ثقيلاً.. كاد أن يزهق أنفاسي. أتنفس الآن في عمق.. حياة جديدة تسري في عروقي. ولكن.. ماذا..؟ طنين يتعالى قادماً من مكان ما.. دوي يتصاعد.. يتحول إلى رنين أجراس حاد.. يا إلهي هو ذا يعود من جديد.. يضيق صدري من جديد.. يقترب.. تكاد أجنحته تسدُّ ما بين الأرض والسماء.. إشعاعات ملونة غريبة من حوله تنتشر في الأرجاء.. يهدر صوته المرعد:
ـ ها أنذا أعود إليك يا هذا..
ـ وأين كنت سيدي؟ حسبتك قد مضيت إلى غير رجعة..
قلتها في وجل مخفياً جزعي لعودته واستيائي.. يضحك.. فيهتز الفضاء من حولي، ليقول:
ـ أنت أنت لم تتغير وما يكون لك أن تتغير في اللحظات الأخيرة من حياتك.
ـ كيف لي أن أتغير في مدى برهة وجيزة..؟ التغيير يحتاج إلى زمن.
ـ من قال لك إنها برهة..؟ إنها من عمرك المتبقي.. من رصيد أيامك المعلوم... بل من ساعاتك المعدودة عليك منذ ولادتك.. أما زمنك فقد استهلكته..!
ـ ولكني لم أشعر بعمري كيف مضى وانقضى. لكأنه لحظة عبرت كالطيف.
ـ هذا شأنك.. أنت الذي أضاعه سدى.. وأنت لم تُمنح الحياة والعمر والمكان في أرض الله الواسعة لكي تضيعها عبثاً وتبددها هباءً.. فرصة العمر هي العمر ذاته.. هي حقبة الحياة للكائن ذاتها..
ترددت قليلاً قبل أن أجرؤ على السؤال:
ـ هل أكون فضولياً لو أني تساءلت عن فترة غيابك عني..؟ أعلم أن هذا سرٌّ خفي.. أسكتني كالأبكم حين رشقني بنظرة قاسية.. حدَّق بي.. أحسست بالرهبة أكثر.. يتفَّصد العرق من جبيني، وحريق يشتعل في حلقي.. قشعريرة تسري في أرجاء جسدي. يركَّز نظراته في عينيّ قبل أن يبادرني بصوته المجلجل:
ـ طرقت أماكن في الكون بعيدة عنك.. قبضت في طريقي عدداً غفيراً من الأرواح في زلزال وقع غير بعيد من مسقط رأسك.. كما زرت رفاقاً لي في مكان ما من الكون..
لفت انتباهي ذكره لرفاقٍ له. تجرأت مرة أخرى على سؤاله:
ـ وهل لكم معشر الملائكة رفاق مثل ما لنا..؟
ـ كيف لا..؟ وهم يعملون في كواكب أخرى منها ما هو في مجرتكم ومنها ما هو في مجرات غيرها..
ـ وماذا تراهم يفعلون هناك..؟
ـ ما أفعله هنا.. وشؤوناًأخرى..
ـ تعني أنهم يقبضون أرواحاً أيضاً..؟
ـ بلى..
ـ سبق أن قلت لي أن هناك أحياء غيرنا في أجرام سماوية.
ـ كيف لا..؟
ـ وأنت تقبض أرواح أهلها أيضاً..؟
ـ لا.. فلكل كوكب ملائكته المختصة بأمره.. أنا موكل بكم.. وملائكة أخرى موكلة بغيركم.. ولا شأن لأي منا في نطاق عمل الآخر..!
ـ حقاً أثرت عجبي وحيرتي من جديد.
ـ لك أن تعجب.. وأن تحتار.. فأنتم لا تعلمون عن شؤون الكون إلا قليلاً.. وقليلاً جداً.. ولكنك لن تلبث طويلاً حتى تعرف الكثير من الأسرار الكونية شأنك شأن سائر من يغادر دنياكم...
بغتة تتبدى قصور عن بعد تتلألأ أنوارها المبهرة.. تتهادى في أبهائها وبين جنباتها حوريات بارعات الجمال.. لم أشهد كجمالهن في حياتي الماضية رغم ارتيادي بلاداً كثيرة في شتى أنحاء الأرض. تبدو الحوريات قريبات مني برغم بعد القصور نفسها عني.. أزاهير ورياحين باهرة الألوان تحيط بأرجائها، يتضوع شذى عطرها المتناثر رذاذاً ناعماً فيكاد أن يصيبني بالدوار.. تتعاقب ألوان أنوارها في كل لحظة.. أرجوانية فزرقاء.. فخضراء.. فبيضاء.. وأخرى لم أشهد مثلها من قبل.. تبهر الأنوار عيني.. وتثير فيَّ حنيناً طاغياً للاقتراب منها وتملِّيها والدخول إلى أبهائها الساحرة ومن فيها اللواتي أكسبتهن الأنوار المتعاقبة مزيداً من السحر البديع والجمال الصاعق. يا إلهي.. ما رأيت في دنياي لا يضاهي شيئاً مما أشهد. في كل لحظة أرى جديداً فذّاً مثيراً..
وكدأبه أدرك ما يجول في خلدي فبادرني بالقول:
ـ أرى أنه قد أعجبك ما ترى.. أليس كذلك..؟
ـ أتسألني يا سيدي.. وها أنتذا تدرك لتوِّك ما يدور في نفسي.. هذا الذي أرى يلجملساني عن النطق ويكاد يوقف قلبي عن الخفق..
ـ ربما يكون لك نصيب في شيء منها..
ـ أحقّاً ما تقول..؟ وبهذه البساطة المتناهية..؟ إن واحدنا لكي يملك من الأرض أمتاراً ومن العقار أشباراً عليه أن يمضي شطراً غير يسير من عمره كله بشق الأنفس والجهد الجهيد أيضاً.. وقد لا يفلح في اقتنائه في نهاية المطاف.. فكيف بي أحلم بمثل هذه القصور.. بما فيها ومن فيها..؟ وبدون مقابل يدفع ثمناً لها..!؟ففي ظني أن أحداً هنا لا يتعامل في بيع أو شراء.. لا لا.. عقلي لا يصدق أن هذا ممكن الحدوث..
ـ بلى.. إذا كنت مستحقاً لذلك ستناله..
ـ وما هي ماهية الاستحقاقوموجباته؟
ـ عملك في الدار الدنيا ألا تذكر أني قلت هذا من قبل..؟ العمل هو الثمن ليس إلا..
ـ عمل..؟ أرجئني إذن بربك.. أرجئني كي أعمل صالحاً يؤهلني لنيل واحدٍ منها أو أكثر..
ـ أو أكثر.. أرأيت..؟ يا لكم من مخلوقات عجيبة.. هو الجشع الإنساني المتأصل فيكم إياه.. أطماعكم بلا حدود.. ماذا ستفعل بالأكثر من واحد. لن تؤجره هنا أو تبيعه لتجني مالاً لا قيمة ولا دور له في هذا العالم..
ـ ليكن واحداً وحسب إذن يا سيدي..! ليكن واحداً فقط.. لا بأس.. أهذا الواحد كثير عليّ..!؟
ـ ليس الأمر بيدي على أية حال.. سيُنظر في أمرك.. وهو مقرر منذ الآن بل قبل مولدك في الأرض.
ـ ومن سيعطيني مفتاح ذلك القصر؟
ـ إن القصور هنا بلا مفاتيح ولا أبواب..
ـ كيف بالله عليك..؟ أهي مشاع بين الناس أم ماذا..؟
ـ لماذا يجب أن تكون لها أبواب وللأبواب مفاتيح؟ لا وجود هنا لغير الأتقياء الصالحين.. لا لصوص ولا متطفلون يصلون إلى هذه الرحاب.. فوق ذلك لا حاجة لأحد بما لدى أحد.. هنا تطلب فتعطى.. تتمنى فتنال.. اكتفاء وغَناء..وأمن وسلام.
ـ تقصد أننا نجلس فيها وكأننا في العراء.. كيف؟ ومن وراء هذه الزجاج المضيء الكاشف..؟
ـ أهل هذه القصور كلٌّ في شأنه مكتفٍ هانئٍ وسعيد.
ـ ولماذا الجدران أيضاً إذن. بل ولماذا السقوف إذا كان الأمر كما تصف يا سيدي؟
ـ لا ضرورة للسقوف على نمط ما في أرضكم، فلا أمطار تخشى بللها ولا رياح تخاف عصفها ولا شمس تتقي حرَّها. ولكنكم إذ تعودتم على مثل ذلك في دنياكم فلن يسعدكم إلا الحصول على ما تعودتموه وما اشتهيتموه هنالك.
ـ أعدني إلى دنياي إذن لكي أعيد رسم سيرتي من جديد على ضوء واقع ما أرى وليس لأيّ سببٍ آخر..
ـ هيهات.. هيهات.. كلمات أنت قائلها.. رغبات أنت مبديها..
يختفي ثانية بغتة.. أمد بصري هنا قريباً وبعيداً هناك.. لا أثر له..
لعلَّه مضى لحصد أرواح أخرى في مكان آخر..
إلى متى ألبث على هذه الحال؟ يظهر ويختفي.. يغيب ليحضر بعد لأي.. ما الحكاية..؟أي دوامة هذه التي تلمُّ بي، وجسدي هناك على مرأى مني.. ما انفك المنهمكون في أمره كما كانوا من قبل.. أحسُّ بالجوع والعطش.. ولكن هذا بستان غاصٌ بأشجار شديدة الكثافة ذات أوراق زرق كلون السماء، تتدلى غصونها مثقلة بالثمار.. قطوفها دانية.. لا أعرف كنه بعضها.. وأعرف بعضاً.هذا رمان.. حبة الرمان الواحدة هذه المتدلية عن هذا الغصن في حجم رأس جمل أو بقرة. حبة الكمثرى في حجم بطيخة كبيرة.. حبة اللوز هذه في حجم برتقالة.. والثمار تشف عما بداخلها من رحيقٍ رائقٍ صافٍ كالماء القراح.. لعله ذهب إلى غير رجعة.. سأبقى هنا طويلاً إذن.. ليكن.. ماذا أبغي خيراً مما أنا فيه.. أتراه غادرني بلا عودة هذه المرة..؟
أحاول قطف ثمرة.. أمدّ يدي.. تتراجع يدي.. أشتهي كسرة خبز وحبات زيتون أخضر.. وبرتقالة من بيارة عمي هناك عند أطراف يافا.. آه يافا يا حبيبتي.. لكم أتمنى لقاءك بعد عمر اغتراب طويل.. وها هو ذا يوشك العمر أن ينقضي.. تلك بياراتك النضرة الساحرة الزاخرة.. هو ذا شاطئ بحرك الفوّار.. وتلك الأمواج الهائجة تضرب جدرانك العتيقة عند حوافها.. الطحالب الزرقاء تغزو أساساتها السمراء كما عهدتها من قبل.. أأنت جنة الخلد أم يافا أنت..؟ أضناني حنيني الأزلي إليك.. هذا الشجن القاتل يا حبيبتي.. أماله من علاج غير الرجوع..؟ ودون الرجوع ما تعرفين.. جلُّ ما أشتهي هنا قد أنال.. إلاَّك أيتها العصية الأبيَّة.. يا لحيرتي.. كيف قالوا أنها تهدمت عن بكرة أبيها.. ها هي ذي بروعتها وريعانها كما عرفتها في سالف الأيام.. كيف..؟ وأنت يبناي الحبيبة في الطريق إليك من يافا في باص حمد النمروطي المتداعي..ساعة كاملة في طريق العودة عبر ريشون ورخبوت مستعمرات الأوغاد. ما أنت الآن يا يبنا.. ربوعك اليانعة.. بساتينك الغنَّاء.. مدرسة الطفولة واليفاع والبيارات المترامية يكاد يضيء برتقالها ذهباً.. أحترق شوقاً للتجوال بين حاراتك القديمة.. أزقتك وظلال جدرانك.. وهواء البحر القادم رقيقاً عليلاً من الغرب فوق كثبان الرمال الذهبية يسلم الأعين للكرى في عزّ الظهيرة.. سلام عليك حبيبتي سلام.. وألف سلام...
صوت يتردد بغتة من حيث لا أدري: هي باقية يا هذا برغم ما حدث.. ما من شيء يتبدد إلا في ظاهره.. الطيف يبقى.. الصورة الأثيرية لما كان قائماً تلبث على ما هي عليه وهي ما يُرى في المخيلة. ألست تراها رأي العين الآن من خلال ذاكرتك الباقية "الذاكرة كالأثير من طبيعة لا مرئية وراء المادي المجسَّد.
أصرخ ملء حنجرتي: أباقية هي إذن..؟ ولكن من أنت أيها البشير المؤذن ببقائها ريثما تحين العودة إليها!؟
يختفي الصوت.. يطبق صمت مهيب.. رهيب.. حريق يلهب حلقي أكثر حدة.. ألهبه الصراخ.. عطشٌ مضنٍ يجتاحني.. ولكن هذا ماء نميربلون الثلج وبرودته، ينحدر من أعلى الجدار الزجاجي أو ما يحاكي الزجاج.. وكنبع ينثر الفضة في الفضاء يفور أمامي مصدراً نشيشاً هامساً رقراقاً.. ناشراً رذاذاً نديّاً منعشاً يحيط بجسدي.. أنهل الماء ويبتل ريقي دون أن أقترب أو أغترف.. تجتاحني رغبة طاغية في الانطلاق بعيداً بعيداً إلى مجهول قصيّ لا أعرف له أين..؟
شموس لألاءة تنتشر في الأفق.. أقمار كثيرة تسبح في الفضاء.. في أفلاكها محلّقة كأسراب اليمام.. أجرام غريبة التكوين والتلاويين.. مختلفة الأشكال والأحجام تبدو بعيدة وقريبة أيضاً تكاد تلمسها يداي.. تدور وتدور حول شمس كبيرة جداً بدت كالأم الرؤوم لها جميعاً.. من حولها صغارها ترعاهم بحدب.. كثرة بلا عدد.. أجرام بلا حصر..
إلى أين تراه يمضي عني بين فينة وأخرى..؟ ما إن أذكره في غيابه حتى أراه أمامي.. ها هو ذا قادم.. لكأنما أستدعيه حينما أذكره.. أو كأنه هو مَنْ يبعث برسائله إلى سرٍّ مجهول في كياني.. ألتقطها دون وعي مني.. ألديه جهاز إرسال كوني هائل.. وأكون جهاز استقبال صغير.. أهو بثٌّ كوني يتدفق في شتى أرجائه..!؟ بعض مظاهره تتبدى في عالمنا بين أشخاصٍ موهوبين يتبادلون الرسائل والتخاطر عن بعد.. يسمونها حيناً إلهاماً وحيناً اتصالاً عن بعد أو telepathy عند غيرنا. يبادهني بالقول:
ـ هل أمتعك ما شهدت في غيبتي من هذه الآيات البينات وهذه النعمى التي أعدَّت لكم لدى انتقالكم.. أعني الجديرون بها من بينكم.
أجبته مجاملاً.. ومنافقاً أيضاً:
ـ متعتي في حضورك أكثر..!
ولكن ليتني لم أقلها..
أشاح بوجهه عني وهو يردد بصوت خفيض، على خلاف ما عهدت منه:
ـ يا لهذا الكذاب الأشر..
وإذ سمعت قولته انتابني الغضب وكأني نسيت مكاني ومكانتي منه وإلى من أتحدث فقلت:
ـ أيليق بك يا سيدي اتهامي بالكذاب.. والأشر أيضاً..؟
ـ بلى إنك لكذلك فأنت تجاملني.. أي تتملقني.. وإنك لا تتمنى شيئاً الساعة أكثر من انصرافي عنك عسى أن تعيش على الأرض كرَّة أخرى الأمر الذي يخالف نواميس الكون وقوانينه، هل سمعت بميت عاد إلى الحياة..؟
ـ ولكني لم أمت بعد، فمطلبي إذن ليس مخالفاً لتلك النواميس.. ما أحسب إلا أنك تساهلت معي حقاً لسبب لا أدريه وأيم الله.
ـ ولماذا يذهب بك الظن إلى هذا التصور..؟
ـ ما أظنك تقضي مع كل من تزمع قبض روحه مثل هذا الوقت. وما أحسبك تتبسط في الحوار وتبادل الحديث معه وتطيل الصبر عليه على النحو الذي بدا لي منك وإلا فلن تنجز مهماتك الجُلىَّ الملقاة على عاتقك كما ينبغي..! لن تموت عندئذ إلا قلةمن البشر.
ـ ما زلت على عظيم جهلك وسقيم عقلك. أنا أولاً لدي أعوان من الملائكة يقومون بالمهمات المنوطة بهم. هم رسل الموت. ثانياً وهنا أعيد عليك ما سبق أن أنبأتك به من أن الزمن الذي تحسبه طويلاً مديداً لا يعدو أن يكون ثواني قليلة في أي حلم يرد على أحدكم في منامه أو غيبوبته، وإن بدا لكم غير ذلك.. حتى إنكم إذا ما سئلتم يوم الحساب: كم لبثتم في دنياكم، سيكون جوابكم لبثنا يوماً أو بعض يوم.. بل إن واحدكم يساوره هذا الإحساس في لحظاته الأخيرة.. إنه ليشعر بما يشبه اليقين بأن ما مضى من حياته لم يكن أكثر من ذلك.. يوماً أو بعض يوم..! أما صبري على الحوار معك والتحدث إليك فهو من باب التنوير للإنسان الموشك على الرحيل إلى الدار الآخرة لكي يطلع على ما هو مقبل عليه. وهذا من فضل الله عليكم ورحمته بكم..
وإذ هممت أن أبدي قولاً باغتني بانقضاضه عليّ، انقضاض النسر على فريسة. جثم على صدري وأطبق على عنقي بيديه الضخمتين. أنفاسه اللاهثة المتلاحقة كالفحيح تلفح وجهي. أصرخ مستغيثاً.. ولكن.. أين صوتي..؟ أدفعه عني.. لكن يديَّ لا تتحركان.. جامدتان.. بل مشلولتان.. أحاول النهوض.. أصبحت الآن داخل جسدي. ولكن الملاك يسمرني في السرير بثقله الرهيب فوق صدري. أطلق صرخة مدوية لكنها لا تتجاوز حنجرتي التي أوشكت أن تحطمها قبضته الجبارة.. حريق لاسع يلهبها. ارتفعت قبضتاه عن صدري بغتة.. علا جسده الضخم مبتعداً شيئاً فشيئاً وهو يرمقني قائلاً: عفا الله عنك.. علمت للتو أن لك بقية من عمر في هذه الدنيا مُنحتها لعلّ مبعثها رغبتك الشديدة في التشبث بالبقاء على قيد الحياة.. ربما.. ربما.. وها هي ذي الروح أرسلت إليك ولكن إلى أجل مسمى قد يطول وقد يقصر نسبة لحساباتكم الزمنية الوهمية. عندئذ أعود إليك كرَّة أخرى ولكنها أخيرة وحاسمة.
اختفى في لحظات.. أدرت عينيّ فيما حولي لاهثاً مضطرباً أبحث عن مغيث.. ولكن.. من هؤلاء..؟ أعرفهم.. ها هم أولاء أولادي من حولي.. أعرفهم.. ذويّ وأهلي.. الأولاد والزوجة.. الأصدقاء والأقارب.. الجزع يطلُّ من عيونهم.. ثم بغتة تنفرج أساريرهم فتعلوها بسمات مشرقة رهيفة فاترة مشوبة بالقلق. الحيرة بادية على الوجوه المضطربة المتوترة فيما كانت الممرضة الجميلة التي خيِّل إليَّ أني رأيتها من زمن سحيق تطمئنهم والبسمة ترف على شفتيها تقول:
ـ ها هو ذا يفيق من أثر المخدر.. الحمد لله على سلامته.. ألم أقل لكم حين كان يهذي طول الوقت ألا تجزعوا فكم هي سهلة عملية استئصال المرارة...!!
ثم جاء الطبيب ليتحدث إليهم وكأنه يعقد مؤتمراً صحفياً:
ـ احمدوا الله على نجاة مريضكم.. أيام قليلة يعود بعدها معافى وفي قوة حصان جامح..! لا أكتمكم ولا أخفي عليكم أن اختلاطات حرجة حدثت إبَّان إجراء العملية أوشكت أن تودي بحياته أكثر من مرة كان فيها يراوح بين الحياة والموت..
صمت قليلاً ليستأنف حديثه مبتسماً قليلاً وهو يقول:
ـ كان يوشك أن تتحقق فيه القاعدة.. الواحد بالمائة إياه دون أسباب واضحة للطب والأطباء. بيد أنه، ربما لرغبته العارمة في الحياة، تغلَّب على الأخطار التي أحدقت به إلى درجة أنه كان يهذي بين الفينة والأخرى.. يتخيل أنه يخاطب الموت.. ولا ندري ماذا أيضاً، مع أن هذا أمر غير مألوف في العمليات الجراحية اللهم إلا فيما ندر. أقول الحق لكم لقد كتب لرجلكم عمر جديد اسمحوا لي بباقي الأجور هناك عند المحاسب..!!
كنت أستمع لما يدور من حولي ولا أستطيع قول شيء لما حلَّ بي من إعياء يصاحبه إحساس غريب بأني آتٍ من مكان سحيق.. تخفت الأصوات.. يسود صمت ويعم هدوء.. أغرق في نوم عميق عميق يمضي بي إلى أحلام بهيجة.. إلى أفياء وارفات الظلال.. وأسراب حوريات بارعات الجمال....
|
|
|
|