[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]رجال في الشمس[/grade]
4
*
*
*
الصفقة
اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع أبي الخيزران، وصلا متأخرىن قليلا فوجد أبا الخيزران، بانتظارهما، جالساً مع أبي قيس فوق مقعد إسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.
- لقد اجتمعت العصابة كلها الآن أليس كذلك؟
صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.
- هذا هو صديقك إذن.. ما اسمه؟
أجاب مروان باقتضاب:
- أسعد.
- دعني إذن أعرفكما على صديقي العجوز. " أبو قيس.. " وبهذا تكون العصابة قد اكتملت.. لا بأس أن تزداد واحداً.. ولكنها الآن كافية أيضا.
قال أسعد:
- يبدو لي أنك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟
- نعم، أنا.
- كيف؟
- هذا شأني أنا..
ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:
- لا يا سيدي.. أنه شأننا نحن.. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.
قال أبو الخيزران بصوت حاسم:
- سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك..
قال أسعد:
- لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟
لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:
- ما رأي العم أبو قيس؟
- الرأي رأيكم..
- ما رأيك يا مروان؟
- أنا معكم.
قال أسعد بعنف:
- إذن، دعونا نختصر الوقت.. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، أما مروان فإنها تجربته الأولى.. أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم أن أتفاوض عنكم ؟
رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقاً، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبي الخيزران..
- لقد رأيت: الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا: إننا من بلد واحد.
نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق، لا بأس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل.. سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط ..
قال أبو قيس:
- الأخ أسعد يحكي الحق يجب أن نكون على بينه من الأمر ، وكما يقول المثل :
ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .
رفع أبو الخيزران كفيه من جيبه ووضعهما على خصريه ، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قرقراه فوق وجه أسعد :
- أولا كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون ؟
قال أبو قيس..
- أنا موافق
قال أسعد:
- أرجوك .. لقد سلمتني الأمر إذن دعني أحكي ... عشرة دنانير مبلغ كبير ، أن المهرب المحترف يأخذ ، عشر دينارا .. ثم ..
قاطعه أبو الخيزران:
- لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلساً.. السلام عليكم.
أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا :
- لماذا غضبت ؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر ..
- حسنا ، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا ؟
ها ! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع .
جلس أبو الخيزران على مقعد الإسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعيناً بيديه الطويلتين،
لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود.. ها ! يجب أن تنتبهوا: أنها ليست سيارتي.. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة أنني سائقها ! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فإنها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم.
كان أبو الخيزران سائقاً بارعاً، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنين، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحسن سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدو الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها إثر هجوم يهودي.. ورغم أنه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا أنه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق. إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولات التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية.. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فإن خيبة أمله كانت أكبر، ولكن أبا الخيزران - على أي حال- أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحاج رضا في الكويت؟
لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحى موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحاج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص.. إلا أن الربيع كان خادعاً، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة أثر الأخرى..إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة.. وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الورائية في الوحل، أوقف سيارته وهبط ثم اقترب من الحج وقال له:
ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ أن انتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من أربع ساعات، وفي هذا الوقت سيكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته.
قال الحج رضا:
- تمام ! أن صوت محرك سيارتك أرحم من الوقوف هنا مدة أربعة ساعات. وقاد أبو الخيزران سيارته الضخمة طوال ست ساعات فوق تلك الأرض الخادعة التي تبدو بيضاء صلدة بسبب طبقة رقيقة من الملح الذي جف على السطح، وكان أبو الخيزران، طوال الطريق، يحرك مقود سيارته حركات خفيفة وسريعة ذات اليمين وذات اليسار كي تستطيع العجلتان الأماميتان أن تفتحا طريقاً أوسع قليلا من حاجتهما..
لقد سر الحج رضا للغاية من براعة أبي الخيزران وتحدث بذلك لكل أصدقائه طوال شهور.. وقد سر الحج أكثر حين نما إليه أن أبا الخيزران رفض عروضا عديدة للعمل عند سواه، بعد أن تفشت هذه الأخبار، واستدعاه وأثنى عليه ثم زود راتبه قليلا.. ما هو أهم من ذلك أن الحج رضا بات يشترط أن يكون أبو الخيزران رفيقا ضرورياً لكل رحلة قنص أو سفر بعيد.
منذ أسبوع خرج الحج رضا في قافلة من سياراته إلى رحلة قنص أقامها خصيصا من أجل ضيوف ينزلون عنده، وقد كلف أبو الخيزران بقيادة سيارة الماء الكبيرة، التي سترافق القافلة طوال الرحلة وتؤمن الماء الوفير للرجال أثناء الرحلة التي قد تستغرق أكثر من يومين.. لقد ضربت القافلة بعيدا في الصحراء حتى أن الحج رضا فضل أن يسلك في طريق عودته دروباً أخرى تصل به إلى الزبير، ومن الزبير يستطيع أن يسلك الطريق الرئيسي الذي يعود إلى الكويت.. كان من الممكن أن يكون أبو الخيزران الآن في الكويت، مع بقية القافلة لو لم يصب سيارته الكبيرة عطل صغير يضطره للبقاء في البصرة
يومين آخرين حتى يصلحه، ثم يلحق بمن سبق.
- أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟
- بالضبط ! لقد قلت لنفسي: لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا، وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟
نظر مروان إلى أبي قيس، ثم إلى أسعد فنظرا إليه بدورهما متسائلين:
- اسمع يا أبا الخيزران.. هذه اللعبة لا تعجبني ! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟
- لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة.. هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين متراً، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب ! ستجدون أنفسكم في الكويت !
هز أسعد رأسه ثم حدق إلى الأرض لبرهة وقد قلب شفته السفلى، أما مروان فقد أخذ يتلهي بقصف عود جاف، وواصل أبو قيس التحديق إلى السائق طويل القامة.. وفجأة قال مروان:
- هل يوجد ماء في الخزان؟.
انفجر أبو الخيزران ضاحكاً وابتسم أسعد:
- طبعاً لا .. ماذا تعتقد ؟ هل أنا مهرب أم معلم سباحة؟.
وكأنما راقت الفكرة لأبي الخيزران فقد مضى يقهقه ويضرب فخذيه بكفيه ويدور حول نفسه..
- ماذا تعتقد؟ هل أنا معلم سباحة؟ أيها الصغير: إن الخزان لم ير الماء منذ ستة شهور !
قال أسعد بهدوء:
- حسبت أنك كنت تنقل الماء في رحلة قنص قبل أسبوع؟
- أوف.. أنت تعرف، تعرف ماذا أقصد.
- لا، لا أعرف.
- أقصد منذ ستة أيام.. إن المرء يبالغ أحياناً.. والآن، هل اتفقنا؟.. دعونا ننهي هذا الاجتماع الخطير !
وقف أبو قيس مهيئا نفسه للقول الفصل ولكنه قبل أن ينطق دور بصره على الجميع وتوقف هنيهة وهو ينظر إلى أسعد كأنه يرجوه العون، ثم اقترب من أبي الخيزران..
- اسمع يا أبا الخيزران.. أنا رجل درويش ولا أفهم بكل هذه التعقيدات.. ولكن قصة رحلة القنص تلك، لم تعجبيني.. تقول أنك حملت للحج رضا، ماء، ثم تقول الآن إن خزان سيارتك لم يشم رائحة الماء منذ ستة أشهر. سأقول لك الحقيقة وأرجو أن لا تغضب : أنا أشك في أنك تملك سيارة ..
التفت أبو قيس للبقية ومضى يكمل بصوت حزين:
- أنا أفضل أن أدفع خمسة عشر ديناراً وأذهب مع مهرب عن طريق الصحراء..
لا أريد مزيدا من المشاكل.
ضحك أبو الخيزران وقال بصوت عال:
- اذهب وجرب.. أتحسب أنني لا أعرف هؤلاء المهربين ؟ سيتركونكم في منتصف الطريق ويذوبون مثل فص الملح ! وأنتم بدوركم ستذيبون في قيظ آب دون أن يشعر بكم أحد.. اذهب اذهب وجرب.. قبلك جرب الكثيرون.. تريد أن أدلك ؟ لماذا تحسب أنهم يأخذون منكم المبلغ سلفا؟
- " ولكنني أعرف كثيرين وصلوا إلى هناك من طريق المهربين ".
- "عشرة بالمئة على الأكثر.. ثم اذهب واسألهم وسيقولون لك أنهم أكملوا الطريق بلا مهرب وبلد دليل، وأن حظهم قد ساعدهم على النجاة. "
- جمد أبو قيس في مكانه، وبدا للحظة أنه موشك على السقوط. ولاحظ مروان أن أبا قيس يشبه والده إلى حد بعيد، فأشاح بوجهه عنه، لم يعد بوسعه أن يركز رأسه على موضوع واحد.. فيما مضى أبو الخيزران صائحا:
- يجب أن تقرروا بسرعة ! ليس لدى مزيد من الوقت لأضيعه، أقسم لكم بشرفي...
قال أسعد مقاطعا بهدوء:
- اترك موضوع الشرف في ناحية أخرى . الأمور تمضي بشكل أفضل حين لا يقسم المرء بشرفه..
التفت. أبو الخيزران إليه وقال:
- والآن يا سيد أسعد، أنت رجل ذكي ومجرب.. ما رأيك؟
رأيي بماذا؟
بكل شيء..
ابتسم أسعد ولاحظ أن أبا قيس ومروان ينتظران أن يسمعا قراره، فمضى يحكي ببطء وسخرية:
أولاً، أعفينا من تصديق قصة رحلة القنص ! يبدو لي أن الحج رضا وجنابك تعملان بالتهريب.. عفوك قليلا، دعني أكمل.. الحج رضا يعتقد أن تهريب الأشخاص في طريق العودة أمر تافه، لذلك يتركه لك، أما أنت فتترك له بالمقابل تهريب الأمور الأهم.. وبنسبة من الأرباح المعقولة، أم تراه لا يعرف أنك تهرب أشخاصا في طريق العودة؟
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فبانت أسنانه البيضاء النظيفة من جديد وبدا أنه لا يريد أن يجيب أسعد.. قال مروان فجأة:
وقصة القنص؟
أوه ! قصة القنص معدة لرجال الحدود، ليس لنا.. ولكن أبا الخيزران لا يجد بأسا من أن يرويها..
اتسعت ابتسامة أبي الخيزران أكثر من قبل وأخذ يبادل الرجال النظر دون أن يتكلم.. وبدا، للحظة، أنه غبي.
قال أبو قيس:
ولكن ماذا يهرب الحج رضا؟ لقد قلت أنه رجل ثري !.
نظر الجميع إلى أبي الخيزران الذي كف، فجأة، عن الابتسام وعاد وجهه يكتسي بطابع اللامبالاة والتسلط ثم قال بحزم:
- والآن كفوا عن الثرثرة.. يجب أن لا تعتقد يا سيد أسعد أنك ذكي إلى هذا الحد .. ماذا قررتم؟
قال أسعد بهدوء:
- أنا شخصياً لا أهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك فإنه لا يعنيني .. ولذلك فإنني سأسافر مع أبي الخيزران .
قال مروان بحماسة .
- وأنا سأسافر معكما .
قال أبو قيس :
- هل تعتقدون أنه بوسعي أن أرافقكم أنا رجل عجوز ..
ضحك أبو الخيزران بعنف ثم شبك ذراعه بذراع أبي قيس .
- له ! له ! يا أبو قيس .. من الذي أوهمك أنك عجوز إلى هذا الحد ؟ ربما أم قيس ! له ! يجب أن تأتي معنا ..
كانا قد سارا خطوات قليلة معا وتركا مروان وأسعد واقفين إلى جانب مقعد الإسمنت الكبير ، التفت أبو الخيزران من فوق كتفه وصاح :
- سينام أبو قيس معي في السيارة .. وسأزمر لكم صباح غدا الباكر أمام الفندق .
*************
يُتبع