عرض مشاركة واحدة
قديم 27 / 12 / 2009, 15 : 02 PM   رقم المشاركة : [5]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: محرقة غزة ونهاية الأسطورة .. كتاب من تأليف د. يوسف جاد الحق

[align=justify] <H1 dir=rtl style="MARGIN: 5pt 0cm">المحرقة في غزة

وحرب إسرائيل على ثلاث جبهات



نائب وزير دفاع العدو نفسه هو الذي أسماها (محرقة Holocaust) إقراراً واعترافاً بهولها ووحشيتها.
هي محرقة دونها ما زعموا عن (هولوكست) هتلر. هي الجحيم عينه انصَّب على أهلنا في غزة وما حولها من قرى ومخيمات تشكل ما اصطلح على تسميته (قطاع غزة) منذ النكبة، لكأنه يوم القيامة ذلك الذي شهدته غزة.
لن أذهب إلى التفصيل في وصف ما جرى على أرض غزة وشعبها على مدى ثلاثة وعشرين يوماً متَّصلْ ليلها بنهارها ما بين 27/12/2008 إلى 18/1/2009، دون أن يستثنوا أعياداً للعرب، مسيحيين ومسلمين. بل هم كانوا يعمدون دوماً إلى إقامة مذابحهم واعتداءاتهم في أيام الأعياد تحديداً، وفي الشهور والمناسبات الدينية لدى العرب. ففي كل رمضان، وفي كل عيد إسلامي أو مسيحي ينبرون إلى ممارساتهم العدوانية لكي يسلبوا الفلسطينيين حتى أفراحهم القليلة، فما أقل أفراح الفلسطينيين منذ ابتلوا بأولئك الأشرار. حتى الأعراس والمآتم والجنازات لم تسلم يوماً من اعتداءاتهم الصارخة. وما أكثر ما كانوا يطلقون الرصاص على مشيِّعي القتلى في الجنازات.
لقد كتب الكثير فيما جرى، والكتابة أيَّاً كان شأنها لن تفي ما جرى حقه. ليس هناك من كلمات في قواميس اللغة كلها يسعها أن تعبِّر تماماً عما حدث. يكفي ما أبصرته شعوب الأرض قاطبة على الشاشات الفضائية شاهداً على أبشع جرائم العصر. هي المحرقة بحق، مهما حاول السفهاء الجبناء التعتيم عليها، وإلباسها لبوساً يخفي حقيقتها، وما اقترفته أياديهم في حق شعب تسببوا في مأساته منذ ما يناهز قرنٍ من الزمن، ذاق فيها أباء وأبناء وأحفاد الويلات، التي قلما عرفت البشرية مثيلاً لها على مدى بهذا الطول من الزمان. لا نعرف ـــ نحن أو غيرنا ـــ شعباً عانت أجيال متعاقبة من أبنائه لنحو مائة عام متَّصلة بغير انقطاع، دونما توقف أو مهادنة دون الوصول إلى مبتغاها. كأن مجرمي العصابات الصهيونية لم يكفهم اغتصاب بلاد بقضها وقضيضها، أرضها وسمائها، بحارها وأنهارها، زرعها وحقولها، مبانيها ومصانعها، مرابعها وبساتينها، ثم تعمد بعد ذلك كله إلى مطاردته في المنافي وملاحقته حيثما حلّ، سواء خارج أرضه أو فيما تبقى له منها من ركن ضيِّق ضئيل على ترابها، تلغ في دمائه، وتعمل فيه قتلاً وترويعاً، وحصاراً وإفقاراً، وتأليباً للعالم كله عليه. تصفه حيناً بالمخرب، وحيناً بالإرهابي، وصفات أخرى ليست فيه، وإنما هي صفاتهم هم يخلعونها على الشعب الضحية إمعاناً في الكيد والتضليل.
مأساة الشعب الفلسطيني لا تشبهها تراجيديات خطّتها يراعات عمالقة الإبداع في عالم الناس القديم والحديث، من إغريق ورومان وبريطان وفرنسيين...
خطَّط العدو جيداً ومنذ زمن لعملية (المحرقة) عن سابق تصور وتصميم، بعقل بارد يرسم مخطط الإبادة الجماعية للشعب المنكوب منذ ستين سنة ونيف كما أسلفنا. وقد خطط لعملياته على جبهات ثلاث: قتالية، وسياسية، وأعلامية.
* ـ على جبهة القتال

قدَّر خبراء وعسكريون أن ما ألقي على غزة وشعبها من القنابل والمتفجرات والصواريخ لا يقل عن أربعة ملايين كيلو غرام، أي أكثر مما ألقي على (ستالينغراد) ـ الاتحاد السوفياتي، وبرلين ـ الرايخ الثالث في الحرب العالمية الثانية. وأما أنواع السلاح الذي استخدم فقد تضمنت كل ما تفتقت عنه (عبقرية) مجرمي صناعة السلاح في أمريكا من قبل، مضافاً إليه أسلحة جديدة لم تستخدم ولم تعرف فيما سبق. لقد جعلوا من غزة حقل تجارب لأسلحة جديدة فتاكة، فهذه قنابل فسفورية ذات ألوان (ويا لبهجة الألوان في عمليات القتل..!)، حمم تحرق البشر حرقاً فتحيلهم إلى شواء، درجات الحرارة المنبعثة منها تفوق الثلاثمائة درجة مئوية. وهذه قنابل تمزق الإنسان إرباً بحيث لا يتعرف على شخصيته وهويته أحد، يصبح عجيناً أو قطعاً ذائبة مشوهة. وهذه عنقودية وما أدراك ما العنقودية؟ جربوها في لبنان فبترت من الأعضاء ما بترت، وأزهقت من الأرواح ما أزهقت، وهذه قنابل أعماق تغوص عميقاً في الأرض، تزن واحدتها طناً أو أكثر. وقنابل من مشتقات اليورانيوم أو اليورانيوم ذاته، منضباً وغير منضب، مشعَّاً في سائر الأحوال، يمزق الجلد واللحم ويذيب العظام. طائرات تقصف، ومدافع تهدر، وبوارج وحاملات طائرات تطلق الصواريخ الموجهة. تقترف إسرائيل جريمتها الكبرى مطمئنة إلى أن أهل غزة التعساء لا يملكون أسلحة للرد على عدوانهم، بل لا يملكون ما يقيهم حمم البراكين الهابطة عليهم مطراً ينهمر من فوقهم ومن تحتهم وعن جوانبهم.
لم يُعفِ الجناة من فظائعهم حتى المساجد والكنائس والمشافي والمدارس والأسواق وسيارات الإسعاف، ورياض الأطفال. لابد أن يطال الجحيم الجميع. أسر بكاملها أبيدت عن بكرة أبيها، وأخرى معظم أفرادها، منها ما ذهب بالأبناء خمسة أو سبعة والزوجة وبقي الزوج وحده لأنه كان، وبالمصادفة وحدها، خارج المكان بحثاً عن أرغفة خبز أو جرة ماء. وطفلة عند عمتها، لم تجد عند عودتها منزلاً ولا أهلاً.. كان المنزل هنا.. أين هو المنزل؟.. أكوام من الإسمنت مختلطة بأشلاء الأحبة.. كيف تعيش بعد الآن وأين..؟ من لها في قابل أيامها التعيسة؟ وأطفال ماتت أمهاتهم وبقوا إلى جانبها وحولها يرمقونها في حزن وألم وأسى يرتجفون كالطير الذبيح وقد ألجم الرعب ألسنتهم لأيام ثلاثة رفيقهم فيها الجوع والعطش والبرد والحزن والخوف.. أين يذهبون..؟ وما المصير..؟
وأطفال قتل أهلهم من إخوة وأخوات وأم وأب أمام أعينهم برصاص المجرمين العطاش للدماء الفلسطينية البريئة المظلومة. تاهوا بين الأنقاض وأكوام الجثث... ماذا حدث لهم بعد ذلك .. من يدري أين هم الآن وكيف هم؟
أطفال تشوهت وجوههم وفقئت أعينهم، ونساء احترقت وتشوهت أجسادهن بحرائق الفسفور، فساحت جلودهن كما لو كانت ألواحاً من الزبد على مقلاة فوق نار حامية.
يا أيها المتحضرون ماذا صنع لكم هؤلاء..؟
يا أيها النازيون. ماذا صنع لكم أطفال رضع وأجنة في الأرحام لم يبصروا نور الشمس ولا ضوء القمر؟
الكلام.. كل الكلام أعجز من أن يحيط بما جرى.. وكما خرست الألسنة عن الإفصاح عجزت الأقلام عن البيان.
لقد تفنن العدو في إجرامه في بربرية فاقت ما فعل التتار والمغول قديماً والنازية حديثاً. لم يدع جريمة منكرة إلا وارتكبها، مستمتعاً بما يفعل، وبسادية مريضة عجيبة تستمرئ عذاب البشر. سعيداً بأن لاحسيب عليه ولا رقيب.
إنها تعاليم التلمود، رضعوها مع اللبن. وحاخاماتهم يحضونهم على التزامها. قال أحد حاخاماتهم في نشرة معممة على الجنود والجمهور وفي الصحف: ((لا تأخذكم رأفة في أطفال العرب وإلا فإنكم تخونون إسرائيل...)) ومن قبله حاخام آخر يدعى عوفا ديا يوسف يوصيهم (هؤلاء العرب حشرات وصراصير دوسوهم بأقدامكم دون خشية..!).
ترى هل كان الموت هو الأسوأ والأدهى فيما حدث..؟
أما من استشهد فقد انتقل إلى رحاب ربه في أعلى عليين عند مليك مقتدر.. منتقم لا يهمل بل يمهل. أما الذين خلَّفهم الشهداء وراءهم فهم المأساة مجسدة تمشي على الأرض أو تبيت فوق كومة أنقاض المباني المدمرة.
أطفال حلَّ بهم اليتم مبكراً وقبل الأوان، قبل أن يشبوا عن الطوق، وقبل أن يهرم الأب أو تشيخ الأم. فقدوا المعيل.. وغاب الأحبة.. حرموا الحب والحنان.. لمسة الأب الحانية وحضن الأم الرؤوم، وقبلة الصباح والمساء، وعند العودة من المدرسة أو التوجه إليها. وفتاة فقدت أمها وهي تعد ثياب عرسها الوشيك بعد أيام، هي نفسها أيام حصاد الموت. وفتى وعده الأب بما وعد عند نجاحه هذا العام.. ذهب الذي وعد أو ذهب الموعود وربما كلاهما. استشهدت العروس قبل أن تفرح بثوب زفافها، وأحلام الإنجاب، والأسرة التي ستنشأ... وربما استشهد العريس وترملت العروس.. ونسي شاب الاحتفال بعرسه متهادياً بين رفاقه الشباب، كما يفعل سائر خلق الله في سائر أرضه وسماه.. لماذا هو..؟ لماذا هي..؟ لماذا هن..؟ لماذا هم..؟
أطفال تيتموا.. وأمهات ثكلن، ونساء ترملن. الحزن الأليم الممض لن يفارقهم منذ اليوم أبداً.. لسوف يلازمهم مدى حياتهم... لن ينسوا ما حلَّ بهم مدى الدهر. وما أطوله من دهر..
ما يعقب الأحداث الساخنة سوف يكون، عند ابترادها أشد قسوة، وأعظم فداحة مما انصب عليهم من حمم وقذائف. تلك هي أحزان الحياة القادمة الطويلة التي تنتظرهم منذ الآن.
* ـ على الجبهة السياسية

لكي يضمن العدو التغطية السياسية اللازمة لأعماله الإجرامية التي كان يعرف أنه مقدم عليها عمد إلى إجراء اتصالات مكثفة سريعة قوامها ووسيلتها الغش والتضليل لجهات معينة والكذب الفاجر على جهات أخرى.
قام أولمرت بزيارة لتركيا، وأجرى اتصالات هناك قبيل العدوان بأيام، تحت ذريعة مواصلة المباحثات مع الوسيط التركي، لمباحثات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل. ولم يشر بكلمة واحدة إلى ما كان مقدماً عليه من عدوان على غزة. وقد رأينا ما أسفرت عنه عملية الغش هذه من أثر على الجانب التركي إبان الأزمة، ثم ما حدث في ملتقى (دريغوس) بسويسرا بين الرجل الشهم (رجب أردوغان) ورئيس كيان العدو (شيمون بيريز) كبير عصابة القتلة، المختص بصناعة الكذب والتزوير في المنتديات وبخاصة منتدى الاشتراكية الدولية.
قام العديد من الساسة والسفراء والمبعوثين الإسرائيليين بتحركات سريعة الطابع إلى بلدان غربية وأخرى عربية، إضافة إلى رحلات لأمريكا بطبيعة الحال، فهي (الشريك الكامل) لهم. ولقد صارحت الحلفاء والشركاء بما تنوي القيام به، وأخفت نواياها عمن آثرت الكتمان عنهم، فعمدت إلى الكذب كعادتها، زاعمة أنها ما تزال راغبة في السلام مع الفلسطينيين والعرب، ساعية إليه. بل إنها ادعت أنها مهتمة الآن بما يسمى (المبادرة العربية)([1]) ولكن بشروط سوف تفصح عنها فيما بعد. وهي تخادع هنا أيضاً إذ هي لا تريد سلاماً فالسلام يبعدها عن أهدافها بعيدة المدى التي تأمل تحقيقها في المستقبل.
حدث هذا قبل العدوان ثم تابعته إبانه وواصلته بعده، فلكل مرحلة منطقها وذرائعها ومسّوغاتها التي تناسبها.
لم تكلفهم الجبهة السياسية كثيراً من الجهد. ذلك أن الجهات التي كان عليها التوجه إليها إما ضالعة ومتواطئة معهم، أو هي مقرة لهم على ما أقدموا وسيقدمون عليه، ومنها ما هو شريك فعلي كأمريكا. وجهات غير هذه وتلك سوف تقف صامتة متفرجة لا أكثر، كهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وهيئات (حقوق الإنسان) وما إليها.
وقد نجحت في حملاتها واتصالاتها على الصعيد السياسي والدبلوماسي فأقنعت الكثيرين بأن (أمنها) معرض للخطر مالم تقم بإسكات مصادر الصواريخ التي تنطلق على مستوطناتها من غزة. نجحت إلى حد أن هؤلاء صدقوا بأن تلك الصواريخ ذات خطر بالفعل وأنها ـ إسرائيل ـ (مضطرة) للرد للقضاء عليها في مرابضها (دفاعاً عن النفس..!) أولاً، ثم هي لصالح حلفاء إسرائيل وأصدقائها، ما دامت حرباً على (الإرهاب الإسلامي) عدوهم المشترك جميعاً، ثانياً...!!
ولأنها إسرائيل فليس في وسع أحد إلا أن يصغي إليها، وأن يؤمِّن على مزاعمها وأكاذيبها وكأنها حقائق غير مفتراة. ذلك أنهم يعرفون، كما تعرف هي، أن هذا ما هو إلا الكذب الصريح، والزعم الباطل من أساسه. ولكن هؤلاء بدافع من عدائهم التقليدي لأمتنا على مر العصور، لم يروا فيما هي مقدمة عليه ما يحملهم على تفنيد ادعاءاتها، بله محاولة ثنيها عما تزمع القيام به. بعض هؤلاء إذن (مشارك)، وبعض (مبارك) فما الذي يضيرهم أن تقتل إسرائيل أعداداً أخرى من الفلسطينيين مجددا.ً أو أن تواصل تدمير بناهم التحتية؟ ألم تعوِّدهم إسرائيل على هذا كله منذ عقود طويلة بحيث أصبح أمراً طبيعياً مألوفاً، وحالة من (التطبيع) عودتهم إياه ـ على مر الأيام ـ ومع هؤلاء فريق من العرب (المطبعين) بطبيعة الحال...؟
ولماذا يكون بمعنى (التعويد) التطبيع قاصراً على المعاملات التجارية وما إليها فلا يشمل القتل والتنكيل أيضاً..؟
حتى المحافل الدولية استطاعوا ـ والفضل لأمريكا بوش وتشيني ورايس واللوبي ـ ليس تحييدها بل تجنيدها للتغطية على عدوانهم وإظهاره كما لو كان بالفعل (دفاعاً عن النفس) أمام إرهاب الفلسطينيين، وفي وجه صواريخ حماس (الجبارة). وقد نسوا وصفهم إياها قبل وقت ليس ببعيد بالهشاشة والضعف واللاجدوى وغير ذات الأثر..!
ولكن الغريب العجيب المدهش أن بعض العرب أنفسهم إما أنهم صدقوا إسرائيل في دعاواها، أو أنهم لم يصدقوها ولكنهم برغم ذلك لم يعارضوها. أو حتى أنهم أقدموا على تشجيعها فيما هي مقدمة عليه لأسباب خاصة بكل منهم، فأسهموا في الحصار وسكتوا عن القتل والدمار إزاء عملية (الرصاص المصبوب) لأسباب لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم..! ألا يعلم الساكتون أن السكوت على الظلم ظلم أشد.!؟
فئة من أمتنا تقدم لإسرائيل كل شيء ولا تقدم لأبنائها في أحلك اللحظات أي شيء.
الجبهة السياسية كانت مفتوحة على مصاريعها أمام إسرائيل دون أن تجد من يقف في مواجهتها من العرب ـ باستثناء دول عربية ممانعة، هي في الأصل على جبهة المقاومة والممانعة. من هنا استطاعت (إسرائيل) في البداية أن تسِّوق سياسياً ما شاءت من أكاذيب، معتمدة على الدعم الأمريكي، والرباعية الأوروبية، ومجلس الأمن الخاضع لأمريكا، وإسرائيل. حتى أننا سمعنا (بان كيمون) الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة نفسها، يتصرف وكأنه الناطق باسم إسرائيل، وكأنه لم ير في كل ما يجري على أرض غزة سوى صواريخ القسام (المنهالة) على إسرائيل مهددة لأمنها، وأن هذه الإسرائيل (المسكينة) محقة في (الدفاع عن نفسها) أمام هذا العدوان (الإرهاب) الفلسطيني..!! بلى لقد استنكر الرجل ضربهم لمبنى الأمم المتحدة في غزة..!!.
الصمت العربي من جهة، والتواطؤ من الجهات الضالعة، من جهة، مكنت إسرائيل من الاستفراد بالساحة السياسية (يعززها إعلام إسرائيلي ـ غربي فاجر)، وحمل هذه الجهات على الأخذ بوجهة نظرها وتبني مواقفها. عزز هذا التوجه المغرض موقف جهة فلسطينية تدعي أنها (سلطة الشعب) الفلسطيني التزامها الصمت والوقوف مما يجري على غزة موقف المحايد المتفرج، وكأن هذا الشعب الغزِّي ليس منها وليست هي منه. بدا موقفها العجيب هذا وكأنه إقرار ضمني بأحقية وصدقية المزاعم الإسرائيلية، وشرعية ما تباشره من نشاط على الجبهة السياسية الهادفة إلى التغطية على الفعل الإجرامي الممارس على الأرض.
ومن الطبيعي أن المقاومة نفسها ما كانت لتستطيع مواجهة حملة هائلة كهذه، إذ إنها لا تملك ما تملكه إسرائيل من مقومات وإمكانات وأحلاف.
وحده الدم الذي تدفق أنهاراً هو الذي تكلم، ووحده الدمار العام الشامل هو الذي تكلم. وحده الذي خاطب العالم بلسان أفصح وأبلغ من ألسنة التلفيق والتمويه..
لسان الصدق بغير تلفيق أو تزويق لأنه الحقيقة الناصعة، أفشل إسرائيل في معركتها على الجبهة السياسية، فقد حشد خلف المقاومة جماهير غفيرة على مدى الساحات العالمية بأسرها. فضلاً عن الجماهير العربية والإسلامية في سائر أقطارها وأمصارها. وكان الفضل في ذلك لعديد من الفضائيات التي غامر مراسلوها باقتحام ساحة المواجهة ونقل الكثير من حقائق ما كان يجري هناك.
من مظاهر النفاق الغربي المألوفة في مسايرة السياسة الإسرائيلية، أياً كانت جناياتها، ما كان يصدر من أقوال وتصريحات على ألسنة أساطين السياسة الغربية (الديمقراطية)، (حامية حقوق الإنسان). المتأثرون حتى اليوم بما وقع على اليهود في ألمانيا النازية وهم يشهدون، بأم أعينهم ما يقع على الفلسطينيين من جرائم دون أن يحرك ذلك فيهم ساكناً.
من أقوالهم المشبعة بالنفاق والممالأة والمداهنة على سبيل المثال لا الحصر:
ـ السيد (خافير سولانا) الأمين العام لمنظمة الاتحاد الأوروبي يعرب عن (أسفه). ولم ينسى الرجل أن يصف (أسفه) بأنه كان (بالغاً)...!
ـ أما السيد الجديد للبيت الأبيض (باراك حسين أوباما) فقد أعلنها صريحة مدوية (سنكون دائماً إلى جانب إسرائيل في كل الظروف..!)
ـ السيد (سيركوزي) رئيس جمهورية فرنسا يعلن أنه يشعر (بالقلق). ولم يفت الرجل أن يؤكد بأن (قلقه) كان (شديداً..!)
ـ السيد (بان كيمون) الأمين العام للأمم المتحدة طمأننا بأنه كان (منزعجاً).. و.. (جداً). لاحظوا أنه ليس انزعاجاً (عادياً) مثلاً لما شاهده هناك..بل (جدّاً). من يدري فلربما كان الفلسطينيون مدينون بالاعتذار لهؤلاء السادة (العظام) عما سببوه لهم من إزعاج وقلق..!
هذا السيد الأمين على مصالح الشعوب وأمنها قبل أي شيء آخر، وهو ما أنشئت منظمته من أجله، قبل اختطافها أمريكياً وإسرائيلياً، وهو بالمناسبة كان يعمل موظفاً في شركة أمريكية في كوريا الجنوبية إلى أن جاءت به أمريكا لترسيه في كرسيه على قمة العالم. هذا الرجل ـ ربما إرضاء لضميره، اللهم إذا كان لديه شيء من هذا ـ أقرَّ إسرائيل على ممارساتها الرهيبة بـ (الصدمة والترويع) (والرصاص المصبوب) والفسفور المحرق. من أجل الدفاع عن نفسها أيضاً، الأمر الذي سبق أن أشرنا إليه في مكان آخر.
لا ندري، وما نحسب أحداً يدري في أي سوق للعملات يمكن أن تصرف هذه المقولات (البليغة). إنها شيكات بلا رصيد، فالأرصدة وأصحابها مفلسون في هذه الأيام، حتى تلك الصادرة عن الدولة الأكبر في عالم اليوم..
مع هذا كله، وبرغمه بادر زعماؤنا الأشاوس من العرب ـ عقب فشلهم في عقد قمة عربية طارئة ـ بالتوجه إلى مجلس الأمن إياه، حاملين إليه شكاواهم على ظلم إسرائيل وعسفها في غزة (لإخوتهم) هناك، في الوقت الذي لا يملكون هم سوى الشكوى والتظلم، إذ هم لا يملكون جيوشاً يمكنها مواجهة (الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر..!)، لاسيما وأنهم أمسوا دعاة سلام ومسالمة، وأي سلام؟ (سلام الشجعان) بطبيعة الحال..! فالحقيقة أن من لا يزال يدعو إلى سلام مع العدو الإسرائيلي حسب الشروط الإسرائيلية لابد أن يكون (شجاعاً) حقاً..!
هذا هو كل ما فتح الله به عليهم. وكانت النتيجة قراراً (همايونياً) يعرفون هم، تماماً كما يعرف مصدروه وموقعوه ومقرروه بأنه لا يساوي ثمن الحبر والورق الذي حمله. كان القرار العتيد (1860) (غير الملزم) بوقف إطلاق النار. ولم يتوقف إطلاق النار، بطبيعة الحال تبعاً لهذا القرار، وإنما نتيجة لصمود المقاومة وشعبها على الأرض الفلسطينية، ومن جانب واحد هو الجانب الإسرائيلي.
أما بريطانيا (العظمى) التي كانت وما برحت، السبب الأساسي والمباشر في نكبتنا الهائلة ومأساتنا الفريدة كلها. بل كانت بريطانيا صانعة نكبتنا بامتياز واقتدار.
تجلت المؤامرة البريطانية ـ الصهيونية منذ أكثر من قرن ونصف. ولكن المراحل الأقرب والأوضح والأفعل جاءت مع وعد بلفور (2 نوفمبر 1917) ومعاهدة سايكس ـ بيكو التي جزَّأت الوطن العربي، وما تلا ذلك من إجراءات مهدت وعملت على قيام كيان يهودي في فلسطين، هو إسرائيل الآن([2]).
وليس هذا مقام الخوض في هذه المراحل التاريخية. ولكن بريطانيا ما برحت على عهدها في مناصرة الصهيونية وزعمائها على حساب العرب، الذين تكن لهم عداوة عميقة تحاول إخفاءها بادعاء صداقة لا وجود لها. لكن الأحداث والوقائع تكشف الغطاء عن ذلك العداء البريطاني التاريخي للعرب. فقد حدث في زيارة (ايهود أولمرت) لبريطانيا في 19/ 11/ 2008 أن أنعمت ملكة بريطانيا، (إليزابيث الثانية) على (أولمرت) بلقب (فارس). بحق السماء يا ملكة بريطانيا أين هي فروسية هذا الجبان، قاتل الرجال والأطفال والنساء بالآلاف المؤلفة، صانع المآسي والأحزان للفلسطينيين ضحايا دولتك سيدة الاستعمار في القرنين الماضيين..؟
وعندما فعلت ذلك، هذه الملكة المتغطرسة الضالعة مع حليفها الصهيوني، قامت فتاة يهودية ـ بريطانية من بين الحضور لتقول للملكة:
(أنت تنعمين باللقب على رئيس حكومة تقوم على التمييز العنصري، أيتها الملكة، في أسوأ صوره...!)
وبهذه المناسبة، وتأكيداً على عدائية بريطانيا التاريخية لأمتنا لابد أن السيد (توني بلير) رئيس وزراء بريطانيا السابق، شريك الرئيس (جورج بوش) في الحرب على أفغانستان والعراق، لم يساوره الندم على ما اقترفت يداه من الجرائم في البلدين بناء على أكاذيب متفق عليها بين الرجلين. فالأول اعتمد أكذوبة ما أسموه (أسلحة الدمار الشامل) يمتلكها العراق وتشكل خطراً شديداً ومباشراً على الغرب، وأن العراق تعاقد واستورد اليورانيوم من (نيجيريا)، إلى آخر ما هنالك من أكاذيب ثبت بطلانها، بل واعترف (بوش) نفسه في أواخر أيامه، بأن معلوماته بشأنها كانت (خاطئة). والمخطئ هنا أجهزته نفسها الـ (CIA) وما إليها. ولا بأس عنده أن عمل على قتل وجرح وتشريد وإفقار الملايين من العراقيين.. عن طريق الخطأ..!!
أجل.. بهذه البساطة يمر مقتل مئات الآلاف (ما يفوق المليون في العراق، ولا يدري أحد كم منهم في أفغانستان) وكأنهم مجرد قطيع من الخراف، ما داموا عرباً ومسلمين.
أما الثاني (السيد بلير) فقد أعلن يومئذ أكذوبة أكبر وأخطر وأكثر استهانة بالعقول، هي أن العراق يستطيع أن (يقصف) المدن البريطانية خلال (خمس وأربعين دقيقة فقط!)، ولا ندري كيف انطلت على عامة الناس في إنكلترا وأوروبا أكذوبة مكشوفة بهذا الحجم هي أقرب إلى الطرفة، إن لم نقل إلى النكتة وهم الذين يدَّعون بأنهم أساطين العلم والتكنولوجيا والمعرفة..! وتحري الدقة..!
السيد (بلير) هذا الذي وصفته صحف بلاده نفسها (بكلب جورج بوش الوفي) هاهم يرسلونه إلينا ليقيم بين ظهرانينا في القدس ورام الله مندوباً عن الرباعية، تبييضاً لوجهه الأسود وبراتب خيالي، مكافأة له على تعاونه الإجرامي في الحرب العدوانية. ولكن لماذا يرسلونه إلينا؟ ولماذا وافق العرب على ذلك وهم يعرفون من هو؟ وماذا كان دوره الإجرامي؟ وما هو الدور المناط به الآن..؟
لا لشيء أرسلوه سوى إكمال المهام التي لم تنته بعد، إلى جانب (الجنرال دايتون) الأمريكي. على رأس تلك المهام مواصلته سياسة (فرق تسد) لتعميق الشرخ، وتوسيع شقة الخلاف التي اصطنعوها بين أبناء الشعب الواحد. هذا إلى جانب مهام التدريب والتسليح لقوى عسكرية وأمنية لدى السلطة الفلسطينية المشاركة لهم، والمؤتمرة بأوامرهم، لكي يقف في وجه المقاومة الشريفة في غزة والقطاع. فهي الآن العدو الحقيقي ـ في نظرهم ـ الذي يجب العمل للقضاء عليه تحقيقاً لرغبات إسرائيل ومن والاها.
منذ ستين سنة قالها شاعرنا الكبير علي محمود طه.
أخي جاوز الظالمون المدى



فحق الجهاد وحق الفدا


فماذا نقول الآن بعد أن تجاوز الظلم، وتجاوزت الخيانات والمؤامرات الأمداء كلها...؟ ومن بني جلدتنا وأبناء شعبنا المنكوب ذاته وهو الأشد (من وقع الحسام المهند..!)
ولكن ماذا كانت نتيجة حرب إسرائيل على الجبهة السياسية؟
*في كلمات:
لقد خسرت إسرائيل ـ برغم ما بذلت من جهود مستميتة ـ خسراناً مبيناً على هذه الجبهة. وكان الثمن الذي ترتب على ذلك باهظاً. فقد خسرت الكثير من سمعتها المزيفة التي كانت تصورها على أنها دولة (ديمقراطية) (متحضرة). بل على أنها (الديمقراطية الوحيدة) في المنطقة. لقد عرفها الآن، من لم يكن يعرف بعد، على حقيقتها الإجرامية العدوانية التلمودية، الوالغة في دماء الأبرياء، وعلى بربريتها التي فاقت ما ألحقه الغرب بسمعة ألمانيا الهتلرية والنازية بعد نهاية الحرب العالمية ومحاكمات نورمبرغ.
تلاميذ هتلر العنصريون جعلوا من قطاع غزة "أوشفتيز" جديدة ولكن أكبر بكثير، ليكون مسرحاً لكل جرائم الحرب ضد الإنسانية. يقول أحد جنرالاتهم: (عدد القتلى الفلسطينيين هو مقياس نجاحنا وانتصارنا، فالفلسطيني مخلوق لا يستحق الحياة). أليس من مهازل القدر أن يجد الخلق بينهم قذارة تدعى (جنرالاً) من هذا النوع ليقرر هو، القميء البذيء، بأن الفلسطيني لا يستحق الحياة؟ والفلسطيني ابن أمة علمت الدنيا فيما مضى معنى الحرية ومعنى الإنسان؟
ثم.. أليس ما يقوله هذا وأمثاله من تلاميذ التلمود دليلاً قاطعاً على أن المستهدف هو الشعب الفلسطيني كله، وليس حماس أو فتح أو الشعبية أو أي مقاومة؟ وطائراتهم عندما تقصف، ومدافعهم حينما تعصف لا تستثني أحداً، ولا تفرق بين أحد منهم، أو من أبناء الشعب الفلسطيني وإنما تعاملهم سواسية كأسنان المشط..!!
على الجبهة الإعلامية

هنالك قول مؤداه:
إذا كانت الأسلحة المتطورة تكسب (المعركة) فإن الإعلام كفيل بكسب (الحرب) على صعيد الرأي العام. ذلك أن الإعلام أحد أسلحتها الفاعلة الماضية.
هنا نلاحظ أن إسرائيل لم تكسب المعركة، كما إنها لم تكسب الحرب باعتبار أن المعركة الواحدة جزء من الحرب الشاملة متعددة المعارك. خسرت إسرائيل حربين، في لبنان وفي غزة، برغم فوارق القوة واختلال التوازن في السلاح، اللهم إلا إذا اعتبرت هي وأنصارها بأن القتل الجماعي للمدنيين، غير المقاتلين بوحشية وبربرية غير مسبوقة إلا من قبلها، إضافة إلى تدمير البنى الفوقية والتحتية بالكامل لجزء صغير محاصر من شعب فلسطين، هو انتصار لها.
على أن هذا في حقيقته، وبأي حساب، أبعد ما يكون عن الانتصار. بل إنه من علامات الهزيمة الفادحة، ومن دلائل العجز والخذلان والإخفاق. فحينما يعجز جيش عن تحقيق الأهداف السياسية التي أشعلت الحرب من أجل الوصول إليها هو الهزيمة عينها لهؤلاء، وهو بالمقابل انتصار الجانب الآخر الذي حال بينها وبين تحقيق أهدافها.
إسرائيل تحاول الآن، برغم خسارتها المشهودة للمعركة كسب الحرب عن طريق الإعلام. فهي قد عمدت إلى إخفاء الحقائق على الأرض لكي لا يطلع أحد ـ بما في ذلك شعبها نفسه ـ إلا على ما يفيدها في هذا الجانب. وهي ما انفكت بعد ذلك عن ترويج الأكاذيب، وإشاعة الأضاليل، مدعية تحقيق انتصار مزعوم على المقاومة الفلسطينية. كانت تعلن، من يوم لآخر، عن تقدم على الجبهة، ثم لا يلبث أن يتبين أنها ما برحت حيث هي، غير قادرة على التقدم لمواجهة مباشرة مع مقاتلي المقاومة، لأن جنودها لم يعتادوا القتال وجهاً لوجه في سائر المعارك السابقة. ولأن هؤلاء الجنود ترتعد فرائصهم لمجرد ذكر المقاومة، ناهيك عن الإقدام على مواجهة مع عناصرها. لقد رآهم العالم كله يقبعون في دباباتهم لا يجرؤون على مغادرتها، محتمين بجدرانها الفولاذية السميكة ]لا يقاتلونكم جميعاً إلا في حصون مشيَّدة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى..[ ثم تدعي بأنها دخلت بدباباتها المجمعات السكنية في جباليا أو رفح أو بيت لاهيا، ولا تعرض على الملأ صورة واحدة تؤكد صدق ادعاءاتها. على العكس من ذلك إذ لا تلبث الفضائيات الأخرى أن تكشف بالصورة أن أرتال الدبابات تقف بعيداً، في العراء، عن المناطق الآهلة بالسكان، حتى بعد قصفها وتدمير الكثير من مبانيها وقتل الكثير من أهلها. وهذه ظاهرة بدت للعيان قلما شوهدت في الحروب، فالسكان هنا أمسوا لحمة واحدة مع المقاتلين، لا تثنيهم عن الثبات والصبر والتصدي، ولو بالحجارة للعدو الشرس، الذي لم تزدهم وحشيته إلا مواصلة صموده وثباته، إلا رغبة في الانتقام من عدو حاقد لم يرع فيهم إلاًّ ولا ذمة على مدى السنين الطوال الماضية.
الإعلام الإسرائيلي لا يتورع عن تزييف الوقائع إلى حد الوقاحة والفجور، استهتاراً بالعقول، حيث يعمد إلى قلب الحقائق وتصوير الهزيمة المنكرة على أنها نصر مؤزَّر. لا تذكر شيئاً عن أعداد قتلاها وجرحاها، والفارين من جنودها من المعركة، ولا تشير إلى أسراها، وكأنها تستكثر على الجانب الآخر الفلسطيني أن يكون له من القدرة والشجاعة ما يمكنه من إيقاع الأذى في صفوف جيشها، الذي ما انفكت تصرُّ (إعلامياً) على أنه (لا يقهر)، حتى بعد انكشاف أمره وأمرها.
من هذا القبيل ادعاؤها ـ عندما قتل عدد غفير من جندها في عملية لم تستطع إخفاء آثارها والتعتيم على خسارتها في الأفراد ـ عندما حدث ذلك ادعت بأنهم قتلوا (بنيران صديقة) خطأ..! وقد فاتها أن تبريراً من هذا القبيل إنما يكشف حقيقة أكثر سوءاً، وهي أن قواتها ترتكب خطأ قتل أفرادها لرفاقهم، لا يدل إلا على أن الارتباك والهلع بلغا من جنودها حدّاً أفقدهم القدرة على التمييز بين نيران المقاومة ونيران الزملاء (الصديقة..!)، وأن هذا ما كان ليحدث لولا ضراوة المعركة وجرأة مقاتلي الطرف المقابل.
ويأتي الإعلام الغربي بقضه وقضيضه لضلوعه ومشاركته العدو الإسرائيلي كراهيته التاريخية لشعبنا وأمتنا ــ فيبادر إلى تبني أكاذيبه ومسوغاته، يروج لها على أنها حقائق. ناهيك عن تبنيه لما تطلقه من أوصاف (كالإرهاب) مثلاً على المقاومة، وما تبث من معلومات عن خسائر مزعومة أوقعتها في صفوفها. بيد أن الإعلام الغربي نفسه يعرف ــ قبل غيره ــ أنه هو أيضاً يتعمد تضليل شعوبه نفسها، خدمة للصديق الحليف، فضلاً عن تضليله شعوباً أخرى، ورأياً عاماً عالمياً، انجراراً وراء الإعلام الصهيوني تحقيقاً لأهدافه بعيدة المدى التي لم تنجز بعد.
ولكن لابد لنا من القول، من باب الاعتراف بحقيقة راهنة، بأنهم غالباً ما يحققون النجاح الذي يبتغون بنهجهم الإعلامي هذا. ولكن لماذا؟ وكيف؟ الإجابة غير خافية عنا جميعاً، منذ زمن بعيد، وهي أن العدو يملك آلة إعلامية (media) هائلة إما امتلاكاً فعلياً لأدواتها ووسائلها، وإما نفوذاً عن طريق شبكاتهم الأخطبوطية المنتشرة والخبيثة في معظم أرجاء العالم، عن طريق شركات إعلامية، وجمعيات ومؤسسات وتنظيمات سرية وعلنية فاعلة، تحمل أسماء عديدة كالماسونية والليونز واللوثري والبناى بريث واللوبي والوكالة اليهودية وغيرها. وما أكثرها.
ما ينفق على الإعلام التابع للصهاينة والإعلام المشايع لهم، من المال كثير، ترصد له ميزانيات ضخمة بل فلكية، في حين أن إعلامنا ما زال يحبو قاصراً عن اللحاق به، يقبع في مكانه لا يريم منذ عقود طويلة. وهو دائم الشكوى عن عجزه أمام إعلام العدو بغير مسوِّغ حقيقي. ذلك أن دولنا العربية لا تنقصها الإمكانات، ولا تفتقر إلى الأموال والكفاءات والمهارات البشرية التي تمكنها من مواجهة الإعلام المعادي، وأن تكشف ألاعيبه التي أوشكت أن تستقر في الأذهان كحقائق لدى قطاعات واسعة من الرأي العام. من ذلك مزاعمهم بأن ساستهم (دعاة سلام) يستحقون عليها جوائز نوبل. حتى أن زعماء عصاباتهم حصلوا على تلك الجائزة العالمية المغرضة، الضالع عديد من سدنتها مع العدو، لأسباب لم تعد خافية على أحد. حصل على هذه الجائزة (بطل) مجزرة (دير ياسين) الإرهابي بحق (مناحيم بيجن)([3]) (مناصفة مع الرئيس ـ المؤمن ـ أنور السادات)..!
كما حظي (بشرف) هذه الجائزة العتيدة الإرهابي الآخر (الجنرال) السفاح (موشي ديان)([4]) ولم يفت أصحاب الجائزة أن يمنحوها أيضاً لصاحب (مأثرة) نظرية تكسير عظام أطفال الحجارة. الذي يراه بعض زعماء العرب (داعية سلام) هو الجنرال (اسحاق رابين). بل إن بعضهم بكاه بحرقة يوم مقتله على يد صهيوني يدعى (عامير). ولا يفوتنا ذكر واحد من كبار سفاحيهم وماكريهم ذلك الكريه صاحب مجزرة قانا في لبنان ومجازر غزة الأخيرة، الكذاب الأشر، الفاجر الأكبر (شيمون بيريز) الذي كان لرئيس وزراء تركيا السيد (رجب أردوغان) شرف الرد عليه وتحقيره مؤخراً في ملتقى (دافوس بسويسرا) كما أسلفنا.
تقصير إعلامنا ــ إن لم نقل عجزه ــ عن مواجهة الإعلام المعادي عائد إلى أن قيادات الأمة العربية في وادٍ آخر، فهي من ثم لا تأخذ مسألة الإعلام في حساباتها لمواجهة العدو على محمل الجد والاقتناع بأنه ما من سبيل للتأثير على الرأي العام العالمي وتحويله إلى جانب الحق العربي، إلا عن طريق الإعلام الهادف إلى دعم المقاومة والتعريف بها على أنها مقاومة مشروعة للاحتلال، وليست إرهاباً. كما أن القادة العرب، وهذا هو الأهم والأخطر، لا تتوفر لديهم الإرادة لصنع إعلام فاعل يحمي مصالحهم، هم أيضاً ويخدمها، تماماً كما يخدم مصلحة القضية الفلسطينية بوصفها قضيتهم المركزية.
ينبغي أن يعمل العرب ــ أياً كانت خلافاتهم على قضايا ثانوية ــ على وحدة الهدف الأسمى الذي هو مناهضة الصهيونية لتلافي خطرها عليهم، وبيان بطلان ادعاءاتها التي تمكنت من إقناع الآخرين بأنها على حق في الاستيلاء على فلسطين، وأنها إنما (تدافع عن نفسها) بارتكابها جرائمها المشهودة، فهي لم تغتصب لنا أرضاً، ولا هي ضيَّعت لنا حقوقاً، ولا هي الصانع الفعلي لمأساة شعب بأسره يبلغ تعداده اليوم نحو اثني عشر مليوناً بين مشرد ومحاصر ومطارد، ولا هي أزهقت أرواحاً بلا حصر، ثم استطاعت قلب ذلك كله إلى عكسه، بحيث أمسى العرب والفلسطينيون قتلة وإرهابيين ومتخلفين، إسلامهم عدو للغرب متربص به الدوائر.
أليست هذه هي الصورة الآن لدى الغرب عن الأمة الإسلامية والشعوب العربية بفعل الإعلام الإسرائيلي؟
نذكر أن اجتماعاً لوزراء الخارجية العرب منذ أعوام ثلاثة أصدر قراراً ينص على تخصيص (ثلاثين مليون) دولار لمواجهة الإعلام الصهيوني، ويا له من مبلغ (ضخم) ـ أمام مليارات ينفقها الإعلام المعادي ــ للقيام بحملات إعلامية تدافع عن المصالح العربية.
ومع ذلك، وبرغم ضآلة، بل (تفاهة) المبلغ المشار إليه لم يقدِّم أي من عربنا حصته المطلوبة، وبقي القرار ـ شأنه شأن الكثير من قرارات الجامعة العربية العتيدة ـ حبراً على ورق، أو لنقل قراراً يأكله الغبار على الرفوف الخشبية في مخازن أو أبهاء الجامعة، قد يصلح للديكور ذات يوم قادم..! أو يصلح شاهداً على التقصير والعجز عن الفعل، إما عن غفلة وإما مسايرة لتوجهات وتوجيهات الأصدقاء لدى الطرف الآخر (أمريكا والغرب).
انطلق إعلام العدو ليعمل على أكثر من جبهة. على الجبهة العسكرية إبان الحرب القائمة على غزة. لجأ إلى التعتيم على تحركات جيشه، كما على مجريات الحرب العدوانية فلم يسمح إلا لمصورين وصحفيين من عنده، لهم مهمات محددة، وتعليمات أكثر تحديداً، فهم لا يصورون من المشاهد ولا يبثون من الأنباء سوى ما تريده القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية. من قبيل ذلك تعمد التقليل من خسائرها وتضخيم خسائر المقاومة. أما الصواريخ المنهالة عليها ــ الأمر الذي لم تتوقعه على هذا النحو في البداية وعند بدء هجومها والإعداد له ــ فهي تهون من شأنها عند الحاجة إلى التهوين، وتضخمها عند الحاجة إلى التضخيم.
أما على الصعيد الخارجي فقد شنت حملة إعلامية شعواء في الشرق والغرب، تزعم أن (أمنها) يتعرض لخطر إرهابي، يستهدفها كما يستهدف الغرب بأسره. أي أنها دفعت بالغرب إلى مشاركتها الإحساس والتوقع لخطر (إرهابي) يتعرض له مثلها. كما لجأت إلى محاولة إخفاء جرائمها المروعة في استخدام كافة الأسلحة المزودة بها من ترسانة (البنتاغون) بمختلف أسمائها ومسمياتها عندهم، من تقليدية إلى غير تقليدية (مشروعة) (وغير مشروعة) وكأن القتل أياً كانت وسيلته، يعتبر مشروعاً عندهم فالغاية تبرر الوسيلة حسب (مكيافيلي) وهم تلاميذه النجباء..! حتى إن رئيس كيانهم نفسه لم يتورع عن إطلاق تصريحات كاذبة، وهو يعلم أن ما كشفته أجهزة إعلام أخرى من وقائع إجرامية، غاية في الخسة والدناءة، تقع على شعب أعزل، كل ذنبه أنه فلسطيني، وذنبه أيضاً أنه لا يملك سلاحاً مكافئاً لسلاح الكيان الجبان، راح الرجل البائس (بيريز) في أواخر عمره الذي قضاه كله ــ وقد بلغ أرذله ــ في تصنيع الجريمة والدفاع عنها، راح يلقي بأقاويل مضللة ـ سبق أن أشرنا إلى بعضها ـ من قبيل:
ـ (إن الجيش الإسرائيلي لم يقتل أطفالاً...!
ـ وأنه (لا يحب أن يرى أحداً يقتل...!
ـ وأن (إسرائيل وجيشها تتمتع (بأخلاقيات) عالية.. وإنسانية..!
ألم تكشف هذا الكذب الفاضح الصور التي تسربت بطريقة ما إلى العالم..؟
أما (تسيفي ليفني) ـ المسماة وزيرة للخارجية عندهم ـ فقد كانت، والحق يقال، أكثر جرأة على الكذب، أو هي لم تكن أقل من رئيسها وسائر أعضاء عصابتها كذباً وتضليلاً. لنقل أنها كانت أكثر استهتاراً بعقول البشر، وأقل اكتراثاً بذكائهم، إذ راحت تدعي بأنها (حزينة) من أجل من يقتلون من أطفال الفلسطينيين، ولكن ماذا بيدها أن تفعل ما دام (الإرهابيون) يقيمون بين هؤلاء الأطفال. هذا وحده يبرر ــ كما ترى هي ــ قتلهم ومحوهم عن ظهر الأرض ــ بكل أسف تقول ــ تقتلهم وهي حزينة مع ذلك من أجلهم..!! أليس هذا من قبيل أن تقتل القتيل وتمشي في جنازته..!؟
لا يدع الصهاينة شاردة ولا واردة تفوتهم، من قريب أو بعيد، تنفعهم أو تضرهم، إلا ويتابعونها إعلامياً، بحرص ودأب ووعي، مما أسهم أيضاً في وصولهم إلى تحقيق حلمهم منذ (تيودور هرتسل)([5]) حتى اليوم. لم يغفلوا دور الإعلام أبداً لإظهارهم في صورة الضحية وإظهارنا في صورة المعتدي.
وليس من قبيل المغالاة القول بأن الإعلام قام بخدمة الصهيونية والصهاينة إلى حد الإسهام الفاعل بقيام الكيان نفسه. ثم دوره بعد ذلك، وعلى مدى السنين منذ ذلك الحين في استمراره وتعزيز وجوده، بصرف الأنظار عن جرائمه من جهة، وبحشد قوى عديدة من جهة ثانية لدعمه ومعاضدته، بل وإلى حد حمل تلك القوى على مساعدته والوقوف معه في معاركه وحروبه، وسائر ظروفه مادياً ومعنوياً وأدبياً، مما أوصله إلى ما وصل إليه وأوصلنا نحن كذلك إلى ما نحن عليه. ثم فوق هذا وذاك قدراته التي استطاعت التعتيم على ما يجري على أرضنا كل هذا الوقت، منذ عام النكبة بل وقبله أيضاً وحتى يومنا هذا.
لقد عمد ذلك الإعلام إلى تجهيل العالم بالحقائق الجارية على الأرض، بما في ذلك جرائم إسرائيل التي لم تتوقف عن اقترافها في يوم من الأيام. وبرغم انتشار وسائل الاتصال الحديثة الهائلة، وذلك الفيض الذي أنتجه العلم، ما زالت قادرة على اللعب بسلاح الإعلام وتسخيره في خدمة أهدافها الشريرة. لقد استطاعوا تصوير العربي في الغرب عامة، وفي أمريكا خاصة، بصورة البدوي، راكب الجمل في الصحراء، أما المدينة العربية التي تضاهي مدن الغرب، أما المدارس والجامعات والأندية، أما الإنسان العربي الحضاري، المتعلم والمثقف والأديب وأستاذ الجامعة والمهندس والطبيب والتقني، فلا وجود لذلك كله. حتى أننا إذا ما استخدمنا وسائل الإعلام المتاحة للتعريف بقضايانا فإنما نحن نتحدث إلى أنفسنا، وكأننا في غرفة مغلقة ذات جدران أربعة صمَّاء، وليس إلى أولئك الذين يهمنا أن نقدم لهم الصورة التي نحن عليها لتحل محل تلك المشوهة التي يصدرونها عنا، زوراً وبهتاناً فهي ليست فينا. بل إن إعلامهم تغلغل بيننا نحن أيضاً فأمسينا نستخدم المصطلحات ذاتها التي يبتكرها العدو ويبرع في اختلاقها، حتى إنه استطاع أن يحملنا على هزيمة أنفسنا بأنفسنا في الحروب السابقة قبل أن تهزمنا قوات جيشه، حين أوهمنا بأنه (لا يقهر). صدَّقنا الأكذوبة، وعزَّزتها سلبيات لا يجهلها أحد في أوساط قيادات سياسية عربية، وفئات في الجمهور العربي نفسه. حتى أوشكت أن تعم (ثقافة الهزيمة) وتغدو من المسلمات السائدة.
ألم يفلحوا في إيهام الغرب ــ منذ الحرب العالمية الثانية ــ بأنه مذنب في حقهم إذ أسهم بالصمت عن إبادة (ستة ملايين) من اليهود في غرف الإعدام بالغاز في ألمانيا الهتلرية، وخلقوا من ثم لديه ما يسمى (بعقدة الذنب) التي ينبغي عليه أن يكفِّر عنها بتقديم العون، وبالسعي الحثيث لإقامة كيان لهم في فلسطين (الأرض التي بلا شعب)، ثم غض الطرف عما يصنعون بسكان البلاد هناك؟ لم لا؟ أليس أولئك من طينة أخرى؟ أليسوا عرباً ومسلمين..؟ حياتهم بخسة ودماؤهم رخيصة..؟.
وإذا ما حدث أن تصدى لهم من يشكك، مجرد تشكيك، في الرقم المعلن، وليس في المسألة من أساسها حورب حرباً شعواء لا تنتهي إلا بتجريده من حقوقه السياسية والمدنية والأدبية، ولربما دمَّرت حياته الراهنة، فضلاً عن مستقبله كله. حدث هذا مع كثيرين نذكر منهم:
الفيلسوف الفرنسي (روجيه جارودي)([6]) والكاتب الأمريكي اليهودي (نورمان فلنكشتاين)([7]) والكاتب البريطاني (براونبخ)([8]).
وجديد من هذا القبيل:
نشرت وكالات الأنباء أن الأسقف البريطاني (ريتشارد ويليامسون) صرح بأن ضحايا (الهولوكست) لا يزيدون على (ثلاثمائة ألف) فقط. أضاف داحضاً رواياتهم عن أفران الغاز، وأن هذه لم تكن سوى عملية تضخيم مقصودة، مبالغ فيها. وكما هي العادة، قامت قيامتهم إلى حد أنهم خلقوا بلبلة في الفاتيكان نفسه. حتى أن البابا وعد بأن يسحب الأسقف كلامه ويعتذر عنه (أي اعتذار الصادق عن صدقه..!) بل إن البابا ذهب بعيداً في استرضائهم فأعلن أن (من ينكر الهولوكست كمن ينكر وجود الخالق..!). أإلى هذا الحد بلغت سطوتهم حتى على هذا المستوى الفائق العلو والمكانة..!؟
ولكن هل اكتفوا باعتذار رأس الكنيسة الكاثوليكية احتراماً لمكانته وموقعه؟ هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ وماذا كان الرد؟
أوعزوا لأدواتهم بالتحرك في أكثر من مكان، وعلى أكثر من صعيد. كان أخطرها ما عرضته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي. وهذه قناة (دولة رسمية) تعرض تمثيلية هزلية تسخر من سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وأمه السيدة مريم العذراء عليها السلام، على نحو مثير للاستهجان والاشمئزاز لما حوته من إهانات وبذاءات، فضلاً عما بثته من أقوال وافتراءات تنكر نبوتها، بل تصورها في أبشع صورة لأدنى المخلوقات البشرية (معاذ الله). صاحب هذا العمل الرديء يهودي يدعى (لينور باشلان) يقول (ما داموا يصفوننا بالنازيين فهذا هو ردنا..!
وأعجب ما في الأمر أن هذه التجاوزات المسيئة لم تثر في دول الغرب حمية الرد دفاعاً عن أقدس مقدساتها ــ التي هي مقدساتنا نحن المسلمين أيضاً ــ فهل بلغ الإرهاب الفكري اليهودي للغرب هذا المبلغ؟ وكيف يرضى مفكرو الغرب ومثقفوه وعلمانيوه مواصلة الرضوخ لهذا النوع من الابتزاز على صعيد المال، والتخلف الفكري البدائي بالمزاعم الخرافية الإسرائيلية التي هي أسوأ أنواع التمييز العنصري بدعاوى (النقاء) اليهودي و(التميز) اليهودي و(سامية) اليهودي و(تفوقه) على سائر البشر.. شعب الله المختار([9]) ومن وراء ذلك حكاية (الهولوكست) والملايين الستة المزعومة، وهو رقم يفوق عددهم في أوروبا كلها آنذاك([10]) . أليس الغرب عنصريّاً حين يقرُهم على عنصريتهم بدعوى التفوق والتفرد العنصري والديني..؟
تلك إذن هي صورة إعلامهم، مضافاً إليه، وضالعاً معه إعلام مناصريهم. يقابله واقع إعلام عربي مشتت وهزيل وارتجالي، أبعد ما يكون عن التخطيط السليم والبرمجة المجدية لخدمة القضايا العربية والإسلامية، ناهيك عن عجزه المطلق عن التصدي لكشف أكاذيب الطرف الآخر وأباطيله. الإعلام العربي لا يصدر متفقاً على موقف واحد من قضية ما. بل إن لكل قطر إعلامه المختلف عن إعلام كل قطر عربي آخر على حدة، وجملة الأقطار العربية مجتمعة. بل إن من هذا الإعلام ــ بدعوى الحيادية والمهنية والحرفية ــ ما يعرض الأحداث والمواقف والرؤى وكأن الذين يتحدث عنهم وينطق باسمهم ليسوا أمته، ولا هم قومه، فغدونا نستمع إلى حديث عن (طرفين) و(فريقين) و(جهتين). والثنائية هنا إسرائيل (طرف) والفلسطينيون والعرب (طرف)، بمعنى أن الإسرائيليين وعربه هو فريقان يقف منهما على مسافة واحدة، ويضعهما في سلة واحدة. والحجة غالباً ما تكون تلك المفردة التي استهلكت تماماً لكثرة، أو لسوء استخدامها هي (الموضوعية) فأمست كالأسطوانة المشروخة سواء بسواء.
كما غدونا نشهد إعلاماً عربياً يهاجم إعلاماً عربياً في شكل حملات شعواء من قبل فضائية على فضائية، أو جماعة على جماعة أخرى. ونشاهد على سائر الفضائيات من أصبحوا يدعون بال (محلل السياسي) وال (مختص بشؤون كذا..) وال (باحث في استراتيجية كذا...) من أجل إضفاء جدية مغرضة، وأهمية موهومة على ما تتفتق عنه عبقريات هؤلاء، ثم نجد في النهاية أن معظم هذا الإعلام ـ يدري أو لا يدري ـ يصب في مصلحة العدو وكأنه يحارب في صفه.
وبعد فهل لنا بعد كل الذي جرى على شعبنا وأهلنا في غزة أن نطمح إلى نشوء إعلام نظيف، فاعل، مقتدر، يستهدف خدمة قضايا أمته، مدركاً أن مصيره من مصيرها ـ شاء ذلك أم أبى ـ من مهام هذا الإعلام الأولية:
ـ إعادة تشكيل الوعي العربي العام ليصبح التضامن العربي ووحدة العرب تجاه الخصوم أهم أهدافه.
ـ الكف عن استخدام مصطلحات غريبة دخيلة يسربها الأعداء محددة الأهداف والغايات والأبعاد.
ـ التوجه بالخطاب إلى الغرب لتعريفه بحقيقة العدو وموقفه منا، ومن سائر البشر دون استثناء. والتركيز على الربط بين معتقده المسيحي ومعتقدنا الإسلامي، وما بينهما من صلة وثيقة، بحيث إن المسلم لا يكون مسلماً إذا ما أنكر أو تنكر لسيدنا المسيح عليه السلام، وكونه من روح الله، وكونه ارتفع إلى السماء حين سعوا إلى صلبه، في حين أن هؤلاء ينكرون مجيئه أصلاً حتى الآن وأن مسيحهم هم قادم وهو المسيح الحقيقي..!، ويقولون على السيدة مريم العذراء
)إفكاً وبهتاناً عظيماً()ألا ساء ما يحكمون(

وفي القرآن الكريم تقرأ:
)لتجدن أقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى... (
)لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.. (
القرآن الكريم هو الدين السماوي الذي جاء بعد السيد المسيح بخمسة قرون ونيف ليعلن على الدنيا كلها نبأ السيد المسيح وأمه السيدة العذراء. خبر جاء من السماء على حقيقة وجودهما في حين ينكر اليهود ذلك حتى يوم الناس هذا. وهذا النبأ السماوي جاء لصالح السيد المسيح والمسيحية بواسطة نبي وإلا لعمل اليهود على تصنيفه ضمن الأساطير المعروفة. نبأ السماء هذا على المسيحيين أنفسهم أن يحرصوا عليه وأن يتبنوه لأنه حقيقة سماوية جاء بها كتاب سماوي.
ـ التوجه إلى سائر بلدان العالم الإسلامي التي (تعد ملياراً ونصف المليار) لحشدهم وراء قضايانا التي يشاركوننا إياها من الناحية العقائدية، فالقدس ثالث الحرمين، وهي القبلة الأولى، وهي المكان الذي أسري برسول الله إليه، ومنها عرج إلى السماء من موضع قبة الصخرة، وعند حائط البراق. علينا إشعارهم بأن القدس مسؤوليتهم أيضاً كما هي مسؤوليتنا.
ولنا في إيران الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما لنا في تركيا، وفي ماليزيا، خير الأمثلة على ذلك.
يقيناً أن هؤلاء سوف ينضمون إلينا في مطالبنا المحقة. وإنه لمكسب عظيم لو أحسنا التوجه إليهم بالخطاب، بعد أن أهملناهم طويلاً كمصدر قوة لنا، وكان حرياً بنا ألا نتجاهله وألا نهمله.
وأحداث غزة الأخيرة بينت لنا أن هؤلاء معنا بالفعل، فالجماهير الغاضبة الحاشدة في سائر مدن وأمصار البلاد الإسلامية خرجت عن بكرة أبيها تندد بالعدوان وتحرق الأعلام الإسرائيلية والأمريكية، وتناصر شعبنا ومقاومتنا في الديار المقدسة.
لكي يتحقق لنا إعلام فاعل ينبغي السعي إلى تبني فكرته من قبل جهات عربية مخلصة وقادرة على إنشاء مؤسسة إعلامية عربية مستقلة ــ بمعنى أنها غير تابعة لأي جهة تفرض عليها رؤاها وسياساتها الخاصة ــ تسهم في تمويلها حكومات الأقطار العربية بسخاء، وتسهم فيها الشعوب حسب إمكاناتها التطوعية للأفراد والجماعات، كالنقابات والتنظيمات والجمعيات وما إليها.
هذا لكي نخرج من حالة العجز، ومواصلة الادعاء تبريراً لهذا العجز، بالقول بأن العدو يملك (آلة إعلامية جبارة لا قبل لنا بها). لماذا؟ ما الذي ينقصنا أيها الأخوة..؟
ألا يكفي العرب ستون عاماً ونيّف لبثوا فيها غائبين عن الساحة مخلين إياها ـ طواعية وإهمالاً ـ للعدو يلعب فيها ويعبث كما يشاء لكي يصل إلى حيث وصل ولكي نصل نحن أيضاً إلى وضعنا الراهن الذي يسر العدو ويحزن الصديق؟
هل ينكر أحد أن الوضع على الجانبين على ما هو عليه أسهم الإعلام ــ إيجابياً عندهم سلبياً عندنا ــ في صنعه؟. ولمزيد من الإيضاح يجدر بنا التنويه إلى أن هذا الإعلام المرتجى، (الناجح المقتدر) لا يخدم قطراً بعينه أو قضية بعينها دون غيرها؟ بل هو مكرَّسٌ لخدمة القضايا العربية عامة والقضية المركزية خاصة ــ التي هي قضية الجميع وانعكاساتها تقع عليهم ــ فهو مسؤولية الكل دونما استثناء.


([1]) قيل أن الصحفي اليهودي الأمريكي (ثوماس فريدمان) هو واضعها ولكنها نسبت إلى الأمير عبد الله السعودي، في حينه، لكي يقبلها العرب قبولاً حسناً. ونحن نرى أن هذه المبادرة هي الوجه الآخر لمشروع (الشرق الأوسط الجديد).. والله أعلم.

([2]) عيَّنت (بريطانيا ـ الانتداب) أول مندوب سام لها على فلسطين يهودياً هو (هربرت صموئيل) لكي يبدأ بتنفيذ مضمون وعد بلفور ومقتضياته على الأرض. والذي من أبرز نصوصه (وضع البلاد في ظروف تهيئ لإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين) وهو ما صنع الرجل، وبرع في تنفيذه.

([3]) رئيس وزراء أسبق تلميذ الإرهابي جابوتنسكي يقول في مذكراته (أنا أقتل فأنا موجود) سارقاً لمقولة الفيلسوف الفرنسي ديكارت (أنا أفكر فأنا موجود). ومع ذلك يحصل على جائزة نوبل مناصفة مع الرئيس السادات..! وبيجن هذا هو من قام بنسف فندق الملك داوود في القدس إبان الانتداب البريطاني وقتل فيه ما يزيد على مائة شخص معظمهم من البريطانيين.

([4]) كان شعاره بأن حدود إسرائيل هي حيث تصل جزمة الجندي الإسرائيلي من هذه الأرض ثم أشار إلى حيث كان لليهود وجود في خيبر وقريظة في المدينة المنورة). كان ديان أحد عناصر الفيلق اليهودي الذي عمل مع الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية، استعداداً لما كان اليهود يعتزمون القيام به من اغتصاب بلادنا.

([5]) على ذكر هرتسل هذا نذكر قوله: أتمنى لو أني أعيش لخمسين سنة قادمة لأشهد قيام دولة لليهود في فلسطين تدعى (إسرائيل). قال ذلك عام (1897)..! وهو صاحب كتاب (الدولة اليهودية) الذي كان الأساس في التوجه نحو فلسطين لإقامة الكيان الصهيوني على أرضها.

([6]) كتابه (أساطير إسرائيلية) يكذب فيه حكاية الحق التاريخي لهم في فلسطين. حكم عليه بالسجن وبغرامة مالية باهظة في بلده فرنسا.

([7]) كتابه (صناعة الهولوكست) يتهم اللوبي اليهودي وإسرائيل باستخدام (الهلوكوست) وسيلة للابتزاز وكأنها صناعة تدر الأموال وأن اليهود المعاصرين وإسرائيل ليسوا ورثة من تعرضوا للموت في ألمانيا ولا حق لهم في ابتزاز تعويضات مالية ومواقف سياسية باسمهم. أقيمت عليه دعاوى ـ برغم يهوديته ـ وشنت عليه حملات شعواء.

([8]) حوكم هذا الكاتب أيضاً في بلاده ـ وهو البريطاني ـ لصالح الصهاينة.

([9]) من المعلوم أن ضحايا الحرب العالمية الثانية فاقت أعدادها الخمسين مليوناً من البشر جلهم مسيحيون، فلماذا هم الوحيدون (اليهود) الذين اختصوا بهذه العناية الفائقة البالغة حدّ التقديس؟

([10] ) كان عدد يهود العالم كله يومئذ لا يزيد على أحد عشر مليوناً.


[/align]
</H1>
طلعت سقيرق غير متصل