27 / 12 / 2009, 44 : 01 PM
|
رقم المشاركة : [4]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: محرقة غزة ونهاية الأسطورة .. كتاب من تأليف د. يوسف جاد الحق
[align=justify] <H1 dir=rtl style="MARGIN: 5pt 0cm">الأسباب (الأهداف)الحقيقية الخفية للمحرقة
إذن كانت الأسباب المعلنة كلها باطلة مفتراة ومدَّعاة من أجل تسويغ العدوان المبيَّت، والمدبر سلفاً منذ ما ينوف على ستة شهور([1])، والذي يهدف إلى تحقيق أمور أخرى ذات أبعاد استراتيجية خطيرة. لعلنا في هذه المقاربة نستطيع تحديد أهمها.
هناك مخطط إسرائيلي قديم يقوم على استراتيجية أساسية هدفها الأسمى إقامة (دولة يهودية) صرف، يسمونها (نظيفة) أو (نقية) أي خالية من أي عنصر آخر. حتى إن بعض الإسرائيليين الجدد يخطِّئون الآباء القدامى لأنهم لم (يستأصلوا) الفلسطينيين تماماً في حرب عام 1948. وإذا كان أولئك قد عجزوا عن فعل ذلك يومئذ، بسبب من ظروف كانت قائمة حالت دونه، فقد كان في وسعهم ـ هكذا يقول هؤلاء ـ أن يفعلوه عام 1967 عندما احتلوا ما تبقى من فلسطين (قطاع غزة الذي كان تحت إدارة مصرية، والضفة الغربية التي كانت تحت إدارة أردنية)، وأراضٍ عربية أخرى هي سيناء المصرية، والجولان السورية. وما داموا لم يقدموا على ذلك في الحالتين فما الذي يحول دونه اليوم..؟
يرى هؤلاء أن على إسرائيل استدراك ما فات والعمل على تنفيذه الآن، فالظروف أصبحت مهيأة تماماً، ومواتية على نحو قد لا يتكرر في المستقبل، لا سيما وأن الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة بوش قبل رحيلها) إسرائيلية قلباً وقالباً. إسرائيلية أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، بفضل (المحافظين الجدد)، وهم يهود صهاينة في مجملهم، يحيطون بالرئيس ــ الألعوبة إحاطة تكاد تكتم أنفاسه، بل وإن بعضهم يقيم معه في أبهاء البيت الأبيض. نذكر، على سبيل المثال أحدهم هو (الحاخام جيري فالويل) الذي كان، قبيل وفاته منذ وقت قريب، يقيم هناك، يشارك الرئيس إفطاره كل صباح، بعد أداء صلاة يهودية وإقامة طقوس تلمودية بقيادة فالويل. وقد أوحى إليه هذا بأنه (ملهم) وأنه (مختار) من العناية الإلهية في السماوات العلا من يهوه ذاته..!، لكي يقاتل المسلمين في أفغانستان والعراق أولاً، ثم يذهب إلى ما تبقى من أقطارهم وديارهم واحدةً إثر أخرى. وقد رأينا تحرشه بإيران وباكستان والسودان وسوريا والصومال... وقد بلغ الأمر حدّاً أن بوش هذا لم يعد يتورع عن الإعلان جهاراً بأن الله (يأتيه) في منامه ليطلب إليه تنفيذ ما أمر به (فالويل)، وأن هذه مهمة (صليبية) مقدسة مكلف هو بها من الله..!! والغريب أن جورج بوش لم يفطن إلى أن فالويل من ألدّ أعداء السيد المسيح عليه السلام([2]).
إضافة إلى هذا كله، وهو على قدر بالغ من الأهمية أن هناك نفر من بين الفلسطينيين استطاع شراءهم أو تدجينهم بحيث أمسوا على استعداد للتعاون معه والتجاوب مع مطالبه، سياسياً بل وأمنياً أيضاً. بل إن بعضهم بنى صداقات شخصية مع أقطاب الإرهاب من حكام إسرائيل. من هؤلاء جماعات أوسلو وهذه إحدى إفرازاتها الغاشمة الظالمة الضالة.
لم يعد غريباً، والحالة هذه، أن يمضي (جورج بوش) في دعم توجهات إسرائيل التلمودية من جهة، ثم دعمها على الصعد الأخرى العسكرية والمالية، كما في المحافل الدولية كافة من جهة ثانية. من ضمن الوعود السخية التي قدمها (بوش) لهؤلاء ما لا يقل خطورة عن وعد (آرثر بلفور عام 1917) حين أقرَّ (أولمرت) مؤخراً على القيام بتنفيذ فكرة (الدولة اليهودية) في فلسطين كلها، بحيث تشمل أيضاً عرب 1948 الذين هم أصل السكان، أصحاب البلاد الشرعيين منذ آلاف السنين الذين لم يغادروا أرضهم عام النكبة.
من الأهداف الخفية الحقيقية غير المعلنة التي حرصوا على إبقائها طي الكتمان ما سنأتي على ذكره فيما يلي:
1ـ إسرائيل يهودية:
أي تهويدها بالكامل أي أن تكون (اليهودية) هوية الكيان.
هنا لا بد لنا من التوقف أمام مسألة (يهودية الدولة) هذه وخطرها على سائر الشعب الفلسطيني وقضيته.
المعروف أن اليهودية دين وليست قومية. من هنا فإن (الدولة اليهودية) المزمع تأكيدها وتوطيدها، هي (دولة) ذات إيديولوجية دينية تقوم في الأساس على مبدأ التمييز العنصري، والتعصب والانغلاق على معتقدات ومفاهيم تلمودية وتوراتية مغرقة في بدائيتها وتخلفها. أضف إلى ذلك أنها ستكون (الدولة) الوحيدة التي تقوم في عالم اليوم على أساس ديني صرف ــ سياسة وليس إيماناً بالدين اليهودي نفسه ـ أي أنها تحمل عنواناً دينياً، في ظاهره، ولكنها سياسة في مضمونها، غايتها إبراز التفوق اليهودي، كعنصر، على غيره من سائر البشر. ولعل تقليد (الجيتو الانغزالي) الحي اليهودي هو نفسه يعود اليوم ولكن في شكل(دولة) منغلقة على ذاتها ومواطنيها.
الغريب أن الحضارة الغربية التي عملت على فرض مفاهيمها على بقية أرجاء العالم، منذ قرون، لا ترضى عن قيام دولة ما على أساس ديني صرف، تستبعد من (مواطنيها) كل من هو ليس بيهودي، هذه الحضارة نفسها سوف تصم بالتخلف والتشدد والتطرف (وربما بالإرهاب) لو أن جهة ما أعلنت نفسها (دولة إسلامية نقية..!) لا تسمح لغير المسلم بالإقامة فوق أراضيها. هذا مع ملاحظة أن أرضنا التي يتواجد عليها الكيان الإسرائيلي ليست سوى أرض اغتصبتها شراذم عصابات تجمعت من شتى أطراف الأرض، ولم تكتف بذلك بل هي تريد الآن، عن طريق استيلاد مولود مشوه اسمه (الدولة اليهودية) حرمان أصحابها هؤلاء الشرعيين الحقيقيين من مجرد البقاء عليها، ليحل محلهم بولونيون، وروس، وخزر، وليتوانيون مافيات غريبة وقطاع طرق ليس إلا...
كيف يتسنى لهم هذا وفي غزة وحدها مليوناً ونصف المليون عربي فلسطيني؟ وغزة بصورة خاصة، ـ وهذا لا يقلل من شأن من في فلسطين من عرب آخرين ـ شوكة حادة في حلق الكيان الصهيوني لا تدري كيف يمكنها التخلص منها([3]). إذن فلنبدأ بغزة أولاً ثم نتبعها بالضفة، ثم عرب 1948 في وقت لاحق أخير. بمعنى أننا إذا ما نجحنا في غزة فسوف يسهل علينا عندئذ المضي في المخطط إلى نهايته. هذا هو لسان حالهم. ولن نتحدث الآن عن استراتيجيتهم الأبعد مدى لتحقيق (إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات) التي تنتظر نضج الظروف المواتية لتحقيقها.
ولكن ما هو السبيل إلى تحقيق الخطوات الأولى العملية الممهدة لما هو لاحق ونهائي وهو الهدف الاستراتيجي المبتغى؟
تتلخص الإجراءات العملية ــ ليصبح هذا واقعاً على الأرض ـ في الآتي:
أ ـ القتل السريع المباشر. إبادة فردية وجماعية.
ب ــ القتل البطيء والأساليب المفضية إلى ذلك عديدة ومتنوعة.
ح ـ زرع بذور الفتنة والشقاق بين أبناء الشعب الواحد.
د ـ تشويه سمعة الفلسطينيين والتحريض عليهم لكسب الموافقات على ما يرتكبون من جرائم في حقهم، ونسبتها إلى ما يسمونه (الإرهاب) عربياً وإسلامياً، وهذا يشمل الفلسطينيين بطبيعة الحال..!
الوسيلة ـ الهدف(أ): يتم عن طريق القتل الجماعي المباشر بالطيران وجيوش البر والبحر في عمليات ساحقة لا تبقي ولا تذر حيثما تقع، وتدمير البنية التحتية في الوقت عينه. والإبادة هنا لا تعني من يسقط شهيداً كرقم مجرد، ولكنها تعني أيضاً ما يسفر عنه في المدى البعيد هذا القتل لصالح المسألة الديمغرافية. فالألف تصبح عشرات من الآلاف في مدى معين من الزمن. إذن فلتقطع السبل على إمكان الإنجاب والتكاثر لهؤلاء الذين يقتلونهم. أي بعبارة أخرى قتل النسل وتقليله توطئة لإنهائه مع الزمن. وهم لا يحسبون الزمن بالأيام والشهور، وإنما بالسنين والعقود على التراخي، ليفعل الزمن فعله تلقائياً، والزمن خير معين ومنفِّذ في هذه الحال، لاسيما إذا بقي العرب على ما هم عليه من التراخي واللامبالاة إزاء ما يجري عليهم في عقر دارهم فلسطين.
وهم يعرفون، أو لعلهم أدركوا بالتجربة، وعلى مدى ستين سنة بعد عام 1948 أن الفلسطينيين تعلموا الدرس بعد عام النكبة، فهم لن يدفعوا إلى الهجرة مرة أخرى، وإنما هم متشبثون بأرضهم يفضلون الموت حيث هم على ثرى وطنهم، في أي مكان منه، وبأي وضع كان على أرض فلسطين.
يقول بعضهم هذه الأيام، لو أن الفلسطينيين صمدوا عام 1948 كما هو حالهم اليوم ولم يهاجروا جموعاً، زرافات ووحداناً، لما حصل الذي حصل، وبالكيفية التي جرت، ولتغيرت الصورة برمتها عما هي عليه الآن. ولكن هؤلاء نسوا, أو تناسوا الظروف التي كانت قائمة يومئذ. ومن أهمها أن الجيوش العربية التي أعلنت ــ عن طريق الجامعة العربية ـــ والمؤتمرات العربية آنذاك بأنها ستدخل فلسطين في 15 أيار من ذلك العام، فور خروج بريطانيا الدولة المنتدبة في ذلك التاريخ، بعد أن تخلَّت عن انتدابها في هيئة الأمم المتحدة، وأن على الناس أن يطمئنوا إلى أنهم بعد خروجهم، بعيداً عن ميادين القتال، لكي يسلموا بأرواحهم، سوف يعودون إليها مع الجيوش الظافرة معزَّزين مكرَّمين.. سالمين غانمين..!! هذا ما قيل لهم. صدَّق الناس ما ألقي إليهم من أقوال وما أزجي من وعود. وكيف لا يصدقون!؟ ألم تكن جيوشاً عربية سبعة (بقيادة البريطاني الميجر (جلوب) باشا..!!) ألم يكن اليهود قلة؟ أطلقوا عليهم، للتهوين من أمرهم عيارات من قبيل (شذاذ الآفاق) (شراذم اليهود) (حثالة البشر).. إلخ، في حين كانوا عصابات مدربة على السلاح والقتل كانت أهمها: الهاجاناه، وارغون، وشيترن، وتسيفاي ليئومي..
ومما ساعد على دفع الناس إلى الهجرة المؤقتة ـــ كما خيل إليهم وألقي في روعهم ــ حرصهم على أعراضهم أكثر من أي شيء آخر. فقد وقعت مذابح كثيرة، كان أهمها دير ياسين([4]) إذ عمد اليهود إلى تعرية النساء من أهل القرية، والطواف بهن في شاحنات في شوارع القدس، في عملية (استعراض) لشجاعتهم.. أما الرجال فقد ألقي ببعضهم جرحى وأحياء في الآبار. كان (مناحيم بيجن) يفاخر بأنه لو لم يفعل ذلك في دير ياسين لما غادر الفلسطينيون قراهم ومدنهم، ولم تقم بالتالي لإسرائيل قائمة. بيجن هذا شارك بنفسه في كل ما جرى هناك. ولسخرية القدر أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء في الكيان الصهيوني.
الظروف الآن غيرها بالأمس. عرف الفلسطينيون معنى الهجرة، وما رافقها من تشرد واغتراب ومهانة خارج الوطن. عرفوا أن من لا وطن له لا كرامة له، وأصبح شعارهم، من ثم البقاء في فلسطين أو الموت دونها.
الوسيلة ـ الهدف (ب): وسائله متعددة ومتنوعة في المتناول ما دامت الأرض محتلة وأهلها شبه عزَّل. ومن ثم يمكن أن يصطنع العدو ما شاء من أسباب لكي يصل إلى غايته. يعينه على ذلك ضلوع قوى كثيرة في العالم، معظم الغرب وبعض العرب والمسلمين الذين يأتي ظلمهم وضلوعهم (أشد مضاضة على النفوس من وقع السيوف وحراب البنادق). ومن هذه الوسائل (التجويع) عن طريق الحصار ويتبعه (المرض) بدون وسائل علاج. التعرُّض للجوع والخوف والحرمان من سائر وسائل العلاج، يستتبع بالضرورة إضعاف البنية للكائن البشري نفسه فكراً، وشخصية، وجسداً وروحاً، يضاف إلى ذلك نشوء عقد نفسية كثيرة تفضي إلى كآبة ممرضة، ويأس قاتل يؤدي في النهاية إلى الاستسلام حين يعجزون عن المقاومة، وتنحصر همومهم في البحث عما يسد رمقهم ويقيم أودهم. لن يصبحوا، أو لنقل لن يصبح من يبقى منهم، بعد الموت وبعد الرحيل (transfer) أكثر من خدم أقرب إلى العبيد، وكأنه رقٌّ مقنَّع. ولا ننسى في هذا الصدد إجراءات وقف الدراسة وتراجع التعليم لتسود الأمية والجهل. على غرار ما حصل في العراق، فأصبحوا يتربصون بالعلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين وسائر الفئات المثقفة في شتى حقول المعرفة والعلم، يترصدونهم ثم لا يتورعون عن قتلهم، جهاراً نهاراً، على أيدي جماعات الموساد، ومن على شاكلتهم من أمريكان ومرتزقة. حتى أن أمراً على هذا القدر من الإجرام أنيط القيام به إلى شركات تجارية... قوام تجارتها (كبضاعة) الإنسان نفسه، مثل شركة
(Black water) المأجورة التي اشتهرت بجرائمها المروعة في بلاد الرافدين([5]).
يضاف إلى ما سلف إجراءات تلويث البيئة، من قبيل تعمد تخريب البنية التحتية، من بينها مصادر المياه بحيث تختلط مياه الصرف الصحي بماء الشرب. وفي هذا ما فيه من بلاء، وما له من أخطار وآثار على الصحة العامة. وكذلك تدمير وسائل المواصلات والطرق وآلات الري والزراعة والصناعة، وانقطاع الكهرباء وفقدان الوقود. ماذا يتبقى بعد هذا ليتحقق الموت البطيء الناجز، ثم التلاشي مع الزمن..؟ لم يبق إلا الهواء يمنعونه عن الفلسطينيين هناك لو استطاعوا...!
أما عن تسريب أطعمة ملوثة فحدِّث ولا حرج. وهم قادرون مقتدرون على استيراد وتوزيع مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك البشري، محملة بنسب من عناصر الإشعاع باليورانيوم أو الراديوم أو التسمم بالزرنيخ والرصاص ضمن المواد الحافظة، بزيادة كمياتها عن النسب الآمنة. ولهم في دول الغرب الصناعية (المتعاونة) من يؤازرهم، ومن يسهم في ذلك كله، إلى حد استخدام أسماء شركاتهم وعناوينها وماركاتها في أوروبا وأمريكا إبعاداً للشبهة عن إسرائيل، التي يمكن أن يحاذر الناس من الاقتراب من منتجات تحمل أسماء وعناوين شركات إسرائيلية. وهذه تفضي بطبيعة الحال إلى انتشار أمراض فتاكة قاتلة، كالسرطان والفشل الكلوي وقصور القلب وتشمع الكبد وهشاشة العظام وغير ذلك كثير لتفعل فعلها المضمون مع الزمن كواحد من أسلحتهم في حربهم الضروس الديمغرافية.
ألم يتسرب في وسائل الإعلام منذ سنين عن جهات إسرائيلية تعمل في جامعة (تل أبيب) ومخابرها العلمية أنهم بسبيل إنتاج فيروسات لا تصيب غير العرب؟ استبعد الكثيرون إمكان ذلك من الناحية العلمية العملية، واعتبروه بمثابة النكتة، أو أنه ضرب من الخيال الجامح، أو هو من قبيل الحرب النفسية لإثارة الرعب والبلبلة في النفوس، فهم لا يدَّخرون وسيلة في حربهم علينا. ثم تبين أن هذا يقع في حدود الممكن إذا ما أخذ في الحسبان ما توصل إليه العلم في مسائل الجينات والمورثات والكروموزمات والحمض النووي، واختلاف هذه بين شعب وآخر، واحتمال التأثر بها لدى شعب ذي خصائص معينة تميزه عن غيره حسب عرقه وفصيلته وجنسه (Race).
الوسيلة ـ الهدف (ج): هدفت هذه الوسيلة إلى زرع الشقاق وتأجيج الخلاف بين أبناء الشعب الواحد.
وإذ وجدت إسرائيل نفسها عاجزة عن استخدام العامل الديني والطائفي ــ لانعدام مقوماته في فلسطين العربية ــ لجأت إلى تحريض فصيل على فصيل، واستطاعت ــ للأسف البالغ ــ أن تغري جماعات بعينها بالمال وبالمناصب في سلطة، هي في الواقع ليست أكثر من وهم خادع، إذ ليست لها أي مقومات تصلح لأن تقيم سلطة([6]) ذات سيادة في ظل احتلال مسيطر على كل شيء كقوة عسكرية، وبالنفوذ السياسي السلطوي المتسلط. وكان هؤلاء من جماعة اتفاقية (أوسلو) الموقعة بين عرفات ـ عباس عن الجانب الفلسطيني، وبيريز ـ رابين عن الجانب الإسرائيلي عام 1993، استطاعت تحقيق هدفها في خلق انقسام وشقاق وأزمة عصية على الحل فيما بدا حتى الآن على الأقل.
مضى الإسرائيليون في لعبتهم الخطرة. وقد شجعهم على ذلك استجابة ذلك الفريق المطلقة لرغباتهم بوضع كافة أوراقهم، بل ومصير القضية برمتها والشعب الفلسطيني في قبضة العدو، ما دام هذا العدو يسمح لهم بسلطة تحقق لهم مصالحهم الشخصية ولو كان ذلك على حساب قضيتهم المقدسة.
كما لجأ العدو إلى إثارة النزعات القبلية والعشائرية والعائلية عند من لا فوارق مذهبية أو طائفية بينهم من العرب، فقسموا الناس إلى خصوم وإلى موالين في السياسة، والمناصب والمؤسسات، إلى معتدلين ومتطرفين. وجدير بالذكر أن شعب فلسطين عاش على الدوام بمسيحييه ومسلميه ــ وهم قوام الشعب الفلسطيني ــ في محبة ووئام على مدى أربعة عشر قرناً منذ العهدة العمرية في أوائل الفتح الإسلامي تجمعهم راية الوطن والمواطنة.
الوسيلة ــ الهدف (د): تشويه سمعة الشعب الفلسطيني خاصة، والعربي والإسلامي عامة أمام الرأي العام العالمي.
واصلت إسرائيل ــ كما في السابق ــ دمغ المقاومة والشعب الفلسطيني ـ بوصفه حاضناً لها ـ بالإرهاب. وقد سبق لها أن ربطت بين ما حدث في الحادي عشر من أيلول 2001 في أمريكا (حادث البرجين والبنتاجون)([7])،وإعلان أمريكا الحرب على (الإرهاب) وما بين ما تتعرض له هي (كذباً بطبيعة الحال) من تهديد لأمنها عن طريق (الإرهاب الفلسطيني)، واستطاعت بذلك أن تضفي على جرائمها صفة الشرعية. وكان (جورج W بوش) الصغير خير مؤيِّد لها، ومعه من حوله (بطانة من المحافظين الجدد) وجلهم، كما هو معروف من اليهود الصهاينة أمثال: ريتشارد بيرل، وبول ولفتز، ودانيل بابيس، والحاخام جيري فالويل وغيرهم.
وإلى جانب هؤلاء في إدارة بوش ضالعون خاضعون لرغبات تلك العصابة أمثال (دونالد رامسفيلد) وزير الدفاع، و(ديك تشيني) نائب الرئيس، و(كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية التي اتخذت بدورها معاونين لها من اليهود أمثال (ديفيد ساترفيلد)، (كان سفيراً لأمريكا في بيروت) و(ديفيد والش) ذلك الحاقد البغيض.
استطاعت هذه المجموعة أن تلعب على الوقت ـ مع الرئيس بوش ـ فتضيع من عمر القضية الفلسطينية ثماني سنوات كاملة، في ظل أوهام السعي نحو السلام للوصول إلى إقامة (دولة فلسطينية) وهمية، وهو ما أسموه آنذاك بمبدأ نظام الدولتين، فلسطينية وإسرائيلية. وقد أعلن ذلك الرئيس (بوش) منذ الأيام الأولى لدخوله البيت الأبيض، ولكنهم بدهاء منقطع النظير استطاعوا تمييع المسألة برمتها في مفاوضات عبثية لم تحقق شيئاً مستخدمين في ذلك عناوين مضللة لخطط وهمية كخارطة الطريق وانا بوليس وأخواتها الكثيرات. وإلا فأين هي نتائج ذلك كله غير قبض الريح..!؟ والعجيب في الأمر أن المفاوض الفلسطيني ــ عباس وجماعته، قريع وعريقات وعبد ربه ــ استساغوا اللعبة ومضوا فيها دون تردد حتى نهاية عهد (بوش). ولا نعتقد أن هؤلاء كانوا على قدر من الغباء بحيث أنهم لم يدركوا حقيقة اللعبة، بل إنهم كانوا على معرفة بها تماماً، ولكنهم ــ كما أسلفنا ــ تقاطعت مصالحهم الشخصية الأنانية مع مصلحة إسرائيل وأمريكا، ضاربين عرض الحائط بقضيتهم وبشعبهم معاً، وبمصالح وطنهم المقدس قبل كل شيء وبعده.
مشروع الشرق الأوسطالجديد أو (الكبير)
هو مشروع يهودي صهيوني تشاركهم إياه أمريكاـ وإن يكن لمصلحة إسرائيل واليهود عامة ــ ربما تأميناً لمصالحها في المنطقة في المستقبل البعيد ــ حسب اعتقادها ـ والغاية منه متعددة الجوانب، منها:
(أ) ـ أن تصبح إسرائيل كياناً مقبولاً ضمن نسيج المنطقة، ولا تعود غريبة عنها في نظر أهلها وأصحابها الأصليين. هذا المشروع يسعى ـ من بين أهدافه الخبيثة ـ إلى إبطال القول والعمل بالانتماء القومي العربي، من جهة، والإسلامي من جهة. من ثم يصبح التطبيع، بأوسع صوره ومعانيه مقبولاً، وأمراً واقعاً، بعد أن فشلت في تعميمه، ناهيك عن ترسيخه بمعاهدات رسمية وقعت مع العدو([8])، ومساعي جهات كثيرة إسرائيلية وغربية وعربية. وهم يأملون من وراء هذا أن يغدو التواجد الإسرائيلي ــ اليهودي في المنطقة العربية برمتها أمراً طبيعياً عادياً مألوفاً. وأن يصبح كذلك علم إسرائيل الذي سوف يرفرف في كل مكان من البلاد العربية، التي ستكون مجالاً حيوياً لنشاطهم التجاري والاقتصادي. إضافة إلى هذا العمل على نشر ثقافة دخيلة فاسدة تعزز هذا التوجه العام على المجتمعات العربية والإسلامية، عن طريق الفنون والآداب، وبرامج التعليم والتربية، والإعلام المغرض وغيرها. النتيجة الطبيعية لهذا كله هي انتفاء كل احتمال للعمل من أجل تحرير الأرض الفلسطينية، والقضاء على حق العودة تماماً، وتكريس الوضع الإسرائيلي القائم في القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل، وما يستتبع ذلك من ضياع للمسجد الأقصى وإقامة (هيكل سليمان) مكانه. وبحسب هذا المشروع سوف يتملك اليهود في المنطقة العربية كلها عقارات (أراضي ومباني ومؤسسات)، وسوف يقيمون البنوك والبيوتات المالية والمصالح والمؤسسات الاقتصادية، والشركات متعددة الجنسيات، العرب فيها في أدنى سلَّمها. ومن شأن ذلك ـ بطبيعة الحال، ومن قبيل تحصيل الحاصل ـ مشاركة العرب في نفطهم ومشتقاته وثرواتهم الدفينة والظاهرة، ومياههم الجوفية وبحارهم وأنهارهم، واستخدام طرق مواصلاتهم من مطارات ومرافئ وغيرها. وهم قادرون على ذلك بما لهم من خبرة، وما يملكون من مال، وإمكانات دعائية وإعلامية، وبما يتصفون به من دهاء وخبث، ونفسية المرابي اليهودي التقليدية التي عرفها الغرب قبلنا، ودخلت في ثقافته عنهم، وما حكاية (شايلوك) في تاجر البندقية لشكبير عنا ببعيد، و(يهودي مالطا) لكريستوفر مارلو([9]) التي تبرز ولاءهم للأجنبي، وخياناتهم لوطنهم الذي يؤويهم ومواطنيهم الذين يعايشونهم.
من أهداف مشروعهم الرهيب هذا إعفاء إسرائيل من مسؤولية كل ما قامت به حتى الآن في حق الفلسطينيين والعرب، بدءاً من إنشاء كيانها نفسه على أرض ليست لهم، إلى إعفائها من مسؤولية مذابحها وشتى صنوف جرائمها المنكرة المعروفة، ما دام العرب سوف يتعايشون معها في (سلام ووئام)، تخفق فوق رؤوسهم وعلى ربوعهم الرايات ذات النجمة الزرقاء.! إذن سوف تنتفي عنها صفة المغتصب للأرض الفلسطينية (قطر عربي كامل بكل ما فيه وما عليه) ينالونه منحة ومجاناً، وعلى حساب دماء سالت من أجل استعادته لو جمعت لكوَّنت أنهاراً، وأرواح لم تخضع أعدادها لإحصائية دقيقة حتى الآن لكنها ـ فلسطينية وعربية ـ تعد الملايين دونما ريب.
أما الأراضي العربية الأخرى فلن يعجز الحكماء والمتساهلون والمطبعون عن (اختراع) حلٍّ مناسب بشأنها ـ من وجهة نظرهم ـ يرضي (الأصدقاء والأحباء) الجدد، أولاً وقبل كل شيء، ودون اعتبار لمصالح بلادهم ذاتها..! وبذا يتحقق لها ما هو أكثر مما اتخذته شعاراً لها منذ بداية الحركة الصهيونية: "أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل"، شعار لما يزل حتى الساعة يزيِّن واجهة الكنيست في القدس المحتلة.
من المعروف أن الأب (الشرعي) لهذا المشروع الخبيث هو (شيمون بيريز) إيَّاه رئيس الكيان حاليّاً، وهو صاحب قانا 1996، وأخواتها السابقات واللاحقات التي لم يأل جهداً عن الإسهام فيها كانت آخرها قانا الجنوب اللبناني في عدوان عام 2006. كما أن (بيريز) هذا هو منشئ مفاعل (ديمونا) الذري في النقب وفي ريشون الواقعة على طريق (يبنا ويافا) مع الفرنسيين عام 1954. وقد أصدر الرجل كتابه بعنوان (الشرق الأوسط الجديد) في أوائل التسعينيات. وقد تبنى مضامينه أتباع جدد، من بينهم (جورج دبليو بوش)، و(ديك تشيني)، و(كونداليزا رايس). وقد تصور هؤلاء أنه حان الوقت لوضعه قيد التنفيذ، فذهبوا إلى حرب غاشمة مفتعلة أسبابها، على لبنان عام 2006، آملين إنهاء المقاومة اللبنانية التي وقفت حجر عثرة في وجه مخططهم هذا وغيره للانطلاق، من ثم نحو الإجهاز على أي مقاومة أخرى ـ في فلسطين على الخصوص ـ عندما يتحقق لهم النصر على حزب الله أولاًـ، وهو ما كانوا يعتقدون أنه قادم لا محالة.
أليست ترسانتهم الأمريكية كفيلة بتحقيق ذلك!؟؟
لقد حسبوا أن الأمر لن يتطلب أكثر من أيام معدودة ولكن الحرب طالت، وجاءت (رايس) إلى المنطقة لكي تحث مجرم الحرب العتيد (أولمرت) وزمرته على المضي في حربهم العدوانية حتى النهاية. وجاءت (النهاية) بعد ثلاثة وثلاثين يوماً لتخيّب آمالهم وتحبط مساعيهم. ولم يخرجهم من ورطتهم كالعادة سوى تدخل أعوانهم وحلفائهم المخلصين المعروفين عن طريق مجلس الأمن ـ الأمريكي ـ وقراراته، لاسيما قرار 1701 الذي أمَّن لهم المخرج المناسب بوضع قوات (اليونيفيل) الأجنبية كحاجز بين إسرائيل وجنوب لبنان.
وهاهي المحاولة تتكرر من جديد في أيامنا هذه مع المقاومة الفلسطينية على أرض غزة، كصورة طبق الأصل عما سعوا إليه في لبنان.
غزة أسهل منالاً، فهي أرض مكشوفة، محاصرة، يعاني أهلها شظف العيش حتى الفاقة والجوع والمرض. غزة هي الحلقة الضعيفة. أيام ثلاثة وربما أقل، وينتهي الأمر بعد أن نقتل من نقتل ونشرد من نشرد، وندمر ما ندمر، ينتفض الناس على حماس والفصائل المقاومة الأخرى. نقتل القيادات، اغتيالاً وقد يستسلم من بقي منهم. ويغادر الباقون من الشعب (هرباً) للنجاة بأرواحهم وأعراضهم. إذن فلنبطش بغزة وأهلها فنصيب أهدافاً كثيرة بحجر واحد..! جولة طيران كاسحة F16 وأخواتها كفيلة بكل ذلك. ثم الاجتياح البري يليه بدفق من دبابات (الميركافا). ألا تملك من السلاح ما كان معداً لمناجزة الاتحاد السوفياتي في أيام عزِّه التليد؟ وليكن عنوان حربنا (الصدمة والترويع) و(الرصاص المصبوب). الصدمة بالمفاجأة والمباغتة والناس آمنون وربما نيام. و(الترويع) ترويع الأطفال والنساء، وإثارة الرعب في قلوبهم وحرمانهم النوم، ما دام الطيران يدوي ويقصف، والمدافع تهدر ليل نهار، والبيوت تدمَّر فوق رؤوس ساكنيها، ومن تكتب له النجاة (بمعجزة) يجلس على الأنقاض يندب أهله الذين ذهبوا، وحظه البائس التعس، ينسب كل ما هو فيه من شقاء وحزن وبؤس إلى المتسبب (حماس) و(المقاومة)، وإلى عربه الخانعين الذين لن يفعوا شيئاً سوى الفرجة وهم جلوس على مقاعدهم الوثيرة أمام الشاشات الملونة الجميلة، تريهم الدماء النازفة، حمراء قانية، وكتل الإسمنت المنهارة، أليس هذا (ترويعاً) مثالياً؟ أوَ ليست هذه (صدمة) مدهشة أمام العالم كله..؟ ولسوف نستعيد هيبة جيشنا المقدام وقوة ردعه التي فقدت في جنوب لبنان..!
هذا هو الحساب الإسرائيلي، بل كان هذا هو الحلم (الإسرائيلي ـ الأمريكي ـ الأوروبي الغربي ـ العربي المعتدل) ولكن حساب الحقل لا يأتي غالباً على حساب البيدر فبدلاً من الأيام الثلاثة غرق العدو في مستنقع لم يحسب له أي حساب، فتحولت إلى ثلاثة وعشرين يوماً خسر فيها من قواته الكثير. لم يستعد هيبة جيشه بل عزَّز القناعة في الداخل والخارج، مرة أخرى، بأنه جيش (قُهر) ويقهر في أي مواجهة مع رجال المقاومة. لم يحقق أياً من أهدافه قريبة المدى.. وربما بعيدته. لم يثر الشعب على حماس والمقاومة، بل تعززت صورة المقاومة، وكسبت سمعة عالية عالمية. كسب الفلسطينيون عطفاً عالمياً داعماً غير عادي. خسر العدو سمعته التي صنعها له على مدى سنين طويلة إعلام كاذب. جلب لنفسه عداوة عالمية على مساحة الكرة الأرضية، بحيث لم يبق بلد لم تقم فيه المظاهرات العارمة المنددة بإسرائيل، الكارهة للصهاينة واليهود، النازيين([10]) عموماً. موقنة بأن هذا هو الإرهاب عينه. متسائلة إذا لم يكن هذا هو الإرهاب فما هو الإرهاب إذن..؟
سقط مشروعهم للشرق الأوسط (كبيراً كان أو جديداً) سقوطاً (مروِّعاً) وكانت (الصدمة) لأصحابها مجتمعين (مروِّعة) كذلك..!
أما مشروعنا نحن لهذا الشرق الأوسط فسيكون حسب مشروعنا ورؤيتنا ومصلحتنا. نعم سيتغير هذا الشرق ولكن على طريقتنا، نحو الأفضل لأمتنا. المقاومة اللبنانية عام 2006 والمقاومة الفلسطينية راهناً أسقطتا هذا المشروع.
وما نحسب أن هذا المشروع تقوم له قائمة بعد ذهاب (بوش وتشيني ورايس)، وبعد انحسار نفوذ المحافظين الجدد، إضافة إلى المتغيرات الجارية والمتسارعة على الصعيد الدولي، بما في ذلك الداخل الأمريكي نفسه. بما في ذلك أيضاً المقاومة العربية الإسلامية المتصاعدة في هذا الشرق، وظهور أنصار لها في أماكن كثيرة من العالم دولاً وجماهيراً.
أما السبب الخفي الحقيقي الثالث فهو:
3 ــ تحويل العداء العربي لإسرائيل نحو إيران أي (استبدال إيران بإسرائيل عدواً)..!
من الأهداف الخفية، غير المعلنة لحرب إسرائيل ـــ أمريكا العدوانية على غزة أن تصبح إيران هي (العدو)، وأن تغدو إسرائيل صديقة ورفيقة (وربما حبيبة) إلى قلوب من يقبل بهذا المنطق المقلوب والرخيص من العرب.
ترى هل أضحى من بين العرب من عميت بصائرهم إلى درجة فقدان القدرة على التمييز بين الصديق والعدو؟ ]إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور[.
هل أصيب هؤلاء بمرض عمى الألوان بالفعل؟
وهل بين العرب هؤلاء من يجهل تاريخ سبعين سنة أو تزيد من الاعتداءات والحروب الإسرائيلية على أمتهم التي قد لا يوجد أحد من أبنائها لم يصب على أيدي الإسرائيليين في عزيز؟
أم تراها المصالح الضيقة الآنية هي التي أعمت بصائر هؤلاء فصرفتهم عن النظر قليلاً إلى مستقبل أبنائهم وأحفادهم إذا ما قيِّض لإسرائيل النجاح في مراميها بعيدة المدى. ألم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا تعادي إسرائيل وأمريكا إيران؟
هل هناك من سبب غير موقف إيران من القضية العربية الفلسطينية، وهي التي من أجلها ناصبت إسرائيل وأمريكا إيران العداء؟
رأى الإيرانيون، بعد زوال عهد الشاه وانتصار الثورة الإسلامية أن بلادهم عادت إلى وضعها الطبيعي تجاه القضايا العربية الإسلامية. بادرت عند قيام الثورة والخلاص من (شاهنشاه إيران)([11]) إلى إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران، لتُحلَّ مكانها سفارة لفلسطين. ومنذ ذلك الحين درجت إيران على إقامة يوم للقدس في كل عام، يقع في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، الأمر الذي لم تقدم عليه أي من الدول العربية، صاحبة الشأن الأول في القضية الفلسطينية. دافع إيران إلى هذا التوجه الإسلامي إيمانها بأن فلسطين قضيتها هي أيضاً بوصفها ــ إيران ــ بلداً إسلامياً، وأن رابطة العقيدة الإسلامية بين إيران وفلسطين هي الإسلام. وفلسطين عاصمتها القدس، أولى القبلتين، وثالث الحرمين، حاضنة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، فهي إذن أرض مقدسة بالنسبة للإيرانيين، يقع عليهم واجب الدفاع عنها والجهاد في سبيل نصرتها وتحريرها سواء بسواء كأهلها تماماً. ومن ثم فهي تناصر أيضاً المقاومة الإسلامية في لبنان وتدعم بالمال والسلاح والرجال حزب الله في حربه المتصلة مع إسرائيل. إيران تعرف أن اليهود كانوا منذ الفتح الإسلامي وحتى يوم الناس هذا الأعداء الألداء للإسلام والمسلمين، ولرسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهي ــ إسرائيل ــ لا تفرق بين أحد من المسلمين حسب المذهب أو الطائفة. جميعهم لديها سواء في الخصومة والعداء.
وهذا التوجه الإيراني ذاته السبب، دون غيره، الكامن وراء معاداة الغرب ــ الأوروبي والأمريكي وصنيعته حليفته إسرائيل ــ لإيران المسلمة.
إذن كيف يتفق أن يشايع بعض العرب، وبعض المسلمين الغرب وإسرائيل فيناصبون إيران العداء؟ كيف يوالون العدو المشترك لنا ولإيران وينساقون وراء سعيهم لاستبدال المواقع فيصبح العدو صديقاً والصديق عدواً؟
وفي كتابه تعالى يقول ]لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا أباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...[
فما بالنا والموادة هذه مع عدو الأمة بمسلميها ومسيحييها على حد سواء.؟
بوادر هذا التوجه لوحظت سافرة في الآونة الأخيرة لدى فريق من العرب ــ الأنظمة. بل إن من بين هؤلاء من يأخذ على إيران تقديم العون للفلسطينيين في معركتهم مع العدو المحتل لديارهم، ويعدُّ ذلك عملاً مداناً، بدعوى تدخلها في قضايا تخص العرب وحدهم!! ويتناسى هؤلاء أنهم يسمحون بالتدخل السافر، بل الاعتداء المباشر من قبل من يوالونهم من أمريكان وإسرائيليين. يحدث هذا بدلاً من إزجاء الشكر لإيران على مواقفها النبيلة الجليلة الفاعلة إذ هي تمد إخوتهم بالعون المادي والمعنوي على كل صعيد، وكان حريَّاً بهم وأجدر وأولى أن يبادروا هم إلى فعل ما تفعله إيران. ومن بوادر هذا التوجه الخاطئ والمدان أن يبلغ الأمر ببعضهم حدّ مشاركة العدو الإسرائيلي ــ الأمريكي حصار الأهل في غزة فيمنعون عنهم الغذاء والدواء ووصول المعونات القادمة من الشرق والغرب لإنقاذهم مما يعانون من جوع ومرض وفاقة، ناهيك عن إقرارهم بضرورة الحيلولة دون وصول السلاح إلى المقاومة هناك. وكم كان مؤلماً للنفس أن نشهد هذا المستوى من التقاعس العربي، في الوقت الذي رأينا فيه أحراراً أوربيين وغيرهم يأتون مع السفن المحملة بالمعونات، هادفة إلى كسر الحصار عن الفلسطينيين العرب، لدوافع إنسانية لا تعوزها المواقف السياسية الداعمة للحق الفلسطيني. بل إن بعض هذه المعونات حيل بينها وبين الوصول إلى المحاصرين في غزة من إخوتهم الفلسطينيين، وهم تحت القصف تحيط بهم النيران من كل جانب ويواجهون الموت الزؤام على مدار الساعة.
ولقد عملت وزيرة الخارجية الأمريكية (رايس) بنفسها على تأجيج نيران هذا العداء لإيران، متخذة من حكاية التسلح النووي الإيراني (المحتمل) سبباً لتخويف بعضهم. مع أن هذا التسلح هو في مصلحتهم قبل غيرهم، إذ إن من شأنه أن يكون رادعاً لإسرائيل، التي تملك الآن، وفي هذه الساعة ما لا يقل عن أربعمائة قنبلة نووية أكبر أثراً وأعظم تدميراً من قنبلتي هيروشيما ونجازاكي([12]) المعروفتين. أليس الأولى بالعرب أن يخشوا قنابل إسرائيل القابعة في مرابضها بانتظار (كبسة زر) لتنقض على مدنهم وحواضرهم وبواديهم، في حين أن قنبلة إيران الأولى (مجرد احتمال) قد يقع وقد لا يقع؟ هذا إذا كنا أو كان بعضنا غير مقتنع بجدوى القنبلة النووية الإيرانية في خدمة المصالح العربية التي أسلفنا الإشارة إليها للتو.
أمريكا وإسرائيل لا تريدان لأي بلد عربي أو إسلامي ــ دون سائر خلق الله ــ أن يمتلك سلاحاً نووياً. هذا مع أن إيران حتى الآن ما برحت تعلن على الملأ بأن أبحاثها لم تتجاوز ولا تنوي أن تتعدى حاجز استخدام الذرة في المجالات السلمية، كالطاقة والطب وما إليها، وأنه، مرة أخرى، ليس في نيّتها على الإطلاق التطلع، فضلاً عن العمل على إنتاج (سلاح) نووي بدافع من حرصها على الإنسان، كائناً من كان، على ظهر البسيطة من منطلق ديني يحرِّم استخدام سلاح فتاك كهذا من شأنه أن يدمر البشرية فيما لو أفلت من عقاله لسبب أو لآخر. وقد صرح مسؤولوها بذلك مراراً وتكراراً.
وإنه ليمكننا القول بأن سلاحاً نووياً في حيازة العرب والمسلمين هو ضمانة الردع التي تحول دون استخدام إسرائيل لسلاحها النووي إذا ما كانت هي مالكته الوحيدة في المنطقة، لا تخشى رداً من نفس المستوى. السلاح الذري ردع أكثر منه استخدام. ولنا في ثنائية المعسكرين الشرقي والغربي في فترة الحرب الباردة بينهما خير مثال. فلقد امتدت الحرب الباردة إلى ما ينوف على أربعين سنة دون أن يلجأ أي من الطرفين إلى استخدام هذا السلاح، لأن كل جانب كان يخشى رد الجانب الآخر بالسلاح عينه وفي ذلك يكمن الخطر عليهما معاً. ونذكر بهذه المناسبة أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا وكانت توشك أن تسفر عن حرب ذرية لولا تراجع الزعيمين ـ آنذاك ـ نكيتا خروتشوف وجون كنيدي.
والغرب يسمي قنبلة الباكستان النووية (بالقنبلة الإسلامية) ويعلن مجاهرة، أنه ضد إنتاج (قنبلة إسلامية)..! هذا في حين أنه لم يسمِّ القنبلة الهندية التي أعلن عنها في الهند في وقت متزامن مع القنبلة الباكستانية بفارق يوم واحد، كانت فيه الهند هي السابقة، وإعلان الباكستان عن قنبلتها جاء ردَّاً على القنبلة الهندية، لم يسمِّ الغرب القنبلة الهندية يوماً بالقنبلة (البوذية) أو (الهندوكية) ولم يسمِّ يوماً القنبلة الأمريكية أو الفرنسية (بالقنبلة المسيحية) أو السوفياتية (بالشيوعية) ولا هو سمى القنبلة الإسرائيلية (بالقنبلة اليهودية)...! فما معنى هذا إذن إن لم يكن العداء الغربي السافر لكل ما هو عربي وإسلامي؟ هو العداء الغريب الموروث منذ حروب الفرنجة الصليبية الغربية على هذه المنطقة التي ابتليت بهم على الدوام.
عودة إلى ما نحن بصدده.
إذن لتكن إيران هي العدو وليست إسرائيل أيها السادة..! ولتكن إيران مدانة منذ الآن، ما دامت لا تخفي تقديم عونها للمقاومة في لبنان وفلسطين. هذا مع العلم بأن إيران لا تملك الوسيلة لإيصال السلاح إلى غزة، حتى لو أرادت، فالحصار العربي، قبل الإسرائيلي والأمريكي والأطلسي (الناتو)، يحول دون ذلك حرصاً على (أمن) إسرائيلهم، مع أنهم يعرفون أن إسرائيل هي التي تهدد أمن المنطقة برمتها، دون غيرها اللهم إلاَّ أمريكا معها.
ولكن إيران أمدت المقاومة اللبنانية بالسلاح فهو أمر لا يغتفر.. وهذه قرينة واضحة..!! (وبالجرم) المشهود.. والمسألة هنا تؤخذ (بالقياس) كما في الشريعة.. ثم (بالإجماع) على العداء من قبل الأوروبيين حلفاء أمريكا..!
ولكي ينجح المخطط الأمريكي ـ الإسرائيلي فقد عمدت (السينورة) كونداليزا رايس إلى تقسيم العرب (وتصنيفهم) إلى عربين (معتدلين) و(متشددين) (داعمين للإرهاب) تمهيداً للوصول إلى النتيجة المبتغاة. والغريب أن العرب لا يترددون في قبول التقسيمات والتسميات والتصنيفات والمصطلحات حين تأتي من أمريكا دون تدبر أو بحث، أو حتى مجرد تفكر، عما إذا كان أمرهم على النحو الذي صوَّرته أمريكا أم لا، هل ينطبق عليهم الوصف أم لا، هل المصطلح دقيق وصادق أم هو مضلل كاذب، فهل سأل العرب أنفسهم: هل هم (إرهابيون) حقاً؟ أم أن إسرائيل هي دولة الإرهاب في المنطقة؟ وأن أمريكا هي زعيمته في العالم كله..؟ هل فكروا في مآلهم ومصيرهم فيما لو ظلوا سادرين في غيهم، لاهثين وراء أمريكا التي قد تذهب بهم إلى هاوية، هي نفسها على وشك السقوط فيها..؟ هل فكروا: من هو العدو حقَّاً..؟
هم يعرفون مثلاً أن تحويل العداء نحو إيران بدلاً من إسرائيل سوف تكون له ـ لو نجحت في تسويقه وتعميمه ـ أثاره البعيدة المدى. من أهمها ترسيخ الوجود الإسرائيلي في نسيج المنطقة إلى ما شاء الله. ولن ينجو أحد من أخطاره عندئذ في هذا الشرق كله.
من أسباب النزوع الأمريكي تحديداً إلى هذا المنحى هو تلك الدراسات المشبوهة المغرضة التي اتخذت سمة فلسفية، كانت تصدر عن كتَّاب صهاينة مرموقين، أمثال (صموئيل هنتغنتون)([13]) الذي مات مؤخراً مع نهاية العام الفائت 2008، وكتابه المشهور عندهم (صراع الحضارات)، الذي ذهب فيه إلى أن الحضارة الإسلامية هي العدو الخطر على الحضارة الغربية. و(فوكوياما)، ياباني الأصل، صاحب كتاب (نهاية التاريخ) الذي ذهب فيه إلى أن (المبدأ الرأسمالي) هو الحل النهائي كنظام للبشرية. وهاهو قد ثبت أخيراً وآخراً خطل آرائه. وها نحن نشهد بوادر انهيار هذا النظام الذي أوقع المآسي والدمار بكثير من شعوب العالم. ولا تفوتنا الإشارة إلى كتابات (برنارد لويس) والإسرائيليين ـ الأمريكيين (ريتشارد بيرل وبول وولفتز) وغيرهما. وقد سبق أن عيِّن الأخير (وولفتز) مديراً للبنك الدولي من قبل الرئيس (بوش) ثم أخرج من منصبه أثر فضيحة جنسية أخلاقية.
ولا ننسى بهذه المناسبة أيضاً دور صهيوني ـ يهودي آخر كان لآرائه التي تبنتها الإدارة الأمريكية منذ عقود، هو (مارتن أنديك) صاحب مبدأ (الاحتواء المزدوج) (dual containment) والذي أنتج في معرض تطبيقه حرباً ضروساً بين إيران والعراق أودت بأرواح الملايين من مواطني البلدين الإسلاميين. فضلاً عن الدمار الذي لحق بهما اقتصاداً وتنمية، وذلك هو الهدف الذي سعوا إليه عن طريق ضرب الدولتين واحدتهما بالأخرى فسيخسران معاً ويضعفان معاً، وهذا هدف في حد ذاته لمصلحة إسرائيل وأمريكا قبل غيرهما.
(إنديك) هذا كان سفيراً لأمريكا في إسرائيل قبل ذلك، ثم مساعداً لوزيرة الخارجية الأمريكية (مادلين أولبرايت) في عهد الرئيس بيل كلينتون وقد أمسك به متلبساً في جريمة تجسس لصالح إسرائيل. ولكن (أولبرايت) احتضنته ـ فهما يهوديان ـ ودافعت عنه وحالت دون تعرضه لمساءلة من أي نوع كان. أكثر من ذلك أبقته في وظيفته معها.. و.. (عفا الله عما سلف) يا سيد أنديك، فذنبك مغفور ـ كيهودي ـ مهما اقترفت يداك..!
نجح الرجل وإدارته في التأليب على إشعال حرب ضروس بين دولتين تدينان بالإسلام. بالمناسبة فإن الكثير من أقطاب السياسة منذ القديم في الغرب لا يرون في غير الإسلام خطراً يمكن أن يهدد مصالحهم وحضارتهم.
يذكر التاريخ أن رئيس وزراء بريطانيا (بالمرستون) صرَّح عام 1840 في مجلس العموم البريطاني بالقول، فيما هو يرفع بيمناه المصحف الشريف: "أيها السادة أترون هذا الكتاب..؟ إن مصالحكم وطرق مواصلات إمبراطوريتكم إلى الهند وشرق آسيا ستظل مهددة مادامت هناك شعوب تدين بهذا الكتاب. إنه الخطر الأعظم على حضارتكم".([14])
الإسلام هو العدو إذن، ولأن الإسلام يتمثل الآن في إيران، كنظام حكم رسمي أكثر من أي بلد إسلامي آخر، فلتكن إيران هي العدو.
بلى، الإسلام هو العدو، ومن ثم فالحرب ما برحت قائمة لا تقعد على بلدان إسلامية عدة دون غيرها من دول العالم. وتهمة الإرهاب أضحت بفضل إعلامهم لصيقة بالمسلمين، دون غيرهم من شعوب الأرض. وبحجة الإرهاب، ودواعي محاربته بلا هوادة يشعلون حربهم على أي بلد إسلامي يشاؤون. وقد عملوا ــ عن طريق إعلام فاجر رهيب، على إعداد الأرضية المثالية لتهيئة أذهان الجماهير والرأي العام في كثير من بلدان العالم لتقبُّل مسوِّغاتهم ومبرِّراتهم الكاذبة كلما شاءوا استهداف بلد ما، في وقت ما، دون أن يجدوا من يفند دعاواهم الباطلة المضللة، ناهيك عن أن يقف أحد في وجه عدوانهم، أو حتى مجرد أدانتهم.
هذه هي الصورة التي كانت قائمة حتى الآن. ولكن قد يغير في الصورة ما حدث في غزة في الآونة الأخيرة، فالذي حدث ربما كان من حسناته أنه كشف الكثير من الحقائق التي كانت خافية، أو لنقل كانت (مخفية) عمداً عن الجماهير والرأي العام العالمي بوسائل إعلام خبيثة وحملات إعلامية جهنمية مغرضة.
4 ـ إلغاء حق العودة
من الأهداف الرئيسية للحرب الغاشمة على غزة القضاء على حق العودة نهائياً. وقد يندرج هذا السبب ضمن الهدف الاستراتيجي الأول الذي عرضنا له آنفاً وهو تهويد الكيان الصهيوني العنصري بالكامل، إذ هو مكمل له، فالحرب التي هدفت إلى تدمير غزة، بنية وشعباً، سعياً وراء إخلاء القطاع بالوسائل المتعددة آنفة الذكر، عن طريق القتل السريع والقتل البطيء ـ لإبادة العنصر البشري ـ وعن طريق الترحيل لمن بقي منهم، فهي من باب أولى، لن تسمح بعودة أيٍّ من اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، إلى غزة أو إلى غيرها من بلادهم الفلسطينية.
لأن إسرائيل تنظر إلى مسألة أمنها الذي تشعر أنه مهدد دائماً، ربما لأنها تعرف أنها امتلكت ما ليس لها، من جهة، ولأن الفلسطينيين من جهة ثانية لم يكفوا أبداً عن المطالبة بالعودة والسعي إليها كحق شرعي وإنساني لهم، بعد أن سلبوا أرضهم ووطنهم، فضلاً عن النضال المتصل بالوسائل المتاحة لهم، وعلى رأسها المقاومة كلما أتيحت لهم الفرصة، ولأنها، من جهة ثالثة، تخشى ما تسميه القنبلة الديمغرافية، فهي لهذه الأسباب مجتمعة تقاتل بضراوة على كافة الصعد، في سبيل إلغاء هذا الحق إذ ترى فيه الخطر الداهم الذي يتربص بكيانها، والمقوِّض له من أساسه.
الفلسطينيون اليوم ـ كما تعرف إسرائيل جيداً ـ بلغ تعدادهم ما بين أحد عشر واثني عشر مليوناً، فهم خمسة ملايين على أرض فلسطين، وستة أو سبعة ملايين، فيما يسمونه الشتات. في غزة (مليوناً ونصف المليون) وفي الضفة (مليونان وربع المليون) وفي مناطق سكن عرب فلسطين 1948 (مليوناً وربع المليون) أو أكثر، وهذا العدد في مجموعه يكاد يوازي عدد اليهود أنفسهم في فلسطين، يضاف إلى ذلك أن نسبة المواليد بين العرب تفوق كثيراً نسبتهم لدى الكيان الصهيوني الأمر الذي يزيدهم أرقاً على أرق. هذه النسبة 1 إلى 2 يهود و5 إلى 6 عرب.
فهي إذن ترتعد فرائصها فَرَقاً مما هو قائم على الأرض راهناً، فكيف بها إذا ما تصورت أن ستة ملايين أو سبعة يقفون على أقدامهم استعداداً للعودة في أية لحظة تتاح لهم ظروفها. ولنقل أن نصفهم أو ثلثيهم، على الأقل، هم الذين سيعودون، فأي كارثة ستحل بالكيان إذا ما حدث ذلك..؟
هذه هي حسابات الكيان العدو.
من أجل ذلك عملت إسرائيل على تجاهل القرارات الدولية العائدة لهذا الحق، وعلى رأسها القرار رقم 194 الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948. وقد ساعدها الغرب كله على التنكر لهذا القرار فأصبح نسياً منسياً، وكأنه لم يصدر في الأصل. بل إنها تنكرت للقرار الذي هو الأصل في وجودها وهو قرار التقسيم الظالم رقم 184 الذي داسته إسرائيل بأقدامها واستباحت الأرض الفلسطينية بكاملها فيما بعد.
يرى كتَّاب من الكيان العنصري نفسه بأن السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل لن يتحقق ما دام الفلسطينيون يصرون على أن يوضع هذا الحق موضع التنفيذ ولا يتنازلون عنه أبداً، وما دام الإسرائيليون، في الجهة المقابلة يرفضون هذا بالمطلق. فهي بالنسبة إليهم مشكلة وجودية.
هل سوف يأتي يوم يسلِّم فيه الفلسطينيون للغاصب بشرعية ما اغتصب، بعد كل ما عانوا من قتل وتشريد وعذاب ومعاناة على مدى زهاء سبعة عقود..؟
أم هل سوف يأتي يوم يسلِّم فيه العدو للفلسطينيين بحقهم في وطنهم والعودة إليه أفواجاً أفواجاً تغْمرهم كالطوفان..؟
لن يحدث هذا ولا ذاك فهم يريدونها دولة يهودية (نظيفة). أجل، نظيفة من أهلها الحقيقيين وأصحابها الشرعيين. كيف تتفق (نظافة) مع السرقة للأرض التي تقوم عليها الدولة الغاصبة (النظيفة)..!؟
وهذا يذكرنا بلفظ يردده أحد قادة إسرائيل (شيمون بيريز) فكلما تحدث الرجل جاءت على لسانه لفظة (الأخلاق) كقوله جيشنا (أخلاقي)..! أخلاقنا لا تسمح بأن نرى أطفالاً يقتلون..!!
إذن فالسلام مجرد أكذوبة كبيرة.. أُلهية يتسلى بها الجميع. ألم يقل زعماؤهم، وعلى رأسهم (إسحاق شامير)([15]) يوم كان رئيساً للوزراء ـ بأنه سوف (يتسلى) بمفاوضة العرب على السلام عشرات السنين دون أن يصل بهم، أو معهم إلى شيء..! قال (شامير) ما قال إبان انعقاد مؤتمر مدريد عام 1993، ومازال خلفاؤها وحلفاؤه على الموقف نفسه. ماذا يخشون من الجانب العربي الذي أعلن بعض قادته في أكثر من مناسبة أن (لا حروب بعد اليوم) وأن السلام (هدف استراتيجي)؟ ولماذا عليهم أن يغيِّروا توجهاتهم العدوانية وممارساتهم الإجرامية ما دام الغرب كله، يغض الطرف عن كل ما يقترفون من جرائم، بل تتبارى وتتسابق دوله وأجهزته وإداراته في السعي إلى مرضاتهم، ما دام حليفهم الاستراتيجي الأمريكي، لا يحجم عن الانصياع التام لتلبية رغباتهم، والتماهي مع سياساتهم. ألم تدمر أمريكا ــ بوش الابن وقبله بوش الأب ــ العراق أرضاً وشعباً إكراماً لعيون إسرائيل بحصار طويل مديد ظالم ـ لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية ـ قتل وحده ما ينوف على المليون ونصف المليون من العراقيين، ثلثهم من الأطفال، ثم أعقبها بحرب ضروس لم تبق ولم تذر للعراق كياناً، فقضى من أهله نحواً من ذلك العدد قتلاً بالأسلحة الفتاكة، التي يصنفونها بين (محرمة) و(غير محرمة)، وكأن القتل له درجات وتصنيفات كالفنادق ذات النجوم..!! فالموت بالرصاصة والصاروخ وقنبلة الدبابة تنفجر في صدر طفلة غيره عن الموت بأشعة اليورانيوم أو الفوسفور ذي الألوان المتعددة (الجميلة) كأزياء العارضات وملكات الجمال..!
حتى التاريخ لم يسلم من عدوانهم وسرقاتهم. وما حدث في المتاحف وللأوابد هناك يجب أن يندى له جبين المتحضرين..! حتى إن هيئة اليونيسكو ذاتها لم تبد حراكاً أو قولاً فيما حدث من عدوان على واحدة من أهم إنجازات البشر الحضارية في التاريخ القديم.
وعلى غرار ما حدث في العراق يحدث الآن في غزة، وربما غداً في الضفة، وربما بعد ذلك في أماكن أخرى فلسطينية الطابع أو عربيته إذا ما تمكنت إسرائيل من تحقيق أهدافها في غزة أو في الجنوب اللبناني. ولكن المقاومة وحدها هي الكفيلة بالحيلولة دون ذلك وإفشال خططها وإحباط مساعيها.
([1]) أكدت ذلك جهات مطلعة نشرتها صحف إسرائيلية وغربية.
([2]) اليهود ينكرون السيد المسيح وأمه السيدة مريم العذراء. المسيح لم يأت بعد فيما يعتقدون.
([3]) صرح إسحاق رابين رئيس الوزراء الأسبق مرة بأنه يتمنى لو يصحو ذات يوم ليجد غزة قد ابتلعها البحر.
([4]) وقعت مذبحة دير ياسين في يوم الجمعة التاسع من نيسان عام 1948.
([5]) تتشكل عناصرها من مرتزقة يرتكبون من الجرائم ما يشاؤون، وغالباً حسب أمزجتهم الشخصية، ولا يخضعون لأي محاسبة.
([6]) مقومات الدولة الأساسية: أرض ـ شعب ـ سيادة.
([7]) دراسات كثيرة صدرت من الغرب تؤكد أنه حادث مفتعل مدبر بين إدارة بوش وأجهزته كالسي أي إي CIA وإسرائيل ـ الموساد.
([8]) كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو.
([9]) منذ بدايات عصر النهضة Renaicence في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
([10]) بابا الفاتيكان لم يحجم عن إطلاق هذا الوصف عليهم، إذ قال إن قطاع غزة أشبه بالمعتقل النازي، وقامت قيامتهم عليه بطبيعة الحال.
([11]) الإمبراطور محمد رضا بهلوي. توفي بعد مغادرة إيران ودفن في مصر في عهد الرئيس السادات.
([12]) القيتا على المدينتين في السابع والتاسع من آب عام 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
([13]) يقول إدوارد سعيد أن هنتغنتون (عالم تدبير الأزمات والصراع).
([14]) كانت بريطانيا العظمى في ذلك الحين الإمبراطورية الاستعمارية الأولى والأقوى في العالم التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس.
([15]) هو قاتل الكونت برنادوت في القدس عام 1948 وسيط الأمم المتحدة. ومضى الحادث وكأن شيئاً لم يحدث وأفلت شامير من العقاب أو حتى مجرد المساءلة عن جريمته الإرهابية.
[/align]</H1>
|
|
|
|