الولع الحضاري لدى السندباد العصري (د. حسن فوزي )
بقلم الدكتور/ صلاح فضل
يعلن حسين فوزي في كتابه الأول ضمن سلسلة سندبادياته التي بلغت سبعة كتب، وقد نشره عام 1938 بعنوان (سندباد عصري): جولات في المحيط الهندي يعلن استراتيجيته الثقافية دون مواربة، في هذا الإهداء الذي يمهره بتوقيعه الخطّي:
درجت على حب الغرب، والإعجاب بحضارة الغرب، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا، فتمكّنت أواصر حبي، وتقوّت دعائم إعجابي. فلما ذهبت إلى الشرق: عدت إلى بلادي وقد استحال الحب والإعجاب إيمانا بكل ما هو غربي.
ومن يومها أصبح حسين فوزي، بين أبناء جيله من رواد النهضة الثقافية، نموذجا للمفكر المصري المولع بحضارة الغرب، يتغنى بعلومها وآدابها وفنونها على السواء، ويبقى رحيق إيمانه لقرّاء مقالاته وكتبه، ومستمعي برامجه الإذاعية في التحليل المدهش لروائع فنون الموسيقى الغربية.
وإذا كانت علاقتنا اليوم بالغرب، تمر فكريا وثقافيا بأزمة ثقة متبادلة، تتجاوز في خطورتها ما شهدته إبان المد الاستعماري في مطلع العصر الحديث، من تجاور العناق والطعن، فإن لنا أن نتساءل عن حدود هذا الإيمان وبواعثه، وشروطه ونتائجه، وعلاقته برؤية الهوية وتمثل المصير، وكيف أسهم في تشكيل وعينا بالماضي والمستقبل.
بذرة الافتتان:
كان حسين فوزي قد ولد في تباشير مطلع القرن العشرين عام 1900في حيّ الحسين بالقاهرة المعزّية. وقد حفظ القرآن الكريم في الكتاب بعد انتقال أسرته إلى حيّ باب الشعرية المجاور، ثم حصل على الشهادة الإبتدائية من المدارس المدنية، ومن بعدها التوجيهية عام 1917، ودخل مدرسة الطب، ولم تلبث أن أدركته ثورة 1919 فاشترك فاعلا في أحداثها ومظاهراتها، ثم حصل على بكالوريوس الطب عام 1923 وعمل طبيبا للعيون في القاهرة وطنطا، ولكن مسيرة حياته لم تلبث أن تبدلت عندما ابتعث إلى فرنسا في عام 1925 لدراسة الأحياء المائية وعلوم البحار. وحصل على بكالوريوس العلوم من جامعة السوربون، وتزوج من زميلة دراسة فرنسية، رافقته خلال رحلة حياته، وعند عودته إلى الوطن أوائل الثلاثينيات أسس معهد علوم البحار والبيطرة، ثم اشترك بعد بعثته في رحلة الباخرة ((مباحث)) التي جابت البحر الأحمر والمحيط الهندي لمدة تسعة شهور، لإجراء أبحاث علمية متعددة سجلها في كتابه الذي أشرنا إليه، وظل يعمل في ميدان العلوم البحرية حتى أسند إليه تأسيس أول كلية للعلوم بجامعة الاسكندرية تحت إشراف طه حسين عام 1942، وبعد قيام الثورة عين عام 1955 وكيلا لوزارة الثقافة، ثم اشترك مع ثروت عكاشة في تأسيس أكاديمية الفنون وعمل رئيسا لها عام 1965، وانتقل إلى رئاسة الأكاديمية المصرية عام 1968 قبل أن يتفرغ للتأليف العلمي والريادة الموسيقية حتى وفاته عام 1988.
ولأنه قد سجل تاريخ حياته الفكري والروحي في كتابه الشائق ((سندباد في رحلة الحياة))الذي أصدره في يونيو 1968 فقد كشف فيه عن بذرة افتتانه بالثقافة الأوربية منذ مراحل تعليمه الأولى في العقد الثاني من القرن العشرين، ويجدر بنا أن نتأمل هذه الجذور لندرك طبيعتها المشتركة لدى أبناء جيله، والأجيال التالية حتى يومنا هذا، وتقف على مستويات التناغم في المكونات الأولى للشخصية المصرية والعربية المعاصرة. وإذا كان تحليله المتأخر لهذه المكونات يصطبغ برؤيته في الشيخوخة، إذ لم يتم إبان شرخ الشباب كما فعل طه حسين في ((أيامه)) فإنه يكتسب بذلك طابع الاعتراف الصادق دون مكابرة أو تأنق أدبي. يحكي حسين فوزي أنه ما إن بدأ بدراسة الأدب العربي في ((السعيدية الثانوية)) حتى اندفع يطالع أعلام هذا الأدب في دواوينهم وخطبهم ورسائلهم، ثم حدث أن اتسعت معارفه في اللغة الانجليزية حتى استطاع أن يطالع القصص والقصائد المشهورة فيها، ولم يكتف بما وضعت نظارة المعارف بين يديه من مجموعات شعرية، بل اقتنى ((الخزانة الذهبية)) جمع ((بالجريف)) والتهم منتخباتها التهاما، بفهم ناقص يكمله تأثره بموسيقى الشعر وأوزانه. وكلما تقدمت بنا الدراسة، واتسع الاطلاع نضج الفهم فإذا بالأدب الأجنبي يجتذب التلميذ إليه بقوة، ولا غرابة في هذا لأن الأدب الأجنبي الذي ألقى إليه يرتد إلى القرن السابع عشر، وأغلبه من التاسع عشر فالقرن العشرين، بينما الأدب العربي يعبر عن مشاعر ويصوّر أفكار قرون غابرة، ربما كان أقربها إلينا القرن الحادي عشر، والأمر هنا لا علاقة له بقومية أو وطنية، فلغتنا هي العربية، آمنا، وكنوز العربية ما أروعها وأبلغها!ولكنها تعبر عن وجدان أهل لنا بعيدين عنا جدا في الزمان، فالفارق هنا ليس بين شعب وشعب، بل هو فارق إدراك وإحساس، وطريقة في التعبير عن خوالج الإنسان: أقرب إلينا في الأدب الأوربي لمجرد تقارب الزمان الذي تعبر عنه، ويضيف حسين فوزي إلى هذا العامل التاريخي عوامل فنية أخرى تتصل بتنوع الآداب الغربية من قصة ورواية ومسرحية، إلى جانب الشعر الذي يقف وحده في الثقافة المدرسية العربية، ويطالب بأن تشمل مختارات النصوص العربية صفحات وضيئة تحفل بجوانب الحضارة العربية الإسلامية، من التاريخ والفلسفة والعلوم والفنون والرحلات، حتى تضارع تلك النصوص الثرية بعوالمها وتجاربها في الثقافات الأجنبية، وأعتقد أن بوسعها أن نذهب إلى أبعد من ذلك في تقديمنا للجوانب الفاتنة من تراثنا الأدبي في المناهج التعليمية حتى يتوازى التكوين العقلي والوجداني للشباب العربي، بوسعنا أن نعدل عن هذا النموذج التاريخي الصارم في البدء بالعصور القديمة فحسب، مما يباعدالشقّة ويجافي الألفة، بأن نضع إلى جانب الشعر بدايات القصة والمسرح والفنون الأخرى في المراحل المختلفة، مما يحبب الشبيبة في تراثها، ويكشف عن مذحورها الحضاري المنوع الخلاق، لا لنتفادى بذرة الإعجاب بالغرب التي كشف حسين فوزي عن تربتها، ولكن لنمد دائرة الإعجاب لتشمل الإنجاز الحضاري للإنسان في الشرق والغرب معا، والوعي التاريخي العميق بإسهامنا المبدع في هذا الإنجاز، فتكوين الكفاءة اللغوية والأدبية العالية وبلورة منظومة القيم الرفيعة لا تتأتى بالتجهيل بالآخر وغمطه دوره ومناجزته بالتفاخر المعيب.
قناع السندباد
اتكأ حسين فوزي طيلة حياته العلمية والفكرية على قناع أسطوري اكتشفه في التراث العربي المصري، ووظّفه بمهارة عالية، لتمثيل شغفه بالعلم، وتوقه إلى رحلات البحر، وإمعانه في كشف أسرار عجائبه ومخلوقاته في عصر الأنوار الإنسانية. مضمرا بذلك حسّا أدبيا رفيعا، وقدرة فنية عالية. وقصة السندباد كما يرى حسين فوزي هي القصة البحرية الكبرى في الأدب العربي طبقا لألف ليلة وليلة. وهي فوق هذا واحدة من أهم قصص البحار في آداب العالم. ولو لم يحتو كتاب ألف ليلة على قصة عبدالله البري والبحري لكانت قصة السندباد هي القصة البحرية الكاملة الوحيدة في اللغة العربية. بيد أن البحر في قصة عبدالله كان وسيلة إلى غاية هي العرض الفلسفي، أما البحر في قصة السندباد فهو الغاية التي تنتهي إليها القصة، البحر هو بطلها، أو هي على حد تعبيره حوار بين اثنين: البحر والسندباد. حوار يتطور من الهدوء إلى العنف، ومن تبادل الود إلى تداول الكلمات والمناجزة والصراع.
وقد بذل حسين فوزي جهدا علميا فائقا في كتابه (حديث السندباد القديم) 1943 لتأصيل رحلات السندباد، طبقا للمعارف الجغرافية وكتب العجائب السابقة عليه في الثقافة العربية، ليثبت أن من قام بتأليفه على هذه الصورة المكتملة ينتمي إلى هذه الثقافة الغنية، إذ يتبين له من مجموع النصوص التي اختبرها أنه صاحب القصة قد ألفها وفي ذهنه صورة جغرافية للبحر الشرقي الكبير (المحيط الهندي) إن لم تكن شديدة الوضوح، فهي ليست أكثر إبهاما من الصورة التي تنطبع في أذهاننا من مطالعة كتب الرحلات والعجائب والمسالك والممالك. ومعنى هذا في تقديم حسين فوزي بعد البحث العلمي المستفيض أن مصادر كتب الجغرافيا العربية وكتب العجائب ومصادر قصة السندباد واحدة: مجموعة المعارف المتداولة عن البحر الشرقي الكبير فيما بين القرن التاسع والرابع عشر الميلاديين. مثل كتاب (المسالك والممالك) لابن خرداذبة، صاحب بريد الخليفة المعتمد على الله في القرن التاسع الميلادي، و(مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي في العاشر، والآثار الباقية من القرون الخالية (للبيروني في القرن الحادي عشر)، و(نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للإدريس في الثاني عشر، و(عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) للقزويني في الثالث عشر، ثم (فريدة العجائب) لابن الوردي في الرابع عشر، على سبيل المثال وليس الحصر.
وقد انتهى في جهده التوثيقي المقارن إلى أن قصة (السندباد البحري) - وهي نموذج لبقية قصص ألف ليلة وليلة - عربية مستحدثة، لا يرجع تأليفها إلى ما قبل القرن الحادي عشر الميلادي، وأسلوبها ولغتها الدارجة - كما تبدو في النصوص المنشورة - قد تنزل بتأليفها إلى القرن الرابع عشر أو بعد ذلك، وليست مترجمة عن أصول هندية أو فارسية، ولا يستبعد أن يكون مؤلفها مصريا أو على الأقل عارفا باللهجة القاهرية في تلك الحقبة كما تداولتها المؤلفات الشعبية الأخرى. وأيا كان مؤلف السندباد، فردا أو جماعة، فقد استطاع أن ينشئ قصته الخلابة من أشتات المعارف الجغرافية، وحكايات الرحالين المتداولة في عصره، دون أن ينتقص هذا من قدره كفنان بارع، فللقصة تخرج على لسان بطلها مفعمة بالحياة، تتدافع أحداثها بعضها في إثر بعض، >كأنها أمواج البحر الزاخر الذي لجّ فيه السندباد، وعرف مرّه أكثر من حلوه، ورضي مع هذا أن يكون أمير سحره، فلا سبيل إلى العجب أن احتضنتها آداب العالم، منذ نشر (جالان) ترجمتها الفرنسية في مطلع القرن الثامن عشر، ونشأت عليها أجيال من الشباب، وتأثر بها كبار الكتّاب الخياليين، أمثال (ديفو) و(سويفت) و(هوفمان) و(إدجار آلان بو) و(لاموت – فوكيد) و(هانس أندريسون) و(جريم) ولا أحسبني مبالغا إذ ألاحظ أثرها في طائفة كبرى من الأدب البحري في العالم. وقد رفعها الناقد (ريتشارد هول)إلى مكانة (الأودية) قياسا مع الفارق.
والقصة طبقا لتحليل حسين فوزي الممتع تبدأ سهلة السرد هادئة، لا تنم على ما تخبئه من روائع، ثم تترادف أحداثها وتتشعّب حتى تصل إلى عقدتها الكبرى عندما يدفن السندباد حيا - ثم تعود بعد ذلك رويدا إلى هدوئها، كما تعود حياة السندباد سيرتها بين خدمه وأعوانه كأني بها مقطوعة سيمفونية تبدأ هادئة اللحن ثم ترتفع أنغامها وتتفرع عن لحنها الأساسي شتى الألحان، تتلقفها آلات الأوركسترا أفرادا وجماعات حتى تدوي بها كل الآلات الوترية والهوائية والنحاسية، ويعلو لحن البحر والعاصفة وصوت الأمواج المضطربة ، وقعقعة السفينة وشرعها تضرب ممزقة في صواريها وحبالها تلهب ظهرها كالسياط، ثم هي ترتد إلى هدوئها الأول لتنتهي فوق الأوتاد دبيبا وحفيفا، لا تلبث أن تحمله على أجنحتها أخف النسمات.