بعد 36 عاما ..
طبعة جديدة من رائعة صبري موسى " فساد الأمكنة "
بقلم : سميرة سليمان
أعادت دار الشروق للنشر طبع رواية الأديب الراحل صبري موسى " فساد الأمكنة " بعد نحو 36 عاما على صدور طبعتها الأولى عن مؤسسة روزا اليوسف ، وقد سبب صدورها دويا هائلا في الساحة الثقافية المصرية حينذاك واعتبرت واحدة من اهم روايات القرن العشرين بشهادة الكثيرين . وفي المقدمة يخبرنا المؤلف أنه قضى سنوات سنوات فى الصحراء الشرقية لكتابة هذه الرواية ، تبدأ من 1963 عندما قام برحلته الأولى إلى جبل الدرهيب قرب حدود السودان، وكانت فكرة الرواية قد تشكلت داخله أثناء هذه الرحلة، ثم عاد إلى الدرهيب مرة أخرى عام 1965 خلال زيارته لضريح المجاهد الصوفى أبى الحسن الشاذلى المدفون عند "عيذاب".
نشرت الرواية مسلسلة بمجلة "صباح الخير" خلال عامي 1969 و1970 حتى صدرت طبعتها الأولى في يوليو عام 1973، ونالت الرواية جائزة بيجاسوس الأمريكية عن الأعمال الأدبية غير المكتوبة بالإنجليزية، أما المؤلف فحصل بها على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية عام 1974، وعلى وسام الجمهورية للفنون من الطبقة الأولى.
صبرى موسى المولود عام 1938 فى دمياط درس الفنون الجميلة، ثم التحق بالعمل الصحفي، وصدرت له أربع مجموعات قصصية هى "القميص" و"وجها لظهر" و"حكايات صبرى موسى" و"مشروع قتل جاره"، وروايتين هى "حادث النصف متر" و"السيد من حقل السبانخ"، كما كتب السيناريو والحوار لعدد من أهم الأفلام المصرية.
ونقرأ من سطور الرواية .. " اسمعوا مني بتأمل يا أحبائي .. أحكي لكم سيرة ذلك المأساوي نيكولا هذا العجوز الذي أعطته أمه اسم قديس قديم حين ولدته في ذلك الزمان البعيد، ذلك الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه، وكان كل شئ يحدث أمام عينيه جديدا يلقاه بحب الطفل، لدرجة أنه لم يتعلم أبدا من التجارب ".
يتذكر نيكولا بطريقة " الفلاش باك " أحداث حياته المأساوية حيث خرج من قرية روسية صغيرة مهاجرًا إلى "إسطنبول" ثم إلى "إيطاليا" حيث قابل " إيليا " الزوجة .. وأنجب منها " إيليا " الابنة .. ليستقر به الحال عند جبل "الدرهيب" في الصحراء الشرقية ليصبح مالكًا للجبل، وقيامه بالتنقيب عن المادة الخام لمساحيق التجميل أثناء فترة حكم الملك فاروق، لصالح الخواجة أنطون صاحب مصنع أدوات التجميل ويصنع نيكولا عالما خاصا به يتكون من عمال منجم التلك داخل جبل الدرهيب، وميناء بحرى على البحر الأحمر يتم منه نقل خام التلك إلى سفن شريكه.
ايسا الثائر
تحدثنا الرواية عن " ايسا " الذي قاد جمل نيكولا أثناء دخوله الصحراء لأول مرة، فما من مرة يمر فيها ايسا على منجم أو يرى فيها خواجا إلا ويتساءل وهو محنق : لماذا يستأثر الخواجات بالكنوز التي يجهد الرجال لاستخراجها من الجبال ؟ ونتيجة ثورته وحنقه على هؤلاء الخواجات سرق ايسا سبيكة الذهب التي خرجت من الجبل حيث رغب في تأكيد سلطانه على جباله الخاصة، مقابل أن يكسر سلطان هؤلاء الأغراب ويفزع زهوهم الطاووسي هذا.
لم يكن في نيته أبدا أن يحتفظ بالسبيكة ، بل إنه قرر أن يعيدها يوما ، وكان حادث السرقة جللا، جاء له هجانة الحدود الذين عثروا على ايسا ، أما نيكولا فقد اندفع إلى الصحراء ليلا وراء أشباح رجال تغادر المنجم وضل طريقه وتاه ، وعلم أن ايسا انقذه من الموت في الصحراء.
ولتظهر الحقيقة اقترح الشيخ علي عم ايسا الاحتكام إلى شريعتهم وهي النار لتظهر الحق من الباطل، فليمش ايسا على الحطب المشتعل فإن كان صادقا في انه سيعيد السبيكة فسوف ينجو ولن تصيبه النار بضرر، ونجا ايسا من النار وخرج منها سالما مرتميا على الأرض مادا قدميه في وجوه الجميع كأنه يشهدهم على براءته.
تحمل أحداث الرواية مفاجأة حين يموت ايسا أثناء عمله في تطهير بئر قديمة ملية بالعقارب والثعابين السامة، الأمر الذي أحزن نيكولا بشدة وجعله يتخذ من ابن ايسا "أبشر" مرافقا له علّه يعوضه عن والده.
وتمضي الأحداث وتجئ زوجة نيكولا إلى القاهرة لتحاول إقناعه بأن يسافر معها إلى إيطاليا ليدير مشروعاتها الناجحة لكنه يرفض، وكانت إيليا الصغرى قد تعلقت بأبيها وأبدت رغبتها في البقاء معه، وحين رفضت أمها أصرت الابنة في عناد موروث أن تبقى وهكذا عادت إيليا الكبرى إلى ايطاليا وحدها.
بداية المأساة
التحقت ايليا الصغرى بالمدرسة الإيطالية في القاهرة في القسم الداخلي وفي اجازات نهاية كل اسبوع كانت تذهب إلى بيت الخواجة انطون الذي كانت زوجته مصابة بمرض أقعدها عن الحمل والانجاب، وهكذا أصبحت ايليا هي حورية ذلك البيت.
الصيف بأكمله تقضيه ايليا الصغيرة مع ابيها نيكولا الذي يقول مخاطبا نفسه: لقد جاءت إيليا الصغيرة وأضفت على حياتك الخشنة من جمالها وحنانها فأصبحت ربة بيتك وزهرة مدينتك الخشبية الجديدة.
وفكر نيكولا في تجهيز ساحل مدينته الخشبية ليكون ميناء وأقيمت على الشاطئ كبائن خشبية للراحة والإقامة وكانت هذه هي بداية بذور المأساة التي يحصد الجميع ثمارها.
وهكذا تدفق على الميناء علية القوم في القاهرة الذين كان يجتمع بهم انطون بك فيحدثهم عن منجمه في الدرهيب وشاطئه الساحر في برانيس فيتحمسون للرؤية فيهبطون في ذلك الشاطئ وينتشرون على الرمال حول المرساة تاركين أنفسهم للطبيعة البكر.
وزار الشاطئ الملك وحاشيته وكان عبد ربه كريشاب المسئول عن تموين الجبل وعماله بالأسماك ضحية نزق هذا الملك وضيوفه، عبد ربه الذي يهيم الآن بين جبال الصحراء فاقدا عقله بسبب نزوات علية القوم!
كان عبد ربه من الصيادين الذين يخرجون إلى البحر مع الرجال للصيد فيعودون بعد أن يفقدوا أحدهم الذي تأخذه عروس البحر التي نصفها امراة ونصفها سمكة تلك الجنية المسحورة التي لا تشبع أبدا، لقد فقد عبد ربه بهذه الطريقة ثلاثة من عائلته، وأقسم بين الرجال أن يأخذ بثأره وتوعد تلك الجنية المسحورة بأن يغويها ويسحبها إلى عالمه الأرضي.
وظهرت الجنية لعبد ربه إلا حين ذهب يصطاد أسماك الاستاكوزا للضيوف، وتحقق عبد ربه أن العروس جاءته ميتة جراء المتفجرات التي يلقي بها داخل البحر هؤلاء الذين يبحثون عن البترول في قاعه العجيب فاختنقت تلك العروس وطفت وجاءته زاحفة، وهكذا قيدها عبد ربه بالحبال وأبهجه أن يوفي بدينه للناس ويأخذ بثأر من فقدهم، وأوهم قومه حين عاد إلى الشاطئ أنه اصطادها حية.
استولى على الضيوف رغبة مثيرة شاذة أن يروا مرأى العين زفاف عبد ربه إلى عروس الماء، الأمر الذي نفذه عبد ربه وسط صرخاتهم وضحكاتهم المشينة النازقة، وفي لحظات تحول الشاطئ ذو الطبيعة الساحرة إلى منفث للشهوات والرغبات الجامحة، كان ما يحدث في المكان شيئا فوق التصور والعقل.
ملك فاسد
ينهار عالم نيكولا دفعة واحدة، حينما يرى الملك "إيليا" ابنة "نيكولا", الفاتنة ذات الستة عشر عامًا بوجهها الأبيض وشعرها الذهبي، فيطلبها لتخرج معه في رحلة صيد وهمية للنيل منها، ويجد "نيكولا" نفسه مجبرًا على الموافقة وفي صدره تعربد آلاف الانقباضات.
ولم يكن أحد سعيدا بهذه الرحلة أكثر من انطون بك الذي كان يشتهي إيليا فقال مخاطبا نفسه: "وها أنت يا انطون السعيد تضرب عصفورين بحجر واحد فتشترك في تدبير ذهاب ايليا مع صاحب الجلالة فتحصل بذلك على لقب باشا وفي نفس الوقت يتفضل صاحب الجلالة ويكسر ذلك الحاجز المكون من العمر والبراءة الذي يفصلك عن ايليا".
وتأتي المصادفة القدرية والتي في ذات الوقت تمثل مأساة "نيكولا" الحقيقية وتعتبر هي ذروة الرواية، فيحلم "نيكولا" الغارق في الحمى أنه يتزوج ابنته، وأثناء الحلم يأتي الرجال بـ"إيليا" بعد أن فرغ منها الملك فيضعوها بجوار والدها الغارق في الغيبوبة، وعندما يصحو يفجع عندما يرى ابنته منهكة وكأنما هو من فعل تلك الفعلة بها.
وأقنع انطون ذلك الثري إيليا بالزواج منه لتحتمي به من الألسنة التي ستتناول رحلتها مع الملك وما حدث بها، وهكذا زفت إيليا إلى انطون لتحقق حلمه المنتظر ولم يمض القليل حتى تيقنت أن بأحشئها جنين ملكي رحب انطون في أن ينسبه إليه، ورفض نيكولا رؤية طفل ايليا قائلا في نفسه: يا شؤم ما جئت به يا إيليا ولدا يجعلني جدا وأبا في نفس الوقت!.
خطف نيكولا ابن ايليا وألقى به إلى الذئاب والصقور لأنه يتصور أن هذا ابنه من علاقة آثمة بابنته، وأصبحت ايليا خطيئة نيكولا وعقابه لا جنته وثوابه كما كان يقول لها.
وتتوالى الأحداث إلى أن يقتل "نيكولا" ابنته "إيليا" بانهيار صخري غادر بعد أن يحبسها في إحدى مغارات جبل "الدرهيب".
ويتذكر نيكولا أحداث حياته كل يوم ويقول: ايليا الحبيبة ليتني اطعتك وتركت نفسي لصرختك الواعدة تعود بي إليك..فنبقى دائما معا!.
على هامش الرواية
يقول المؤلف في حوار قديم له عن روايته "فساد الأمكنة": المشكلة الحقيقية أن النوع الإنسانى مايزال يحتضر بالغرائز القديمة البدائية التى كانت ضرورة له حينما كان يعيش فى الجبال والغابات بين المخلوقات الأخرى المتوحشة، أما الآن وبعد أن تطور العقل البشري لا زلنا نفاجأ بهذا الإنسان غارقا فى الصراع الدموى المدمر الذى تشعله تلك الغرائز القديمة التى كانت دليله الوحيد للحياة فى الغابة الفطرية المتوحشة، وهذا هو جوهر الرواية التي تريد أن تنتصر للفطرة السليمة على حساب الغرائز والشهوات.
تلك الفطرة المتمثلة في بدو الصحراء الذين اتخذوا من الفضائل سلاحا يواجهون به مخاطر حياتهم اليومية، فإن مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة ضد أنفسنا وضد الآخرين تتراكم على قلوبنا وعقولنا ثم تتكثف ضباب يغشي عيوننا وأقدامنا فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء، فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية، ولكنهم في الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد من يرتكبها ويصب ضبابها على النفس أشد كثافة وثقلا، بينما تحتاج دروب الحياة في الصحراء إلى بصيرة صافية نفاذة لتجنب أخطارها.
وعن النهاية المأساوية لأحداث روايته يقول موسى: أرى ان الحكايات والأحداث ذات النهايات السعيدة غالباً لا تثير انتباه الناس، وسرعان ما تغيب عن ذاكرتهم، أما النهايات الفاجعة فتدفعهم للتوقف والتفكير والتأمل بعد قراءة القصص، وهو ما يتيح الفرصة للأفكار المقصودة من العمل كي تصل إلى وعي القراء.
بقلم : سميرة سليمان - محيط