رد: القيروان عاصمة الأغالبة و رابع مدينة مقدّسة في الإسلام
[align=justify]خديجة بنت الإمام سحنون
هي خديجة بنت الإمام سحنون بن سعيد التنّوخي حامل لواء مذهب مالك بالمغرب .
قال عياض: كانت خديجة عاقلة عالمة ذات صيانة ودين " وكان أبوها يحبّها حبّا شديدا ويستشيرها في مهمّات أموره حتّى أنه لما عرض عليه القضاء، لم يقبله إلاّ بعد أخذ رأيها. وكذا كان يفعل أخوها محمّد بعد وفاة أبيها ، اتصفت خديجة بالعلم كما ذكر عياض، وطبيعة أنها استمدّت معارفها من والدها. وقد كان نساء زمانها يستفتينها في مسائل الدين ويقتدين بها في معضلات الأمور لما منحها الخالق جلّ ثناؤه من كمال العقل والمدارك العالية.
قال أبو داود العطار : أرسلني أبو جعفر أحمد بن لبدة ابن أخي سحنون لأخطب له خديجة من أبيها، وكانت من أحسن النساء وأعقلهنّ، فذكرت ذلك لسحنون فقال لي: هممت بذلك، وسكت ، ثم أتاه ابنه محمد فاستشاره ولم يجب الخطبة.
وتوفّي سحنون فأرسلني ابن لبدة إلى محمد ، فذكرت ذلك له فقال : كيف أتجاسر على ما لم يضعه أبي، فسكت عنه حتى توفي محمد ، فأرسلني إليها فقالت لي : "ما لم يفعل أبي وأخي أنا أصنعه؟ لا أفعل أبدا" لعمرك إنما منع خديجة من الزواج بقريبها العالم الحياء والحشمة التي فطرت عليها وكأنها أرادت احترام نيّة والدها وأخيها ولو أدّى ذلك الانقباض إلى تضحية شبابها والاقتصار على أشغال حياتها، بما يرضي الربّ من صلاة وعبادة ونصيحة وإفادة، حتى ماتت وهي بكر في حدود سنـ270ـة هـ، ودفنت حذو أبيها وأخيها بمقبرتهم المشهورة بهم خارج مدينة القيروان.
ابن شـرف القيروانـي
(368 -460 هـ / 1000 -1067)
( أبو عبد اللّه محمّد )
أبو عبد اللّه محمّد بن أبي سعيد بن شرف الجذامي القيرواني. وصفه ياقوت بالأديب الكاتب الشّاعر. تتلمذ لأبي الحسن القابسي وأبي عبد اللّه محمّد بن جعفر القزّاز، وأبي إسحاق إبراهيم الحصري. وكان مع ابن رشيق من المتقدّمين عند المعزّ بن باديس أمير إفريقية، متنافسين ومتهاجيين. وذكر ياقوت في ترجمة ابن رشيق أنّه كانت بينهما "مناقضات ومحاقدات".ومن طريف ذلك أنّ ابن رشيق كان أحول وابن شرف كان أعور فقال ابن رشيق :
لابدّ في العور من تيه ومن صلف *** لأنهم يبصرون النّاس أنصافا
وكلّ أحول يلفى ذا مكارمة *** لأنهم ينظرون النّاس أضعافا
غادر القيروان مع المعزّ بعد سقوطها بأيدي الهلاليين فأقام مدّة بالمهديّة ثمّ غادر إلى صقلّية حيث مكث مدّة مع ابن رشيق، ثمّ خرج إلى الأندلس مخالفا صاحبه ابن رشيق الذي فضّل الهجرة بصقلية قائـلا:
ممّا يزهدني في أرض أندلس *** أسماء مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
فأجابه ابن شرف بقوله :
إن ترمك الغربة في معشر *** قد جبر الطبع على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم *** وأرضهم ما دمت في أرضهم
جاء في "معالم الإيمان" في تقديم هذه الأبيات: (فمن ذلك ما قال أبو عبد اللّه محمّد بن شرف في قصيدة وصف ما كان من صيانة الحريم فيها، ثم ما صارت إليه من الانكسار في الحلّ والتّرحال، وركوب ظهور الخطوب والأهوال).
وكانت له حياة بالأندلس، حيث تردّد على ملوك الطّوائف، وتوفي بإشبيلية 460 هـ/ 1067. ومن رائق شعره قوله في ليلة أنس باردة ممطرة :
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا *** في الأرض فيها والسماء تذوب
جمع العشاءين المصلّي وانزوى *** فيها الرقيب كأنّه مرقوب
والكأس كاسية القميص يديرها *** ساق كخوذ كفّه مخضوب
هي وردة في خدّه وبكأسها *** الدريّ منها عسجد مصبوب
منّي إليه ومن يديه على يدي *** الشّمس تطلع تارة وتغيب
من أعمالـه "مسائل الانتقـاد" نشرها شارل بللا "Charles Pellat" مع ترجمة فرنسيّـة (الجزائر 1953) وكان عبد العزيز الميمني نشر بعضا من شعره في كتابه "النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف" ( القاهرة 1924 ) .
يقول في مقدّمة "مسائل الانتقـاد":
(هذه أحاديث صغتها مختلفة الأنواع، مؤتلفة في الأسماع، عربيّات المواشم، غربيات التّراجم، واختلقت فيها أخبارا فصيحات الكلام، بديعات النظام،لها مقاصد ظراف، وأسانيد طراف يروق الصغير معناها و الكبير مغزاها).
وهي مقامات في النقد الادبي، منها قوله في ابن هاني الأندلسي: (وأما ابن هاني محمّد الأندلسي ولادة، القيرواني وفادة وإفادة، فرعديّ الكلام، سرديّ النظام، متين المباني غير مكين المعاني، يجفو بعطنها عن الأوهام، حتى تكون كنقطة النظام، إلاّ أنّه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه، رمى عن منجنيق يؤثر في النّيق. وله غزال قفري لا عذري، لا يقنع فيه بالطيف، ولا يشفع فيه لغير السيف، وقد نوّه به ملك الزّاب وعظّم شأنه بأجزل الثّواب، وكان سيف دولته في إعلاء منزلته، من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه، لرداءة عقله ورقّة دينه، وضعف يقينه، ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر يستعين عليه بالكفـر).
مـن أهـمّ مؤلفـات ابـن شـرف:
- أبكـار الأفكـار
- أعـلام الكـلام
- مسائـل الانتقـاد
- ديـوان ابن شرف القيرواني
عن كتاب: القيروان في قلوب الشعراء
بيت الحكمة 2009
أسماء بنت أسد بن الفرات
أسماء بنت أسد بن الفرات عالم إفريقية و قاضيها وصاحب الإمامين أبي يوسف يعقوب ومالك بن انس.
نشأت أسماء بين يدي أبيها – ولم يكن له سواها – فأحسن تهذيبها وثقّـف ذهنها علمًا وحكمة وكانت تحضر مجالسه العلمية في داره وتشارك في السؤال والمناظرة حتى اشتهرت بالفضيلة ورواية الحديث والفقه على رأس أهل العراق أصحاب أبي حنيفة.
ولما تقلّد أسد إمارة الجيش المعدّ لفتح جزيرة صقلية على عهد زيادة الله الأول، و هرع الناس لتشييعه وقد نُشرت البنود والألوية وضربت الطبول والأبواق خرجت أسماء لوداع أبيها وأوصلته إلى سوسة حتى ركبت الأجناد الأساطيل العربية وبقيت معه إلى أن غادرت السفن المرسى باسم الله مجراها ومرساها.
وأتاح الله للقاضي الأمير أسد من النصر العزيز والفقه المبين في قلاع تلك الجزيرة وحصولها ماخلّد له في التاريخ أعظم فخر وأشرف ذكر.
واستشهد أسد – سنة 213 هـ وهو محاصر لمدينة سرقوسة عاصمة الروم بصقلية واللواء بيده اليسرى والسيف مسلول باليمنى و هو يتلو قول الله تعالى: "إذا جاء نصر الله".
وبعد وفاة أسد تزوّجت أسماء بأحد تلاميذ أبيها وهو محمـد بن أبي الجـواد الذي خلف أستـاذه في خطـة القضاء و تولّى رئاسة المشيخة الحنفية بالبـلاد الإفريقيـة سنة 225 هـ. ثمّ تخلّى عن القضاء ولحقته محنة من خليفته إذ، اتهمه بمال الودائع وسجنه وبينما ابن الجواد في محبسه، إذ جاءت زوجه أسماء للقاضي الجديد وقالت له:
"أنا أهب هذا المال المزعوم يقضيه عن نفسه " فقال القاضي: إن أقرّ أن ذلك هو المال أو بدل منه أطلقته.
فامتنع ابن أبي الجواد من الاعتراف و أبى القاضي إطلاقه.
ثم بعد حين عزل ذلك القاضي وعاد زوج أسماء إلى منصبه الأول ولم يؤاخذ سلفه بما فعل معه منّةً منه وتكرّما.
ولم تزل أسماء الأسدية معظّمة معزّزة عند الخاص و العام من بيئة عصرها، إلى أن توفّيت في حدود سنة 250 هـ.
أم البنين الفهرية
بينما كان بنو الأغــلب يواصلون السعي في مدّ سلطانهم على إفريـقية الشمالية و جزائر البحر المتوسط إذ ظهرت بالمغرب الأقصى دولة عربية توصّلت إلى فصل تلك البلاد عن ملك الأغالبة و استقلت بها و هم: الأدارسة العلويون: و لمّا توطّد الأمر لأفراد هذه الأسرة، رغبوا في جلب بعض البيوتات العربية تعزيزا لجنابهم واستئناسا بقربهم...
ففي أيام إدريس الأصغر قـصَدت المغرب الأقصى وفود من عرب إفريقية و الأندلس نازحين إليه و ملتفّين عليه فسُرّ بوفادتهم... و لم تزل الوفود تتوارد على هذا الأمير حتى ضاقت مدينة (وليلي) – و كانت عاصمته – فأراد أنّ يتّخذ مدينة لسكناه و نزول خاصّته فاختطّ مدينة فاس – سنة 192 هـ – و جعلها قسمين يفصل بينهما نهر سبو. و سمّى القسم الأول (عدوة القرويين) نزول العرب الوافدين من القيروان بها وكانوا زهاء 300 بيت، و دعا القسم الثاني (عدوة الأندلس) و انتقل إدريس لسكنى عدوة القرويين...
أم البنين الفهرية: بانية مسجد القرويين بفاس
و من بين العرب النازحين إلى المغرب الأقصى مع تلك الوفود إمرأة صالحة من أهل القيروان تسمّى"فاطمة بنت محمّد الفهري"، و تكنّى "أم البنين" نزلت في أهل بيتها بعدوة القرويين على عهد إدريس الثاني، و بعد مدّة مات زوجها و إخوتها فورثت منهم مالا جسيما، و كان من الحلال الطيّب، فتعلّقت همّتها الشمّاء بصرفه في أعمال البرّ، و عزمت على بناء مسجد تجد ثوابه عند الله في الآخرة ("يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا")، فاشترت أرضا بيضاء قرب منزلها بالقرويين، كان أقطعها الأمير إلى رجل من هوّارة و شرعت في حفر أساس المسجد و بناء جدرانه بالطابية و الكذّان. و كانت الطريقة التي سلكتها في بنائه أنها إلتزمت أن لا تأخذ التراب و غيره من مادة البناء إلاّ من نفس الأرض التي اشترتها دون غيرها ممّا هو خارج عن مساحتها، فحفرت كهوفا في أعماقها و جعلت تستخرج الرمل الأصفر الجيّد و الحجر الكذّان و الجصّ و تبني به، تحرّيا منها أنّ تدخل شبهة في تشييد المسجد، ثم أنها انبطت بصحنـه بئـرا حلـوة للبنـاء و الشراب. فجـاء المسجـد محكـم البنـاء، فسيح الأرجاء، ذا رونق و بهــاء، و لم تزل فاطمة القيروانية صائمة من يوم شرع في بنائه إلى أنّ تمّ، و صلّت فيه شكرًا لله تعالى و امتنانا لفضله الكريم الذي وفقها لأعمال الخير و ذلك يوم السبت فاتح رمضان من سنة 245 هـ. قال ابن خلدون: "فكأنّما نبّهت عزائم الملوك من بعدها"، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
و قـد عـادت بركة نيـّتها الصالحة و ورعـها علـى هذا المسجد حتى كان منه ما تـرى اليوم، إذ هو (جامع القرويين) الشهير و المعهد الديني المعتبر، أكبر كليّة عربية في البلاد المراكشية.
و قال ابن أبي زرع: هما أختان فاطمة أم البنين و مريم أم القاسم بنتا محمد الفهري القيرواني، بَـنَـت فاطمة (جامع القرويين) المذكور و بَـنَـت مريم (جامع الأندلس) من مال حلال طيب موروث عن أبيهما و إخوتهما. فلم يزل المسجدان على ما بنتهما الأختان بقية أيام الأدارسة حتى انقضت أيامهما...
إنّ هذه التقوى و هذا الزهد، و إن كان أليق بمثل الأختين القيروانيتين وأجدر بمن كان حيّا في العصر الإسلامي الأول، إلاّ أنّ في عملهما المبرور عظة و عبرة لو تذكّرها الخلف، نظر الله وجههما و شكر صالح سعيهما بمنّه وكرمه.
عن كتاب "شهيرات تونسيات" لـحسـن حسني عبد الوهاب.
إبراهيم بن الأغلب
إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي هو مؤسّس أوّل سلالة حاكمة مسلمة بإفريقيّة. وقد دام حكمها أكثر من قرن، من 800 إلى 909.وهو من تميم،وهي قبيلة من شمال الجزيرة العربيّة. وقد كان والده حاكما على إفريقيّة سنة 765.
وقد تابع تعليما جيّدا ملائما في الفقه ولكنّه فضّل مهنة الجيش وفيها أصبح قائدا لامعا. وعاش إبراهيم بن الأغلب في إقليم المزاب إلى أن عيّنه الخليفة هارون الرّشيد واليا على القيروان. وقد اشترط أن يكون الحكم وراثيّا لصالح أبناءه وأجيب طلبه.
وتولّى حكم القيروان من سنة 800 إلى سنة 812 فكان يسيّر شؤون الرعيّة بكلّ ما عرف عنه من خصال العدل والرّحمة. وقد بنى على بعد ميلين من مدينة القيروان قصرا منيعا هو "العباسيّة" تحرسه حامية بها خمسة آلاف جندي أسود مهمّتهم مقاومة كلّ الثورات وحركات التمرّد المحتملة.
تميّز عهده بالسّلم. وقد خلفه أبناؤه؛ فحكم عبد الله الأوّل من سنة 812 إلى سنة 817 ثمّ زيادة الله بين سنتي 817 و 838.
عقبة بن نافع
هو قائد عربي أرسله الخليفة معاوية سنة 670 لفتح طرابلس وإفريقيّة. فأسّس القيروان و جامعها واتخذهما قاعدة عسكريّة منها تنطلق الفتوحات الجديدة. وبعد أن عزله والي مصر سنة 674، أرسله من جديد الخليفة يزيد بن معاوية إلى إفريقيّة سنة 681.
و قد قاد حملة عسكريّة وصل على إثرها شاطئ المحيط الأطلسي وهو آخر حدّ للعالم المعروف في ذلك العهد. وعند عودته من هذه الحملة العجيبة الأطوار، فتله القائد البربري كسيلة في معركة تهودا (تسمّى اليوم سيدي عقبة) قرب بسكرة عند سفح جبال الأوراس وذلك عام 683.
كان عقبة رجلا صالحا وشجاعا وبطلا مقداما ورجلا فاضلا يبني المدن ويفتح البلدان. وهو من أشهر رجال الإسلام خلال القرن الأوّل للهجرة.
إنّ موته في كمين أحاط شخصيته بهالة من التّقدير الذي يكنّه الجميع للشهيد.
أسد بن الفرات
قبل أن يشتهر أسد بن الفرات بحملته على صقلّية التي خاضها كقائد متنصر سنة 827، وعمره ستّون سنة. كان فقيها يعرف بعلمه ورأيه. وهو من أصل فارسي؛ ولد بخرسان سنة 759. وقد رافق والده وهو شاب صغير حين جاء إلى إفريقيّة سنة 766.
درس الفقه على العالم علي بن زياد (توفّي عام 799) وهو تلميذ الإمام مالك بن أنس بالمدينة ومؤسّس جامعة جامع الزيتونة الكبير ب تونس. وفي عام 788، رحل إلى الشرق حيث تلقى دروس تلامذة الإمام أبي حنيفة، صاحب المذهب الحنقي، بالعراق. وسافر بعد ذلك إلى المدينة حيث تتلمذ على الإمام مالك بن أنس نفسه.
وبعد هذه المرحلة، ألّف كتابه المشهور "الأسديّة" نسبة إلى اسمه. وهو بمثابة مدوّنة فقهيّة وعقائديّة وازنت بين المذهبين المالكي بالمدينة والحنفي بالعراق.
وبرجوعه إلى القيروان تفرّغ للتّدريس. وكانت مدرسة القيروان الفقهيّة التي أسسها تمثل النخبة الأغلبيّة الجديدة ومنها الإمام سحنون. وفي سنة 819، عيّنه الأمير زيادة الله الأوّل قاضيا أكبر على إفريقيّة.
وفي عام 827، سمّاه نفس الأمير قائدا على الجيش الذي سيقوم بحملة على صقلّية. كانت خطبة وداعه نصّا شهيرا ثبت عبر التّاريخ. وبعد أن نزل بمدزارا، استطاع أن يحتلّ بسرعة مدن جنوب صقلّية. ولم تصمد أمامه إلاّ مدينة سرقسطة. ورغم التعزيزات التي تمّ مدّه بها من تونس، فإنّ حملته تعثّرت. فقد أباد جيشه طاعون ساحق. وفي صيف 828، قضى المرض على أسد بن الفرات تحت أسوار سرقسطة أي في المكان ذاته الذي مات فيه القائد القرطاجي ماقون. وصارت له في نفوس النّاس مكانة الشهداء.
عبد الله بن أبي زيد القيرواني
310 هـ/ 922 -923 م – 386 هـ /996 م
عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمان النفزي القيرواني أبو محمد.
كانت نشأته ودراسته بالقيروان، وهي في عصره وارثه تراث العلوم الشرعية، تحتضن كثيرا من أعلام المذهب المالكي، وتخضع لسلطان العبيديين، ثم لسلطان بني زيري الصنهاجيين الذين بدأ حكمهم عندما انتقل أبو تميم المعز إلى مصر سنة 362 هـ، واستخلف بلكّين أبا الفتوح يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي.
تلقّى ابن أبي زيد العلم بجامع عقبة بن نافع وبغيره من المواطن التي يبث فيها شيوخ القيروان دروسهم في مختلف فنون العلم، ومنها بيوتهم الخاصة، وقد كان من أشهر شيوخه:
- أبو الفضل العباسي بن عيسى الممسي، وهو فقيه فاضل يجيد الجدل والمناظرة.
- أبو سليمان ربيع بن عطاء الله نوفل القطان، من الفقهاء النسّاك، متبحّر في علوم القرآن والحديث.
- أبو بكر محمد بن محمد بن اللبّاد القيرواني، وهو حافظ جمّاع للكتب، مع حظّ وافر من الفقه، وكان ابن أبي زيد ملازما له مختصا به.
- أبو يعرب محمد بن أحمد بن تميم القيرواني المؤرخ الشهير وثقة صالح، عالم بتراجم الرجال.
- أبو عبد الله محمد بن مسرور العسّال الشهير بعلمه وصلاحه.
- أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق الأبيّاني عالم إفريقية في زمانه وحافظ المذهب بها.
- أبو محمد عبد الله بن محمد بن مسرور التجيبي المعروف بابن الحجّام القيرواني، وهو محدّث فقيه جمّاع للكتب، مصنّف في أنواع العلوم...
وسمع ابن أبي زيد من كثير من الرواة أمثال الحسن بن نصر السوسي وعثمان بن سعيد الغرابلي وحبيب بن أبي حبيب الجزري.
ولابن أبي زيد رحلة مشرقية، أدّى فيها فريضة الحجّ وسمع فيها من بعض الأعلام، مثل ابن الأعرابي وابن المنذر وأبي علي بن أبي هلال و أحمد بن إبراهيم بن حمّاد القاضي.
وكانت له عناية بالرواية والإسناد، وقد أجازه بعض مشاهير عصره في مراكز علمية مختلفة، منهم أبو اسحاق المالكي المصري، أبو بكر الأبهري المالكي العراقي وأبو زيد المروزي وأبو سعيد الأعرابي.
وأسانيده عالية فيما رواه من أحاديث ومن الكتب الفقهية التي تعدّ من أمهات المذهب، وقد اعتمدها في كتابه "النوادر والزيادات" الذي ذكر في مقدّمته سنده إلى مؤلّفيها.
فالمستخرجة حدّثه بها أبو بكر العتبي.
والمجموعة حدّثه بها دارس بن أبي مطر عن محمد بن المواز
والواضحة رواها عن عبد الله بن حبيب.
وكتاب محمد بن سحنون سنده فيه عن محمد بن موسى عن أبيه عن ابن سحنون.
وكانت الكتابة إحدى وسائل اتصاله بالمشيخة، من ذلك أنه كتب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني عالم العراق يستفسره في قضية الكرامات، فأجابه بتأليف خاص في هذا الموضوع، والداعي إلى هذا الاستفسار أنّ بعضهم نسب إليه نفي كرامات الأولياء، عندما ألّف في الإنكار على رجل يدّعي خوارق ويقول أشياء تنفر منها العقول، وقد تأوّل الباقلاني كلام ابن أبي زيد، وقال في صدر التأليف الذي ردّ به على الاستفسار: شيخنا أبو محمد رضي الله عنه متسع العلم في الفروع، مطلع على جمل من الأصول لاينكر كرامات الأولياء ولا يذهب مذهب المعتزلة.
وكان علماء المغرب والأندلس عندما يرحلون إلى الحرمين للحجّ والزياة يتوقفون بالقيروان لمذاكرة علمائها وتبادل الإجازة والحوار في بعض المسائل الفقهية.
و بفضل المناخ العلمي القيرواني والرحلة المشرقية لابن أبي زيد والصلات العلمية والمذاكرات، اجتمعت له ثروة زاخرة من النقول والمأثورات، ومُهّدَ له سبيل الاجتهاد الفقهي والنظر العقلي وبلغ رتبة علمية سامية، قبل أن يتجاوز العقد الثاني من عمره، ثمّ زكت ملكته الفقهية، ممّا هيّأ له أن يؤدي أكبر الخدمات لمذهبه المالكي.
وقد كان يتمتع بحظوة لدى الشيوخ، لما ظهر عليه من بوادر النبوغ، فقد كان الشيخ أبو إسحاق السبائي يتيح له أن يتذاكر بمحضره مع الطلبة والعلماء الذين كانوا يرجعون إليه، فيما أشكل عليهم من المسائل العويصة.
وكان شيخه التجيبي أهداه ثلث ما بخزائنه من الكتب الوفيرة، عندما مرض وخشي استيلاء السلطان الشيعي عليها.
وممّا يدلّ أيضا على مكانته السامية لدى شيوخه ما حلاه به أستاذه أبو العباس الإبياني، فقد قال عنه بعد أن اجتمع به وحاوره: (رأيت شابا عاقلا كاملا فاضلا، لو وزنت الجبال الرواسي بعقله لرجحها).
و قد توالت شهادات معاصريه ومن بعدهم، تمجّد خصاله وتبرز جوانب نبوغه.
وقال القاضي عياض: (كان أبو محمد أبي زيد من أهل الصلاح والورع والفضل).
وممّا اشتهر به عبد الله بن أبي زيد القيرواني، الجود والكرم وكثرة البذل للفقراء والغرباء والطلبة، وإعانة المحتاجين.
ابن أبي زيد: رائد المدرسة الفقهية المالكية
أمّا أثره في خدمة المذهب المالكي ودعمه فهو يتجلى في مجالات عديدة، كالتدريس والمذاكرة والتأليف والاجتهاد والفتوى، وقد أهّله لخوض هذه المجالات زاده الوافر من المعرفة الشرعية والثقافة الإسلامية وسعة اطلاعه على الآثار والروايات المتعلقة بالفروع المالكية والنقول عن إمام المذهب وأصحابه، ويضاف إلى ذلك فصاحة لسانه وبارع أسلوبه وحسن بيانه وغزارة حفظه.
اشتهرت في القيروان مجالس دروسه، وكانت تفتتح بأسئلة متعلقة بمسائل دقيقة عويصة، يشجّع طلبته على إلقائها، تارة ويصوغ هو بنفسه ما يتوقع منها تارة أخرى، ثم يجيب بما يشفي غليله ويقنع العقول. وكان الإقبال على هذه المجالس ملحوظا، فبالإضافة إلى طلبة القيروان وإفريقية، كانت الرحلة تشد إليها من أقطار مختلفة. فكثيرون هم طلبته الإفريقيون والصقليون ومن فاس وسجلماسة والأندلس وكانوا يحرصون على سماع مؤلفاته وحملها عنه رواية وإجازة.
ولابن أبي زيد حرص على دعم الصلة بتلاميذه بعد أخذهم عنه، فهو يفتيهم فيما يسألون عنه، ويكتب إليهم. وقد ذكر القاضي عياض من بين مؤلفاته، رسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن.
و مؤلفاته كان لها انتشار واسع في أقطار المغرب والأندلس، وهي في أغلبها مصنّفات فقهية تخدم المذهب المالكي وتفصّل أحكامه وتعرض آراء رجاله، ومواقف إمامه من مختلف القضايا المستجدّة، وتأويله للنصوص وأصوله المعتمدة في الاستنباط.
وتناولت بعض مصنفاته أصول الدين والقرآن الكريم والزهد والرقائق والردّ على المبتدعين.
ومن مصنفاته الفقهية ما تناول الأبواب المعهودة في العبادات والمعاملات كلّها، ومنها ما اهتم بموضوعات معيّنة يبحثها بتعمّق ويعرض أحكامها و يبدي اجتهاده في مسائلها.
و كان المعوّل في المجال الفقهي في المراكز المالكية على ثلاثة من الكتب نالت أوفر الحظّ من الدراسة والاهتمام طيلة قرون بعد عصر مؤلفّها ابن أبي زيد و هي:
- النوادر والزيادات على ما في المدّونة من غيرها من الأمهات
- مختصر المدوّنة الكبرى للإمام سحنون
- الرسالة الفقهية
فالكتاب الأول: يقول عنه ابن خلدون (جمع ابن أبي زيد جميع ما في المذهب من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب "النوادر" فاشتمل على جميع أقوال المذهب، وفروع الأمهات كلّها في هذا الكتاب).
و هكذا كان هذا الكتاب موسوعة للفقه المالكي يستفيد منها مَن تقدّمت له عناية بالفقه واتسعت له دراية، لاشتماله على اختلاف علماء المذهب، كما صرّح مؤلّفه في مقدمته.
والكتاب الثاني: لئن كان من المصنّفات العديدة التي وضعها أعلام المذهب على المدوّنة الكبرى شرحا وتلخيصا وتهذيبا وتعقيبا، فإنه كان من أهمّها وأكثرها ذيوعا في ربوع المراكز المالكية.
والكتاب الثالث: هو أشهر كتب ابن أبي زيد وأوسعها انتشارا لدى أتباع المذهب، وهو رسالة تلخص في مقدّمتها أحكام العقيدة وفي أبوابها أحكام الفقه المالكي، وهي باكورة إنتاج ابن أبي زيد ألّفها في سنّ الحداثة باقتراح الشيخ المؤدب أبي محفوظ محرز بن خلف الصدفي وجعلها للمبتدئين.
وقد استقطبت هذه الرسالة اهتمام كثير من الشرّاح من بلدان مختلفة وأنّ ذلك هيّأ لها العناية الفائقة وجعلها كتابا مدرسيا يُقبل الطلبة عليه ويقوم الشيوخ بتدريسها.
وهناك مظهر آخر للاهتمام بالرسالة يتجلّى في ترجمتها إلى لغات حيّة، كالفرنسية والانجليزية.
و كانت "الرسالة "من المقرّرات التي تدرّس بالقرويين والزيتونة وغيرها من مؤسسات التعليم الديني بالبلاد التي ينتشر فيها المذهب المالكي.
ولعبد الله بن أبي زيد مؤلفات أخرى:
الاقتداء بأهل السنّة – البيان في إعجاز القرآن – تفسير أوقات الصلاة – التنبيه على القول في أولاد المرتدّين- الثقة بالله والتوكل على الله – الذّبّ عن مذهب مالك....
وكانت وفاة ابن أبي زيد في شعبان سنة 386 هـ (سبتمبر 996 م) على الصحيح- وصلّى عليه أبو الحسن القابسي بالريحانية ودفن بداره، ومازال مقامه معروفا بالقيروان، وتضّم اليوم داره روضة لتعليم الصبيان وقد رثاه كثيرا من أدباء القيروان.
دائرة المعارف التونسية – بيت الحكمة – قرطاج –
محمد أبو الأجفان
[يتبع]
[/align]
|