رد: التصوف الإسلامي وحلقات الذكر
يعد التصوف من مقومات تاريخ المغرب الروحي والديني والثقافي والاجتماعي والسياسي بل والاقتصادي، لم تقتصر آثاره على المدن بل أدمجت البوادي في الحياة الثقافية، ولم يقتصر على جماهير العامة بل صار السند العلمي والسند في الإذن الصوفي يكادان يقترنان في تراجم معاجم الأعلام، فكان التصوف من معطيات الإشعاع المغربي في اتجاه الشرق...
إن عرض مسألة التصوف على تاريخ المغرب على امتداده عبر القرون يُظهر أن هذه المسألة بعمقها الاجتماعي وامتدادها الجماهيري وفعاليتها الميدانية عرض له جانب فلسفي يتصل بتعريف ممكن وحكم مستنبط من الأدوار خلال زمن طويل. لأن تجليات الظاهرة تبدو مرتبطة بسياقات معيشة ومفاهيم فاعلة وتقبل توافقي لا يقدح لا في صرامة التمسك العقدي بالسنة ولا في التمسك الفقهي بالمذهب المالكي دون غيره. ومن جهة أخرى فإن تجليات هذه الظاهرة على مستوى جماهيري وعلى امتداد زمن طويل لا يضفي عليها النسبية الإيجابية فحسب بل يجعل متتبعها يستغني عن أي تعريف نظري قبلي أو بعدي للتصوف، إذ أن التصوف في ذلك السياق الاجتماعي هو ما تجلى على امتداد زمن طويل بألوان وأدوار وتعابير لها قوة إقناع لا يعاندها إلا الذين يسمحون لأنفسهم بأن يتوعدوا الأمة بسوء المصير.
التصوف من وجهة التاريخ الاجتماعي والثقافي
لقد نظمت جامعة أوتريخت بهولندا في أواخر أعوام التسعين ندوة حافلة تناولت أنواع المعارضة للتصوف عبر تاريخ الإسلام في مختلف الأقطار، ويتجلى منها أن تلك المعارضة استهدفت تارة أقوال أشخاص من النخبة أو سلوكات ومعتقدات للطوائف الاجتماعية الدنيا تارة أخرى. فهي إذن معارضة لا تاريخية، لأن آثار التصوف وأدواره تحققت في التاريخ كما سنرى في المثال المغربي، وهي معارضة لا فلسفية، لأنها تتحرج من التأويل، في حين أن علوم القوم علوم رمز وتأويل وإشارة. وهي معارضة لا اجتماعية، لأنها لا تعترف بحق الملأ العام الذي نسميه عادة بالجماهير، في الفيض الشعوري الذي تبدِّعه تلك المعارضة وتستنكره، وهي معارضة لا إنسانية، لأنها لا تؤمن بحق طلب الاكتمال الإنساني عن طريق الروح المكرمة في بني آدم نساءا ورجالا، وهي معارضة لا سياسية لأنها لا تؤمن بالفرد، وهي في الأخير معارضة لا ربانية لأنها تستنفد دون أن تدري كلام الوحي الذي لا ينفد.
ربما كان طرح الأسئلة المتعلقة بالتصوف من وجهة التاريخ الاجتماعي والثقافي الأسلوب التربوي الأنجع الذي يحسن أن يقدم به التصوف في مدارس البلاد الإسلامية وجامعاتها، وهو الطرح الذي يتيح نقل الحديث عن التصوف من مجال المطارحة الكلامية الفردية التي يستحضر فيها الحلاج أو الغزالي في مقابلة ابن تيمية أو ابن الجوزي مثلا، نقله إلى مجال الوقائع التاريخية الممتدة التي انخرطت فيها جماهير واسعة من الرجال والنساء. وفي هذا المستوى يجوز أن نقترح استعراضا مقتضبا للتجربة التاريخية المغربية.
يبدو أن ظهور أشخاص بالمغرب الأقصى يمكن أن تنسب أحوالهم وأقوالهم إلى التصوف، أي إلى ما يعرف بالتوحيد الخاص المبني على الاعتقاد بإمكان الوصل المعنوي والوصول السلوكي إلى إدراك مباشر لليقين الممكن في التوحيد في طور تحل ببعض الصفات الذوقية أو تلبس لبعض مقتضيات حقائق الصفات واعتبار الروحانية النبوية مرجعا لتحقيق ذلك على أكمل معانيه، كان ظهورا متأخرا بالنسبة لبلاد المشرق، بل وبالنسبة حتى لبلاد إفريقية والأندلس، وذلك على غرار تأخر الظواهر الحضارية الأخرى، ثقافية كانت أو سياسية. وقد يكون هذا التأخر، فيما يهمنا هنا، مرتبطا بتأخر الآثار الكتابية الشاهدة لا بتأخر الظاهرة نفسها.
كانت أحوال الزهد والورع غالبة على أفراد من هذه الطائفة، ممن بلغت إلينا أخبارهم من أهل القرون الإسلامية الأربعة الأولى، دون أن يرد بصدد عدد منهم ما يجعلنا نصنفهم في عداد المتصوفة بالمعنى الاصطلاحي، غير أن التميز بدأ في المغرب في القرنين الخامس والسادس الهجريين بين مجرد الزهاد وبين الذين ارتبط زهدهم بفكرة لها علاقة بسلوك مبني على هذا التوجه الذي وُصف بالتوحيد الخاص، أي تلبس وجداني أعمق بمعنى التوحيد لا مجرد الإشهاد القولي به.
ثلاثة كتب
وقد جاء ذكر أزيد من أربعمائة وجه من وجوه التصوف بالمغرب في هذين القرنين في ثلاثة مصادر رئيسية سمت مترجَمِيها بالصلحاء تارة، وبالعُبَّاد تارة وبأهل التصوف تارة أخرى، هذه المصادر هي كتاب محمد بن عبد الكريم التميمي وعنوانه: "المستفاد في ذكر الصلحاء والعباد بفاس وما والاها من البلاد"، ألفه قبل عام 572هـ، وليس منه بين أيدينا سوى قطعة، لعلها النصف الثاني من الكتاب؛ وكتاب أبي يعقوب يوسف التادلي وعنوانه: "التشوف إلى رجال التصوف"، ألفه عام 617هـ ؛ وكتاب أبي يعقوب البادسي، وعنوانه: "المقصد الشريف في صلحاء الريف".
وهذه الكتب الثلاثة صنفها أصحابها على منحى "حلية الأولياء" لأبي نعيم، ولكن كل واحد من هذه المصادر آثر التركيز على ذكر المبجلين في جهة بلاده. وهكذا يبدو من خلال مادة التراجم الواردة في هذه المصادر أن ظاهرة التصوف قد شملت كل المناطق القديمة الاستقرار وأبرزها منطقة الريف في الشمال وجهات مدينة فاس وبسيط قبائل تامسنا (السهول الواقعة على المحيط الأطلسي التي بها الدار البيضاء اليوم) ودكالة وهي جنوبي الجهة السابقة وتمتد من البحر إلى مراكش، وجهات أغمات ومراكش وجهات هسكورة وهي الجبال التي بين مراكش ووارزازات، وجهات ركراكة جنوبي وادي تانسيفت ودرعة جنوبي وارزازات ووادي سوس شرقي مدينة أكادير.
كان من صوفية المغرب في هذا العهد من أخذ عن شيوخ مشارقة، ولاشك أن الرحلة للعلم أو للحج قد دعمت هذا الأخذ، مثل أخذ عبد الجليل بن ويحلان، دفين أغمات، عن أبي الفضل الجوهري بمصر، وعبد الجليل هذا من رؤوس سلسلة كبار الشيوخ، فهو شيخ عبد الله ابن واكريس الدكالي وهذا الأخير هو شيخ أبي شعيب صاحب أزمور، وهذا بدوره هو شيخ أبي يعزى إلخ، وهؤلاء الثلاثة من رؤوس السند الصوفي بالمغرب. ومنهم من أخذ عن قيروانيين بإفريقية (تونس حاليا) أو عن أندلسيين، بل إن منتسبين إلى الصلاح رحلوا إلى المغرب من بلاد إفريقية كما رحلو إليه من الأندلس.
كان من الصوفية أهل حضر وأهل بادية، والبادية بالمغرب في معظمها ولاسيما في ذلك العهد أرض استقرار وفلاحة وعمران. وكان منهم منسوبون إلى العلم الكتابي الاصطلاحي، ومنهم من لم يُعرفوا سوى بوَرع في السلوك أو بكرامات، وقليل منهم في هذا العهد منسوبون لآل البيت. كان معظمهم أفرادا بلا أتباع رسميين مميزين، ولكنهم كانوا يتعارفون فيما بينهم ويتصلون، ويُقصدون في غالب الأحيان للتبرك أو لطلب التوسط في الأغراض، فردية كانت أو جماعية. ولم تكن الطرق الصوفية قد ظهرت بعد بشكلها المعروف.
ولقد حرص المترجمون المغاربة لأهل التصوف على تخليص الكلام عنهم مما يمكن أن ينعت بـ "علم التصوف"، أي من التعابير عن الأذواق والعرفان الخاص، لكن نقل بعض كلامهم ينبئ عن إشارات إلى المعاني الاصطلاحية التي تحتاج إلى تأويل، وقلما ألف هؤلاء تآليف قائمة، فيتعذر إذا، ربطهم بمذاهب ومشارب بالرغم من تحيز بعضهم للغزالي مثلا، في بعض المواقف العملية. وكان من المنسوبين إلى التصوف عائلات قليلة توارثت المشيخة على امتداد أجيال، مثل آل أمغار الصنهاجيين في رباط تيط جنوبي مدينة أزمور.
يتعذر في الحالة الحاضرة للبحث في التصوف بالمغرب إعطاء أجوبة معمقة لمختلف الأسئلة المتعلقة بتصور دقيق للمنزع الصوفي ولاسيما ما يهم الأمور الآتية:
1- في ما يتعلق بوضع تحقيب تطور ظاهرة التصوف كنشاط اجتماعي، بشكل مقنع؛
2- بخصوص التيارات الخارجية التي أثرت فيه أو أثر فيها، سواء بالنسبة للمشرق أو الأندلس؛
3- في ما يتعلق بقضية أنواع المعارضة التي لقيها التيار الصوفي من الجهات المتسننة في المجتمع أو من جهة المتضايقين به كسلطة رمزية يخشى من تحولها إلى شريك في السلطة الفعلية؛
4- تصنيف الأوضاع التي وجدت فيها تيارات صوفية في مواجهة الجهاز السياسي أو في معاضدته، إلى غير ذلك من القضايا التي تبدو بعض ملامحها من خلال ما أنجز من الأبحاث، ولكنها غير مكتملة ولا واضحة بما فيه الكفاية.
التفاعل مع المجتمع
ففي ما يخص التحقيب يبدو العنصر الحاسم فيه هو التفاعل مع المجتمع واتخاذ شكل مؤسسي ومعانقة ملابسات التاريخ في جوانبه الأخرى، وهذا يصدق على التصوف بما غلب عليه من طابع اجتماعي في المغرب. أما من حيث المعنى الصوفي في حد ذاته فلا مجال لتحقيبه إلا على فرض أنه فكر توفيقي أو متأثر بمدارس فكرية مهما كانت طبيعتها كالإشراقية والأفلاطونية الجديدة الخ، أو على فرض أن تعبير الصوفي عن تجاربه يصير تعبيرا مُوَجِّها بل ومنتجا لتجارب أخرى، أما خارج هذين المنظورين: المؤسساتي الاجتماعي التاريخي والفكري التأثري، فالمفروض أن التصوف أينما ظهر يرتبط بتجربة الإسلام الروحية: يظهر فيها متى وأنى ظهرت، فيبقى التدوين هو الحاسم عند المؤرخين في التمييز بين مراحل من السيرورة عبر الآثار. وإذا راعينا هذا التدوين فإن القرنين الخامس والسادس الهجريين يشكلان عصر ظهور التصوف المغربي وانتشاره ونضجه وازدهاره في آن واحد، بالنظر إلى أن أعلام القدوة فيه قد عاشوا في القرن السادس على الخصوص. فعندما كتب ابن الزيات عام 617هـ كتابه في تراجم مائتين وسبعين من المنسوبين إلى التصوف في الجهات التي اهتم بها، أعطانا نماذج متنوعة لمن يمكن إدخالها في هذه الطائفة، وذكر بصددهم أنواعا من السلوك والقيم يمكن أن تستنتج منها معايير تصنيف رجال التصوف إلى ذلك العهد، ومنها تظهر أدوارهم الدينية جلية وتتعلق كلها بالعمل بالقول والفعل والتأثير والقدوة على دمج مجتمع عجمي هامشي في إطار الإسلام وحضارته وتاريخه، وهو دور بارز حتى ولو قيس بأدوار الفاعلين الآخرين كالأمراء والفقهاء والعلماء. ولكن ابن الزيات كان يرى، في أوائل ذلك القرن، أي القرن السابع، وكأن تلك الحركة دخلت في عهد أفولها بعد انصرام قرن الرواد من أمثال: أبي شعيب وأبي يعزي وابن حرزهم وأبي مدين وغيرهم. غير أن ابن الزيات أشار إلى شخص عامل مجدد لذلك النهج الصوفي كان بمدينة أسفي كان ما يزال على قيد الحياة، وهو أبو محمد صالح. ثم إن ابن الزيات لم يعلم بوجود معاصر له بجبل العلم في أقصى شمالي غرب المغرب وهو الشيخ عبد السلام بن مشيش الذي جمع، كما جمع الشيخ عبد القادر الجيلالي في الشرق، بين النسب الشريف وبين الأستاذية في التربية الروحية على المنهج الذوقي الصوفي. لم يكن ابن امشيش أول من بدأ به في المغرب مصرع أهل التصوف على أيدي المتضايقين بهم عندما قتل عام 625هـ، ولكنه كان رأس أحد التيارات الصوفية الكبرى في العالم الإسلامي، وهو تيار الشاذلية، إذ أن أبا الحسن الشاذلي، واسمه علي الغماري هو تلميذ ابن مشيش. أما التيار القادري فقد دخل مبكرا بصفة عملية إذا أقررنا بأن الشيخ أبا مدين لقي الشيخ الجيلاني بالشرق وأخذ عنه، ولكن هذا اللقاء وقد يكون نتج عنه من التأثر، إن كان هنالك تأثر، وقع قبل بروز هذا الاهتمام المتأخر بسلسلات السند الكبرى على مستوى طرق التصوف. أما ابن عربي الحاتمي، فبالرغم من تردده على المغرب بين عام 590 وعام 597هـ، فإننا لا نستطيع أن نقارنه بابن مشيش والشاذلي من حيث التأثير، لأن تأثير الحاتمي مقتصر على خاصة الخاصة من القراء إلى يومنا هذا، بينما كان تأثير "الحركيين" من الشيوخ، حتى من أمثال أبي يعزى البربري الذي لم يكن محفوظه من القرآن يتعدى قصار السور، تأثيرا فعالا سلوكيا ووجدانيا في طوائف واسعة من الأتباع المبجِّلين لسطوة الشيوخ وجاذبيتهم الروحية.
مراعاة الشعور السني العام
وعلى هذا الأساس، فربط التيار الصوفي المغربي بأحد كبار أوائل المؤسسين، وهو أبو القاسم الجنيد (المتوفى عام 297هـ)، هو ربط متأخر لكسب المصداقية السنية لهذا التصوف، ومن ثمة وصفه على أنه تصوف تغلب عليه الأخلاق والسنية ويتجنب "الحقائق"، إنه تصنيف لا ينطوي إلا على طلب الارتياح السهل الذي يتيحه كل تصنيف، ذلك أن ابن الزيات، وقد كتب كما ذكرنا في أوائل القرن السابع، قد صرح في مقدمة كتابه أنه جرده من هذه "الحقائق" التي سماها بـ "علم التصوف"، ويقصد بالحقائق، ثمار التحقق الوجداني باستخصار التوحيد في عبارات مجازية، ليست العبرة بمنطوقها بقدر ما يعتبر بثمارها السلوكية المستحضرة لمعاني الله في توحيده الخالص. فيفهم من كلامه أن "تلك الحقائق" كانت رائجة عند المتصوفة كما هو معتاد، ولكن إشاعتها في أوساط العامة كان موضوع اعتراض. فتكون مراعاة الشعور السني العام في المغرب واقعا متأصلا، ولكنه لا يعني البتة أن تلك المعاني المسماة ب "الحقائق" يمكن فصلها عن التجربة الصوفية ولو عند رجل لم يكن يعرف من العربية شيئا مثل أبي يعزى، وهذا المثال يدل على أن الأمر لا يتعلق بتثاقف ولا بعدوى على مستوى المخيال.
نستطيع أن نقول إن صوفية المغارب أقل تآليف في علم التصوف من صوفية المجتمع الحضري في الأندلس وعواصم المشرق وإيران، ولكن أخبار الصوفية المغاربة قد أعطت أدبا منقبيا على درجة من الغزارة، ويتضمن هذا الأدب مواقف وأعمالا وأقوالا شكلت المادة المنقبية التي كتبها المريدون، بيد أن شذرات قليلة من الآثار التي وصلت إلينا ضمن هذه المناقب كالصلاة المنسوبة للشيخ ابن مشيش أو تلك المبثوثة في ثنايا الصلوات التي جمعها الشيخ الجزولي أو حتى في أزجال بعض الشيوخ الشرقاويين، نسبة إلى الأسرة المعروفة بالصلاح بجهات الهضبة الوسطى، في القرن الثامن عشر، أو رسائل الشيخ العربي الدرقاوي أو كلام الشيخ التجاني أو الشيخ ابن عجيبة في القرن التاسع عشر إلخ. هذه الآثار، نثرية كانت أو شعرية، قد تضاهي في مضامينها أي آثار تعبير صوفي آخر في أي مكان كان من العالم.
تأسيس الطوائف أما على صعيد العمل الاجتماعي أو ما سميناه بملابسة التاريخ، فإن عهد ما بعد القرن السادس الهجري في المغرب قد تميز بكونه بداية تأسيس الطوائف وتكوين شبكة الإسناد الذي تفرعت عنه الطرق. فابن قنفذ القسنطيني الذي جال بالمغرب في منتصف القرن الثامن قد لاحظ هذا التنظيم واضحا للعيان، حيث ذكر أن جملة ما ترجع إليه تلك الطوائف ست هي:
1- الشعيبيون، أتباع أبي شعيب صاحب أزمور وهو من أهل القرن السادس؛
2- الصنهاجيون، أتباع شيوخ بني أمغار أصحاب رباط تيط جنوبي الجديدة الحالية (وهم أيضا من أتباع شيوخ عاش أعلامهم في القرنين الخامس والسادس)؛
3- الماكريون (طائفة أتباع أبي محمد صالح شيخ آسفي)؛
4- الحجاج، وغايتهم تنظيم الحج، ولهم علاقة بالشيخ السابق؛
5- الحاحيون من أصحاب أبي زكرياء الحاحي دفين تيغزا وجلهم في جبال درن المعروفة اليوم بالأطلس الكبير؛
6- الأغماتيون وهم طائفة أبي زيد الهزميري الذي كان بأغمات أيلان ومدفنه خارج باب فتوح بمدينة فاس.
والظاهر أن مشاهدات ابن قنفذ اقتصرت على جهات معينة طاف بها، وهي دكالة وعبدة وحاحة وجهة مراكش، ولم تشمل جهة سوس وكبريات المدن والريف وتادلة، إلخ. فتكون الخريطة الدينية للمؤسسات الصوفية في أي عهد، رهينة بالشهادات المدونة، ولكن القرائن تجيز لنا أن نتصور كثافتها في كل الجهات بالنظر إلى ما يبرز عن حدوث موجبات تسليط الضوء عليها.
الشيخ والمريد والزاوية
بيد أن ظاهرة واضحة من شهادة ابن قنفذ، بالنسبة للقرن الثامن، ظلت تصدق على القرون الموالية، وهي تتمثل في كون طريقة التصوف تقوم على وجود شيخ يصحبه مريدون يجتمعون معه حول المعنى الأساسي لتحقيق التوحيد الخالص عبر مراحل تزكية يتراوح أسلوبها بين مظاهر الجلال والجمال، ولكن قيام ذلك الشيخ بمهمته يستتبع في الغالب تكوين طائفة ومؤسسة هي الطريقة ويكون مركزها ومنطلقها بناية تسمى الزاوية. ما تلبث هذه المؤسسة أن تخضع لمقتضيات كل مؤسسة اجتماعية أي مقتضيات التعامل مع الواقع، يضاف إلى هذا ما يطرأ عادة من كون تلك المؤسسة الصوفية قد تستمر بعد الشيخ في عائلته، وبلا "وارث" روحي مقتدر على المهمة التربوية في كثير من الأحيان، فينتج عن هذا التراكم بتوالي القرون أن الخريطة الصوفية، في وقت معين، في بلد معين، تكون ذات سمات تشبه سمات الخريطة الجيولوجية المتنوعة التشكيلات: براكين نشيطة هي المؤسسات النشيطة الحية، ومخاريط على جنباتها رماد متحجر، وقمم عالية من الأعلام (الجبال) وتلال شاهدة واطئة تعود الى أقدم الأزمنة. فالأمر الأصلي في التصوف الحي يستمر في التشكيلات الفتية، و"البركة" أو التبرك مطلوب عند "الجميع"، والأدوار الاجتماعية أكثر فعالية لدى التشكيلات المستندة إلى عوامل استراتيجية وإلى تجارب تدعمها سياقات تاريخية مناسبة، بينما يتعرض كل تجديد لصعوبات من قبل أطراف مختلفة. وفي مثل هذا السياق المخضرم الذي يتساكن فيه الطارف والتالد، القديم والجديد، يتولد الالتباس المؤدي إلى مواقف سلبية مثل الموقف الذي اتخذته الحركة الوطنية في المغرب في القرن العشرين من بعض المحسوبين اجتماعيا على الانتماء إلى التصوف حدث لهم أن تورطوا لوزنهم الاجتماعي في ملابسات فهمت على أنها موالاة للاستعمار فنسب ذلك إلى الحركة الصوفية كلها، ولما كانت الفعالية تكمن في إيجاد تضاد وتقابل بين تيارين لفائدة الحركي منهما، فقد وقع التغاضي على المواقف الإيجابية لفعاليات صوفية حية قاومت التدخل الاستعماري من أواسط القرن الماضي الى الثلث الأول من القرن العشرين بينما تم إبرار السلبي الشاذ لأنه يكفل تحقيق التضاد الحركي ؛ ذلك لأن الوطنية المغربية مثل السلفية المشرقية قبلها ونقصد سلفية النهضة، احتاجت تاكتيكيا إلى أن تضع تبعات التخلف على حساب مظاهر من حياة التصوف الشعبي المتحدر.
إنقاذ الأرض والأمة
بيد أن تاريخ المغرب في مداه الطويل يشهد للصوفية بدور إنقاذ الأرض والأمة منذ تأسيس الرباطات الأولى إلى أن احتل الإيبيريون شواطئ البلاد في القرن التاسع الهجري–15م-، وقام شيوخ متصوفة أحياء فاعلون بتعبئة القوى الشعبية لتحرير الثغور وحمل إمارة قادرة على تعبئة الناس حولها إلى الحكم للقيام بدورها بعد الفراغ الخطير الذي ترتب عن ضعف الدولتين المرينية ثم الوطاسية في القرن الخامس عشر الميلادي. ومن سوء الحظ أن دولة السعديين التي رفعها الصوفية إلى الحكم في القرن العاشر الهجري قد ضعفت لأسباب داخلية وخارجية، وهبت لاحتلال الفراغ السياسي تشكيلات لها نزعة "تصوفية"، ولكنها أقرب ما تكون إلى التشكيل المرابطي القائم على وظائف اجتماعية كالتعليم والتحكيم، ومنها الزاوية الدلائية، فنسب إليها الطموح السياسي وترددت هذه التهمة في ما بعد معرة على "المتصوفة"، والواقع أن أهل الدلاء المتأخرين الذين خاضوا في أمور الإمارة ليست لهم حتى تمثيلية مؤسسي الزاوية الذين لم يدعوا شيئا غير تلمذتهم لشيوخ الزاوية الناصرية.
لقد اغتيل الشيخ الجزولي –عام 870هـ- وهو مؤسس الحركة الصوفية التي حررت المغرب من الغزو الإيبيري، اغتيل في ظروف مشابهة للظروف التي اغتيل فيها الشيخ ابن مشيش شيخ الشاذلي قبل قرنين ونصف، ولم ينتبه الناس إلى أي من الشيخين في حينه، حتى عرض ما بعث على ذلك الذكر باعتبار الشهيد رمزا لحركة تحققت في ما بعد، وهكذا اتُّخذ الجزولي رمزا لانتصار دولة السعديين لأن تلامذته أطروا الجهاد لتحرير البلاد وظهروا بمثابة "زعماء أحزاب" في حركة انبعاث اقتضتها ظرفية وطنية محفوفة بالمخاطر. ولذلك فالجزولي يستحق بالفعل أن يكون بداية مرحلة جديدة من حيث كثافة تلبس التصوف بتاريخ المغرب كفاعل حركي لا من حيث الاعتبار المذهبي الصرف. وهكذا سمي التيار السائد بعده بالشاذلية الجزولية، واعتبر الشيخ زروق دفين ليبيا من أعلام وسائطها، وإن كان قد أُثر عنه اعتبار القرن التاسع الهجري نهاية عهد "صاف" في تاريخ التصوف المغربي، فاحتاج في تأليفه إلى التذكير بقواعده التربوية التي ما كان لها أن تسلم قط في خضم المعانقة الشعبوية التي عرفتها، فلعل ما استجد من جماهيرية التصوف قد جعل رقابة الفقيه النخبوي على العوائد العفوية العاطفية تغلب على توسع الصوفي الذي يعتقد الخير في الملأ الكبير على أن يتسع فضل الله الأكبر لجنوحاته التعبيرية.
وهكذا فإن فعل التصوف في التاريخ يمكن أن تستعرض وجوهه من خلال أدوار مشهودة بشكل تزامني قامت بها التكوينات الصوفية في المغرب عبر القرون في سباق التفاعل الاجتماعي الذي اعتبرناه الأساس الممكن لأي تحقيب.
إذا تجاوزنا الجانب الروحي، أي دور التأهيل للاكتمال والحرية إزاء العالم، وهو الدور الأساس الذي هو الأصل في المنهاج الصوفي، والتفتنا الى الأدوار المحسوسة ذات الآثار التاريخية وجدنا تجلياتها تشمل جوانب كثيرة منها:
أولا- الدور الديني وتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- نشر الإسلام كعقيدة في شعوب وقبائل لم يصل إليها الفاتحون ؛
2- بث تعاليم الإسلام في أقوام ظل إسلامهم لا يتعدى مظهر الهوية والانتماء ؛
3- تنظيم مواسم دينية أرست العقيدة كالموسم الذي اشتهر في المغرب بموسم رباط شاكر، وعند هذا الرباط ينظم اليوم اللقاء العالمي للمنتسبين إلى التصوف ؛
4- تنظيم الجهاد ضد الغزو الأجنبي وتأطيره في أوقات كانت فيها الأمة في أخطار محققة تهددها من الخارج ؛
5- تنظيم السفر الى الحج عبر شبكة أمنية ولوجيستيكية، وربط المغرب بالمشرق في ظروف مخيفة جعلت حتى الفقهاء يفتون بعدم لزوم القيام بفريضة الحج.
ثانيا- الدور التعليمي والعلمي والثقافي ويتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- نشر حفظ القرآن الكريم؛ وقد كان عدد من أوائل شيوخ التصوف من المعلمين في الكتاتيب ؛
2- بناء المدارس العلمية وتدبيرها، ولاسيما في أوساط القبائل ؛
3- إنشاء الخزائن وتعميرها بالكتب العلمية، وتشهد بهذا الإسهام مجموعات التراث المخطوط في مكتبات المغرب إلى يومنا هذا ؛
4- توفير إمكانيات التأليف واحتضان المصنفين ؛
5- نشر الثقافة العامة الشفوية عند غير القارئين، عن طريق مجالس الذكر والمذاكرة.
ثالثا- الدور الاجتماعي ويتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- توفير الإيواء في زوايا التصوف لعدد من أبناء السبيل؛
2- إطعام المحتاجين الطعام، ولا سيما في أوقات نقص الغذاء وحدوث المجاعات؛
3- تأمين الطرق بالهيبة والرهبة التي عرف بها أصحاب الزوايا، وتدعيم ذلك بنشر أخبار الكرامات التي تدور حول نزول الشر بالمعتدين عامة وقطاع الطرق خاصة؛
4- التدخل بالحكمة والرغبة والرهبة لحماية جماعات المحكومين من عسف العمال الظالمين والحكام المستبدين؛
5- ضمان التوازن وتدبيره بين الطوائف في مجتمع انقسامي على شفا الحرب والمقاتلة لو اختل هذا التوازن؛
6- الإشراف على معاهدات التساكن بين جماعات متجاورة تنطوي وضعياتها على احتمال قيام مبادرات عدوانية؛
7- كسر الحواجز القبلية والإثنية ونصب جسور تواصل روحي بين الجماعات ولاسيما بين العرب والبربر، أو تليينها على الأقل؛
8- تأطير الاستقرار في المجالات الترابية الجديدة التي تغزوها الجماعات بعد فراغ ناتج عن موتان أو غيره ؛
9- تأطير الاندماج الاجتماعي للمهمشين والغرباء والطراء في أوساط علاقاتها قائمة على الأنساب والعصبيات؛
10- تيسير التواصل الإخباري عبر الشبكة الإخوانية للمنتمين إلى حركة صوفية معينة.
11- تكوين دوائر واسعة من المتعاطفين تسري فيها ثقافة السلوك تتداول فيها حكمها.
رابعا: الدور الاقتصادي ويتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- إحياء مجالات من الأرض الموات وعمارة الأرض.
2- غرس الأشجار على نطاق واسع لمواجهة حاجات القاصدين ؛
3- استباط المياه من العيون والآبار وبناء المجاري المشتقة من الأنهار ؛
4- ضمان الأوفاق والمعاهدات المتعلقة باستغلال المراعي ولاسيما في قمم الجبال من طرف قبائل متعددة؛
5- تأطير التنظيمات الحرفية والمهنية بالمدن، حيث نجد طوائف حرفية معينة تنتمي إلى زوايا صوفية معينة؛
6- الإشراف على أمن الأسواق ورعايتها؛
7- الربط بين مناطق متكاملة في التبادل التجاري.
خامسا: الدور السياسي، ويتجلى على الخصوص في الجوانب الآتية:
1- ضمان الولاء للإمامة، وهذا المبدأ هو المشهور عن الصوفية تاريخيا، ومع ذلك توجد استثناءات مردها إلى الاستفزاز والحذر الذي يجعل الحكام يعملون على تصفية القوات السياسية الاجتماعية التي يتقون شرها على الساحة السياسية إذا عجزوا عن استعمالها الاستعمال المطلوب ؛
2- التمهيد لحكم الأشراف المنحدرين من الدوحة النبوية السعديين والعلويين، توافقا مع للصوفية من تعلق بالجناب النبوي الشريف ؛
3- التوسط بين الحاكمين والمحكومين في سياق علاقات متوترة، وذلك بأساليب "الشفاعة" ومنح فرصة الملجأ الى الحُرُم، وهو مصطلح مغربي يدل على مكان معلوم الحدود في محيط بعض الزوايا يحتمي فيه المطلوبون حتى يتبين أمر إدانتهم أو تبرئتهم، ومن مظاهر الشفاعة مراجعة الحكام في موضوع تصرفات أعوانهم.
4- استعمال الهيبة للتخفيف من تعسفات ذوي الجاه، وتقوية ذلك بأخبار الكرامات، وهو منزع كانت له فعالية تاريخية مشهود عليها.
ولقد تلاحقت أمواج التغطية الصوفية منذ عهد دولة السعديين في القرن السادس عشر الميلادي، لتنال بتأثيرها المتنوع جميع أطراف المغرب، ولا سيما على أيدي تلاميذ الجزولي وتلاميذهم وعلى أيدي شيوخ الناصريين في درعة والدرقاويين في الشمال والتجانيين الذين ظهروا في لحظة كان يتوقع أن تنتصر فيها أفكار مناهضة للتصوف ولاسيما الشعبي منه بالمغرب، بيد أن شيئا من ذلك لم يكن، إذ بالتجانية جدد أعيان الحواضر انتسابهم الصوفي، في حين تواصل نشاط أتباع الناصريين والدرقاويين في البوادي خاصة، بل إن التجانية ربطت المغرب من جديد بالآفاق الصحراوية والآفاق الإفريقية التي سبق أن اشتهر شيوخ منها أقاموا بفاس في عهود سابقة كالشيخ البرناوي.
وهكذا رأينا من خلال إلقاء نظرة عجلى على أدوار المتصوفة أن التصوف من مقومات تاريخ المغرب الروحي والديني والثقافي والاجتماعي والسياسي بل والاقتصادي، لم تقتصر آثاره على المدن بل أدمجت البوادي في الحياة الثقافية، ولم يقتصر على جماهير العامة بل صار السند العلمي والسند في الإذن الصوفي يكادان يقترنان في تراجم معاجم الأعلام، فكان التصوف من معطيات الإشعاع المغربي في اتجاه الشرق ولاسيما في صعيد مصر والبلاد التي انتشرت فيها الطريق الادريسيية التي رحل شيخها أحمد بن ادريس من المغرب. وعظم هذا الانتشار في اتجاه الجنوب، بل وفي اتجاه اوروبا في القرن العشرين. أما على الصعيد الداخلي، فما زال لتراثه حضور في النسيج الاجتماعي وفي الضمير الأخلاقي، ولما كان تقليدا مفتوحا وليس تراثا دارسا فإن تجدده من طبيعة الأمور.
سبب ثقافي وسبب جغرافي
وفي ختام هذا الحديث الذي قد نكون لامسنا من خلاله تميز التصوف المغربي بتوجهه السلوكي، نذكر أن المرحوم الأستاذ علال الفاسي، أحد كبار علماء المغرب في هذا العصر وأحد أبرز قادته السياسيين المناضلين من أجل استقلال المغرب، قد ألقى في أعوام السبعين من القرن الميلادي الماضي محاضرات بقاعة وزارة الثقافة بالرباط حول التصوف المغربي وانتهى من خلالها إلى استنتاج مفاده أن التصوف بالمغرب هو تصوف أخلاق مقابل تصوف الحقائق والإشراق الذي كان سائدا في تاريخ البلاد المشرقية، وأن النزعات الأخلاقية التي دخلت إلى المشرق مع الشاذلية وفروعها كان منبعها المغرب. إن هذا الاستنتاج يتطلب مزيدا من الفهم والتعديل. ذلك أنه لا ينبغي أن يفهم منه أن هناك تصوفا باطنيا وآخر ظاهريا، ولا أن هناك تصوفا اهتم بإنتاج حكمة في تعبير شعري أو نثري دون إيلاء أي اهتمام يذكر للسلوك، ولا ينبغي أن يفهم منه كذلك أن هذا التصوف المغربي الموسوم بالنزعة الأخلاقية كان عاريا من الذوق الروحي المعتبر موردا لما يسمى "بالحقائق" أو حقائق التوحيد، لكن اهتمامه بالسلوك وبالفعل الاجتماعي النافع المندمج له أسباب عديدة نقتصر على الإشارة العجلى إلى اثنين منها، سبب ثقافي وسبب جغرافي.
أما السبب الثقافي فهو غلبة العجمة على المغاربة في أوائل تاريخهم وأواسطه في مستوى لا تمكن مقارنته بعجمة الفرس من حيث تقليد الكتابة ومستوى اللغة الحامل للمعاني، فارتبط هنالك التعبير عن الحقائق بالعربية وهي قليلة الانتشار بين الشيوخ والمريدين المتلقين على حد سواء.
وفي هذا السياق اسمحوا لي بأن أستطرد لأذكر حكاية أوردها ابن الزيات في كتاب التشوف منسوبة إلى أحد مترجميه قال فيها ما مجمله:
إن هذا المتصوف المترجم كان يعاني من حال من الوجد لو كبته لهلك، ولو عبَّر عن معناه لهلك، لأن الناس لا يطيقون شرعا ذلك التعبير على وجه مؤداه اللغوي. فما كان من ذلك الواجد إلا أن رحل من المدينة حيث يوجد من يفهم اللغة العربية إلى الريف حيث لا يوجد إلا البربر العجم الذين لا يعرفون العربية. فأخذ ينطق بالتعابير المترجمة لحاله الصوفي دون أن يفهمه أحد، وبالتالي دون أن يواخذه عليها أحد، حتى سري عليه وتحكم في حاله بالكتمان فرجع إلى الحاضرة.
فكلما أعدت قراءة هذه الحكاية أو تذكرتها خطرت في ذهني مشكلة الحلاج، فلعل مشكلته لم تكن سوى مسألة غلبة حال امتد في انزلاقات لغوية في وسط رقيب مع انعدام شروط التجاوز مثل التي حققها الزاهد المغربي المشار إليه أعلاه.
أما السبب الجغرافي لتركيز المغاربة على السلوك دون الحقائق فيتمثل في حالة الاستثناء التي عاش فيها المغرب لعدة قرون، وهو يواجه المد العسكري المسيحي في الأندلس. وقد تولت كبر هذه المواجهة ثلاث أمبراطوريات عظمى اتخذت من التعبئة برنامجا ساعد عليه الصوفية والفقهاء على السواء، برنامجا استدعته حالة الثغر الذي لايناسبه التشغيب على العقيدة لكنه بحاجة إلى عواطف جياشة لا يمكن أن تتغذى إلا من فيض مواردها الروحية.
نفهم هذا التعليل عند ما نقرأ ما أشرنا إليه أعلاه في القول: إن ابن الزيات جرَّد عن قصد كتابه من عبارات التصوف واكتفى بإيراد نماذج سلوك عَبر النبذ المخصصة لمترجميه، يشير بذلك إلى أن رقابة الدولة الموحدية الـمعبأة لم تكن لتسمح بمثل تلك العبارة ولاسيما في بيئة حديثة عهد بالتمكن في الإسلام.
بيد أن صوفية المغرب كانت لهم إلى جانب تدبيرهم للمجال الاجتماعي وإرشاد الملإ الشعبي عبارة معنوية راقية، وهمم بالغة تُزكيها القدرة على الصمت والسيطرة على النفس وصناعة النماذج على أساس قيم خالدة كالبذل والعدل والحرص على الكسب الحلال والمواساة، ولكن أعظم هذه القيم هي الإيمان بكرامة الإنسان على أساس حسن الظن واعتقاد إمكانية الرقي إلى الولاية، دون قرنها بمكتسبات خارجية. وبهذا الصدد نذكر أن الشيخ أبا مدين المغربي، وهو من شيوخ محي الدين ابن عربي، كان يقيم بمدينة فاس مجلسا حافلا يتحدث فيه أمام نخبة العلماء والمتكلمين، وكان يحضره في بعض الأيام رجل اسمه أبو موسى الكندري، لا يعرفه أحد، كان يأتي من رابطته بالجبل المجاور، وكلما دخل المجلس سكت الشيخ أبومدين وهيمن الصمت على المجلس، فلما سئل أبو مدين عن فعله من التزام الصمت بحضور ذلك الرجل، قال: ذلك رجل أعطاه الله أكثر مما عندنا. وهذا يدل على ما قلناه في البداية من كون رصيد التصوف في تاريخ بلد مَّا، في عرف أهله، لا في عرف المؤرخين، لا يمكن أن يقاس بالآثار الأدبية المتخلفة عن المنسوبين إلى هذا المعنى.
لابد أن نتساءل عن مدى صلاحية هذه المواقف والأدوار والأفكار في عصرنا هذا. لابد من الاعتراف بأن كل المواقف والأدوار والمعتقدات والأفكار عرضة لمحك الزمن ومستجداته، والتصوف من ضمن ما يجري عليه هذا الفحص، لأن فكرته، وإن كانت مطلقة، فلها ميزة التركيز على الإنسان، ومن ثمة عاشها الإنسان وعايشته في تجليات تاريخية نسبية. ولكن الفكرة الأساسية في التصوف، وهي الإيمان بأبعاد التكريم الإلهي، يفسرها قيام التصوف على طلب الحرية للإنسان الذي يتحرر إذا تجرد من التملك، وتحلى بضمير المسئولية عن المخلوقات أناسي وأشياء، وهو النموذج.
إن الحرية السياسية التي يعمل على بنائها المجتمع الإنساني اليوم ستوفر بمؤسساتها والتزاماتها مناخا جديدا للمعتقدات بما فيها فكرة التصوف، ستحميها وتخرجها من زوايا التهميش وسطوة الإقصاء، وبذلك ستشارك مع مؤسسات الدولة فعاليات المجتمع المدني في أعمال خير يحميها ويراقبها القانون، ولكن الإيمان بالإنسان على أساس التكريم الإلهي وتجربته كما يراها المتخلص من ربقة الأشياء، سيكون هذا الإيمان مولدا لحكمة متجددة ولأخلاقية مسندة أي غير مقطوعة عن الإيمان، ولجمالية تعشقها الحواس في توافق مع الروح، بل إن هذا الإيمان سيتوافق مع قدرات أخرى يستنبطها الإنسان من نفسه تتعدى العقل ولا تناقضه، بل تفتح إمكان فهم المتناقص في تطلعنا إلى أسرار الذات.
لهذه الغاية غاية إدماج التراث الصوفي في العصر على أساس أنه طريق حي للسلوك، تأسس بالمغرب في السنة الماضية مؤتمر دولي للمنتسبين إلى التصوف، وقد قرئت في افتتاح هذا المؤتمر رسالة وجهها جلالة الملك محمد السادس تعتبر وثيقة تاريخية رسمية تبني تأسيس علاقة الدولة بهذه الفكرة ونظرها إليها واعترافها بها. وقد يتعذر تكرار مثل هذا الإدماج في دول لم تعرف في تاريخها امتزاجا روحيا كالذي عرفه المغرب مع التجربة الروحية للإسلام، لذلك لا ينتظر أن تفلح في المغرب أي فكرة مناوئة لهذه التجربة الروحية. غير أن اللقاء المذكور لن يهتم في المستقبل بجوانب تاريخ التصوف في أبعادها الأكاديمية ولا بمصطلح هذا الفن، وإنما سيتخصص في استقبال ممثلين عن الهيئات الصوفية المنظمة في العالم بقصد عرض منجزاتها في الميدان التربوي والاجتماعي في السياقات الجديدة، بما في ذلك الإسهام في التربية الأخلاقية وحسن الحكمة. ذلك لأن هناك آفاقا رحبة لإسهام روحانية التصوف في الأمن الروحي للشعوب وفي حل عقد النقص الحضاري، بل وعلى الخصوص الإسهام في إنجاح ديمقراطية تجمع بين معيار الأغلبية ومعيار الأفضلية.
المصدر: موقع وزارة الاوقاف والشؤون الدينية - المملكة المغربية
معالم من تاريخ التصوف بالمغرب : فضيلة الدكتور أحمد التوفيق
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي
|