28 / 12 / 2009, 38 : 08 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
شاعر وقاص ، يكتب القصة القصيرة- الشعر- المسرح- الرواية، رئيس قسم قصيدة النثر / هيئة الديوان الألفي ، هيئة النقد
|
وحين يذوب الصقيع.. للدكتور/ ثروت عكاشة السنوسي
يخرج من عيادة الطبيب القريبة من منزله.. شارد الفكر، مشتت الوَجْدِ.. وذرّات التراب الناعم تخترق أنفه في عجالةٍ، ورائحة زهر البرتقال الصابح، ودمعتان تجدان طريقاً إلى خديه.. عَزَّ عليهما من زمن طويل..
رغم الصخب والضوضاء.. تطرّق إلى أذنيه حفيف السعف الحزين.. يوم فشل في دراسته، ونقيق الضفادع، وأشجار الصمغ العالية تهتز بشدةٍ، وتبكي لموت أبيه.. وسؤال أمه التي تركها متحفزةً لزوجته، وتلك الحقول السوداء.. تمتد من عينيه إلى قدميها كخيط الظلام الحبيس.. في عيون النيام.. وزوجته.. تنتظر يوماً طفلاً من أحشائها.. تهدهده حيناً ويداعبها أحياناً... حين يعود كسيراً إليهما.. ماذا يقول..؟
البيت.. ابتعد كثيراً عن عيادة الطبيب، ولم يكن يعلم أن المسافات القريبة تستطيل هكذا.. يشعر بالاختناق، فيدعك رقبته بأصابعه، يشعر كأنه يسير عارياً في الطريق، مغطىً بأسمالٍ بالية.. يلقي بمظروف الأشعات والتحاليل بطول ذراعه.. وهو يلعنها والأطباء والأطفال ومن يريدهم، ثم يضرب الهواء بقبضته، ودموعه تغشي عينيه.. فيمسحها بطرفه ويواصل المسير..
ها هو يسير في المدينة، ويهتز بعنف من وخز الريح العاتية، والبنايات الشاهقة التي تحيطه.. صارت تتمايل عليه وتضحك في شماتة.. قد يكون الطبيب كاذباً، أو لا يدري شيئاً عن الطب، وقد تكون هذي التحاليل لشخصٍ غيره، وكل الأشعّات غير صحيحة.. لن يحتمل أبداً أن يبقى خاملاً في كل العيون.. منتقص الرجولة..
دائماً يسير والشجر لا يزال سامقاً حوله كما كان.. صامداً للريح، التي لا تلبث أن تهدأ وترحل.. لكنه لا يجد اليوم من ينتصر عليه، فيداه خاويتان بلا عروش.. يهز رأسه ليستفيق من كابوسٍ ثقيل.. يتمنى أن يطوي الزمن هذي الصفحات السود سريعاً.. كي يعبر فوقها دون تردد.. ليبقى رأسه شامخاً بين الرؤوس.. يصعد السلم في تكاسل..يدخل متجهماً.. يلقي بسلسلة مفاتيحه بجوار التلفاز، ويلقي بنفسه على أقرب كرسي..
- حمد الله ع السلامة..
لم يرد.. زاغت عيناه إلى السقف، فأسدل جفنيه، وراح بعيداً عنها.. قامت إليه تتوكأ على عصاها.. تربّت كتفه في حنو، وتسأله:
- الدكتور قال لك حاجه زعلتك يا ضناي..؟
لم يجب.. تجثو بجواره وهي ترتعد، تعاود سؤالها مراتٍ عدة... يفتح عينيه، يحملق في الوشم الساكن بين حاجبيها من زمن.. همَّ بإخبارها، لكنه تردد.. لن يخبرها بما يمس رجولته... ولا غيرها أيضاً.. إنه رجل لا يعيبه شئ.. يتنهد بحرقة.. زغدته في قدمه وقالت في غِلّ:
- قلت لك من بدري.. اجوّز عليها..
بصوتٍ باكٍ تخنقه العبرات.. يخبرها بأن زوجته سليمة، وأنه... تسارع العجوز بوضع يدها على فمه، وهي تصرخ راجيةً ابنها ألا يكمل.. ارتكنت إلى الحائط برهة.. تغمض عينيها وتذمّ شفتيها غير راضية، تتكئ لتنهض.. سارت تتخبط إلى حجرتها، وهي تغمغم بكلمات تحبسها الدموع، ثم أغلقت الباب خلفها في هدوء..
راح الظلام يُحكم قبضته على صدره، وساعات الليل الباردة تئن بداخله متدثرةً بالحزن، وقلبه المنتشي بأنشودة الربيع الحالمة مع سيّدة الحُسْن.. صار يرتجف بعنف، وأوجاع الكون تُثمل وحدته، وتتأرجح بداخله.. يقف أمام حجرته لا يستطيع الدخول إلى زوجته، فقد تسرب الأمل من بين يديه، وأودى بآمال أمه في حفيد، فكيف يجابه من عَشِقْ..؟ وكيف يخبرها بما يسقط رجولته من عينيها..؟
يذهب ويجئ في الردهة مراراً، يتجه إلى المرآة.. يرى مسخاً يسكنه الجبن.. يجتاحه الألم بشدة.. يلتفت إلى حجرة العجوز المغلقة.. يعاوده التردد.. ينفتح باب حجرته.. تخرج زوجته في أبهى صورها.. يتسمر في مكانه.. تقترب متهللة.. تحوطه بذراعيها.. يدفن وجهه بين نهديها ويبكي.. تضمه بشدة وهى تخبره بقدوم ولي العهد..
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|