عرض مشاركة واحدة
قديم 27 / 02 / 2010, 29 : 01 AM   رقم المشاركة : [4]
عبدالله الخطيب
كاتب نور أدبي يتلألأ في سماء نور الأدب ( عضوية برونزية )
 





عبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond repute

رد: ((عائد الى حيفا)) للأديب الشهيد غسان كنفاني

[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]عائد الى حيفا[/grade]
2
*
*
*
كان العرق يتصبب باردا على جبين سعيد وهو يقود سيارته صاعدا المنحدر . لقد حسب أن تلك الذاكرة لن تعود بهذا الصخب المجنون الذي لم يكن لها إلا لحظات حدوثها. ومن طرفي عينيه نظر الى زوجته : كان وجهها مشدودا أميل الى الاصفرار وكانت عيناها تتدفقان بالدموع ، لا ريب أنها – قال لنفسه – تستعيد خطواتها ذلك اليوم ذاته ، حين كان هو أقرب ما يكون الى البحر ، وكانت هي أقرب ما تكون الى الجبل ، وبينهما يمد الرعب والضياع خيوطهما غير المرئية ، فوق مستنقع من الصراخ والخوف والمجهول .
كانت-كما قالت له أكثر من مرة في السنوات الماضية – تفكر به . وحين دوى الرصاص وانطلق الناس يقولون أن الانكليز واليهود أخذوا يكتسحون حيفا ، راودها خوف يائس.
كانت تفكر به ، عندما جاءت أصوات الحرب من وسط المدينة حيث تعرف أنه هناك . وكانت تشعر أنها أكثر أمنا ، فالتزمت البيت فترة، وحين طال غيابه ، هرعت الى الطريق دون أن تدري على وجه التحديد ما الذي كانت تريده . في البدء كانت تطل من الشباك ، ومن الشرفة . وكأنها شعرت الآن أن الأمر قد تغير تماما ، إذ بدأت النار تنهمر بغزارة ، بدءا من الظهر ، من التلال الواقعة فوق الحليصا . وأحست أنها محاصرة كليا ، وعندها فقط اخذت تعدو نازلة الدرج ، واندفعت على طول الطريق نحو الشارع الرئيسي، وكان استعجالها لرؤيته قادما يختصر خوفها عليه وقلقها من المصير المجهول الذي كان يحمل ألف احتمال مع كل رصاصة تطلق . وحين وصلت الى أول الطريق أخذت تراقب السيارات المندفعه بسرعة ، وقادتها خطواتها من سياره الى أخرى ، ومن رجل الى آخر ، تسأل دون أن تحصل على جواب. وفجأه رأت نفسها في موج الناس ، يدفعونها ، وهم يندفعون من شتى أرجاء المدينة ، في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن رده ، كانها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش.
كم مضى من الوقت قبل أن تتذكر أن خلدون الطفل ما زال في سريره في الحليصا؟
ليست تتذكر تماما ، ولكنها تعرف أن قوة لا تصدق سمرتها في الأرض ، فيما أخذالسيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافع على جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء ، وارتدت هي الأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها . وأمام عجزها وتعبها أخذت تصرخ بكل ما في حنجرتها من قوة . ولم تكن كلماتها الطائرة في ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل الى أي أذن . لقد رددت كلمة " خلدون" ألف مرة ، مليون مرة، وظلت شهورا بعد ذلك تحمل في فمها صوتا مبحوحا مجروحا لا يكاد يسمع . وظلت كلمة " خلدون " نقطة واحدة لا غير ، تعوم ضائعة وسط ذلك التدفق اللانهائي من الاصوات والأسماء.
وكانت على وشك السقوط وسط الأقدام حين سمعت كمن يحلم صوتا ينبثق من الأرض ، ويناديها باسمها ، وحين رأت وجهه وراءها يتفصد بالعرق والغضب والارهاق أحست ذهول الفاجعه أكثر من أي وقت مضى ، واكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها ، وقررت أن تعود بأي ثمن . ولربما أحست بأنها لن تستطيع الى الأبد النظر الى عيني سعيد ، او تركه يلمسها . وفي أعماقها شعرت أنها على وشك أن تفقد الاثنين معا : سعيد وخلدون ... فمضت تشق طريقها بكل ما في ذراعيها من قوة وسط الغاب الذي كان يسد في وجهها طريق العودة ، محاولة في الوقت نفسه أن تضيع سعيد ، الذي أخذ –دون أن يعي- ينادي صفية تارة ، وينادي خلدون تارة أخرى...
هلى مضت أجيال وأزمنة قبل أن تحس بكفيه القويتين المتيبستين تشدان على ذراعيها؟
وفجأة نظرت في عينيه ، وأحست بشيء يشبه الشلل يسقطها على كتفه لخرقة بالية لا قيمة لها ، وحولهما مضت سيول البشر تتقاذفهما من جهة الى أخرى ، وتدفعهما أمامها نحو الشاطئ ، ولكنهما لم يكونا ، بعد ، قادرين على الإحساس بأي شيء ، وفقط حين عومهما الرذاذ المتطاير من تحت خشب المجاديف ، ونظر الى الشاطئ حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع ....
طوال الطريق ، من رام الله الى القدس الى حيفا ظل يتحدث عن كل شيء ، لم يكف قط عن الحديث ، ولكنه حين وصل الى أول " بيت غاليم" ربط الصمت لسانه . وها هو الآن في " الحليصة " ، يسمع أصوات عجلات سيارته تسير مثلما كانت دائما . وكان النبض الصعب لقلبه المتوثب يضيعه بين الفينة والأخرى لقد تضاءلت عشرون سنة من الغياب ، وها هي الأمور تعود فجأة عودة لا تصدق ، وراء ظهر العقل والمنطق ... تراه عما يبحث؟
قبل أسبوع قالت له صفية ، وهما في منزلهما في رام الله :
-" إنهم يذهبون الى كل مكان ، ألا نذهب الى حيفا ؟ " .
وكان ، عندها ، يتناول عشاءه ، ورأى يده تقف تلقائيا بين الصحن وبين فمه . ونظر نحوها بعد برهة فرآها تستدير ، كي لا يقرأ شيئا في عينيها ، ثم قال لها :
-" نذهب الى حيفا ... لماذا؟".
وجاءه صوتها خافتا :
-" نرى بيتنا هناك . فقط نراه ".
وأعاد لقمته الى الصحن وقام فوقف أمامها . كان رأسها يتكىء على صدرها كمن يريد أن يعترف بذنب غير متوقع . فوضع أصابعه تحت ذقنها فإذا بعينيها تنضحان بدموع غزيرة ، فسألها بحنو:
-" صفية ... بماذا تفكرين ؟".
وهزت رأسها موافقة دون أن تقول شيئا ، فقد عرفت أنه يعرف ، وربما كان هو الآخر يفكر طوال الوقت بذلك وينتظرها أن تبادئ كي لا تشعر بأنها –كما كانت تشعر دائما- هي التي ارتكبت تلك الفجيعه التي شجرت في قلبيهما معا ، فهمس بصوت مبحوح :
-" خلدون؟".
واكتشف على التو أن ذلك الاسم ، لم يلفظ قط في تلك الغرفة منذ زمن طويل . وأنهما في المرات القليلة التي تحدثا عنه كانا يقولان " هو " ، بل أنهما تجنبا تسمية أي من أولادهما الثلاثة ذلك الاسم ، وأن كانا قد أطلقا على أكبرهما أسم " خالد" وعلى البنت التي أنجباها بعد ذلك بعام ونصف " خالدة " ، بل أن أولادهما لم يعرفا قط أن لهما أخا اسمه خلدون ، وهو نفسه ينادونه أبا خالد" ، وأصدقاءه القدامى اتفقوا على القول بأن خلدون قد مات . فكيف يمكن للأمور أن تندفع من الباب الخلفي على هذه الصورة الفريده ؟
وظل سعيد واقفا هناك وكأنه نائم في مكان بعيد ، إلا أنه التقط نفسه بعد هنيهة ، وأخذ يخطو عائدا الى طاولته ، وقبل أن يجلس قال لها :
-" أوهام يا صفية أوهام ! لا تتركي لنفسك أن تخدعك على هذه الصورة المحزنة . أنت تعرفين كم سألنا وكم حققنا ، وتعرفين قصص الصليب الأحمر ، ورجال الهدنة ، والأصدقاء الأجانب الذين بعثناهم الى هناك . لا ، لا أريد الذهاب الى حيفا ، إن ذلك ذل ، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان ، لماذا نعذب أنفسنا؟".
وأخذ صوت نشيجها يعلو شيئا فشيئا ، ولكنها التزمت الصمت ، وأمضيا تلك الليلة دونما كلمة ، يستمعان معا الى أصوات الأحذية العسكرية تقرع الطرق ، والى الراديو يظل يعطي الأوامر.
وحين مضى الى فراشه كان يعرف –في أعماقه – أن لا فرار ، وأن الفكرة التي كانت هناك طوال عشرين سنة قد ولدت ، ولا سبيل الى دفنها من جديد . ورغم أنه كان يعرف أن زوجته لم تنم ، وأنها أمضت كل ذلك الليل تفكرفي الأمر نفسه ، إلا أنه لم يبادلها أية كلمة ، وفي الصباح قالت له بهدوء:
-" إذا أردت أن تذهب فخذني معك ، لا تحاول يا سعيد أن تذهب وحدك ".
إنه يعرف صفيه جيدا ، ويعرف أنها تدرك تماما كل فكرة تعبر رأسه . وهذه المره قاطعته وهو في منتصف الطريق ، فقد قرر في الليل أن يذهب وحده ، وها هي تكتشف قراره من تلقائها ، وتمنعه.
وظل الأمر كله معلقا في سقف أيامهما ولياليهما طوال أسبوع . يأكلانه مع طعامهما ويعلكانه وينامان معه ولكنهما لم يتكلما حوله أبدا ، وليله أمس فقط قال لها :
-" لنذهب غدا الى حيفا ، نتفرج عليها على الأقل ، وقد نمر قرب بيتنا هناك . أنا أعرف أنهم سيصدرون قريبا قرار يمنع ذلك كله . فحساباتهم لم تكن صحيحه ".
وصمت قليلا ، وليس يدري إن كان راغبا حقا في تغيير الموضوع ، إذ سمع نفسه يمضي في كلام آخر:
-" في القدس ونابلس وهنا يتحدث الناس كل يوم عن نتائج زياراتهم الى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث . كلهم يقولون كلاما متشابها ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم . جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة . إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما . في البلد هنا ردة فعل سيئه جدا ، وهو عكس ما أرادوه حين فتحوا حدودهم أمامنا . لذلك فأنا أتوقع يا صفية أن يلغوا ذلك القرار قريبا جدا ، وهكذا قلت لنفسي لماذا لا نقتنص الفرصة ونذهب؟ ".
وحين نظر إلى صفية رآها ترتجف ، وشهد وجهها يميل بوضوح للاصفرار ، فخرج من الغرفة ، إذ أحس هو الآخر بدموع حارقه تسد حلقه . ومنذ تلك اللحظة لم يكف اسم " خلدون" عن الدق في رأسه ، تماما مثلما كان قبل عشرين سنة حين سمعه يدق المرة تلو الأخرى فوق الزحام المتدفق أمام مياه الميناء الباكية. ولا شك أنه كان كذلك بالنسبة لصفية ، وقد تحدثا طوال الطريق عن كل شيء ، إلا عن خلدون . وقرب " بيت غاليم " فقط التزما الصمت ، وها هما الآن ينظران صامتين إلى الطريق التي يعرفانها جيدا والملتصقة في رأسيهما كقطع من لحمهما وعظامهما .
ومثلما كان يفعل قبل عشرين سنة تماما خفف سرعة سيارته إلى حدها الأدنى قبل أن يصل إلى ذلك المنعطف ، الذي كان يعرف أن سفحا صعبا يكمن وراءه . وانعطف بسيارته كما كان يفعل دائما وتسلق السفح محتفظا بالموقع الصحيح في الطريق الذي أخذ يضيق. وكانت أشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلا فوق الشارع قد مدت أغصانا جديده ، ورغب أن يتوقف لحظه كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن ، ويكاد يتذكرها واحدا واحداً ، ولكنه لم يفعل . وليس يدري كيف حدث الأمر ، ولكنه بصورة ما تذكر حين مر قرب باب يعرفه ، شخصا من بيت الخوري كان يسكن هناك ، وكانت عائلته تمتلك بناية كبيرة جنوب طريق ستانتون ، قرب شارع الملوك . وفي تلك البناية -يوم الفرار - تمترس المقاتلون العرب وقاتلوا حتى آخر رصاصة وربما آخر رجل. وقد مر قرب تلك البناية حين كان يندفع نحو الميناء بقوة تفوقه مقدرة ، وتذكر الآن بالضبط أنه هناك ، وهناك فقط ، سقطت عليه الذاكرة كما لو أنه ضرب بحجر ، وهناك بالضبط تذكر خلدون وانقبض قلبه يومها ، قبل عشرين سنة ، وما زال، والآن يزداد نبضه قوة حتى كاد أن يسمعه.
وفجأة أطل المنزل ، المنزل ذاته ، ذلك الذي عاش فيه ، ثم عيشه في ذاكرته طويلا ، وها هو الآن يطل بمقدمة شرفاته المطلية باللون الأصفر.
ولوهلة خيل إليه أن صفيه ، شابه وذات شعر مجدل طويل ، ستطل عليه من هناك . كان حبلا جديدا للغسيل قد دق على وتدين خارج الشرفة ، وتدلت منه قطع بيضاء وحمراء لغسيل جديد . وفجأة أخذت صفيه تبكي بصوت مسموع ، أما هو فقد انحرف إلى اليمين ، وترك عجلات سيارته تصعد الرصيف الواطئ. ثم أوقف السيارة في المكان الذي لها ، كما كان يفعل -تماما- منذ عشرين سنة !
تردد "سعيد.س" هنيهة فقط وهو يطفئ محرك سيارته ، ولكنه كان يعرف في أعماقه أنه لو ترك نفسه يتردد فترة أطول لانتهى الأمر، ولعاد فحرك سيارته عائدا أدراجه . وهكذا جعل الأمر ، لنفسه ولزوجته ، يبدو طبيعيا للغاية. كما لو أن العشرين سنة الماضية وضعت بين مكبسين جبارين وسحقت حتى صارت ورقه شفافة لا تكاد ترى. نزل من السيارة وصفق وراءه بابها ، وأخذ يرفع حزامه وهو ينظر نحو الشرفة تاركا المفاتيح تخشخش في راحته دونما اكتراث.
ودارت زوجته حول السيارة ووقفت إلى جانبه ، إلا أنها لم تكن بارعة مثله. أمسك بذراعها ، وأخذ يقطع بها الشارع: الرصيف ، البوابة الحديدية الخضراء، الدرج.
وبدآ يصعدان ، دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضه وتفقده اتزانه : الجرس ، ولاقطة الباب النحاسية ، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط ،وصندوق الكهرباء ، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها ، وحاجز السلم المقوس الناعم الذي تنزلق عليه الكف، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب ، والطابق الأول حيث كان يعيش محجوب السعدي ، وحيث كان الباب يظل مواربا دائما ، والأطفال يلعبون أمام الدار دائما ، ويملأون الدرج صراخا ، إلى الباب الخشبي المغلق ، المدهون حديثا ، والمغلق بإحكام .
وضع إصبعه على الدرج وهو يقول بصوت خافت لصفية :
-" غيروا الجرس" .
وسكت قليلا ثم تابع :
-" والاسم طبعا " .
واغتصب ابتسامة غبية ، وشد يده فوق يدها وأحس بها باردة ترتجف ، ووراء الباب سمعا صوت خطوات تجر نفسها ببطئ ، وقال لنفسه : " شخص عجوز بلا شك" ، وقرقع المزلاج بصوت مكتوم ، وببطء انفتح الباب.
" ها هي ذي " ، ليس يدري إن قال ذلك بصوت مسموع ، أو قاله لنفسه كمن يتنفس الصعداء. ولكنه ظل واقفا مكانه لا يعرف ماذا يتوجب عليه أن يقول . ولام نفسه لكونه لم يحضر جملة يبدأ بها رغم أنه فكر طويلا في أن لحظة كهذه لا بد آتيه ، وتكرك في مكانه ناظرا إلى صفية كمن يستنجد . فتقدمت أم خالد خطوة إلى الأمام وقالت :
-" هل نستطيع أن ندخل؟" .
ولم تفهم المرأة العجوز ، السمينة بعض الشيء ،والقصيرة ، والتي كانت تلبس ثوبا أزرق منقطا بكريات بيضاء. فأخذ سعيد يترجم إلى الإنكليزية ، وعندها انفرجت أسارير العجوز المتسائلة ، ووسعت من الطريق حتى دخلا ، ثم أخذت تسير أمامهما نحو غرفة الجلوس.
وتبعها سعيد وبجانبه صفية ، وبخطوات مترددة بطيئة ، وأخذا يميزان الأشياء بشيء من الدهشة . لقد بدا له المدخل أصغر قليلا مما تصوره وأكثر رطوبة واستطاع ان يرى أشياء كثيرة اعتبرها ذات يوم، وما يزال ، أشياءه الحميمة الخاصة التي تصورها دائما ملكية غامضة مقدسة لم يستطع أي كان أن يتعرف عليها أو أن يلمسها أو أن يراها حقا . ثمة صورة للقدس يتذكرها جيدا وما تزال معلقة حيث كانت ، حين كان يعيش هنا . وعلى الجدار المقابل سجادة شامية صغيرة كانت دائما هناك أيضا.
وأخذ يخطو ناظرا حواليه ، مكتشفا الأمور شيئا فشيئا ، أو دفعة واحدة ، كمن يصحو من إغماء طويل . وحين صارا في غرفة الجلوس ، استطاع أن يرى مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له . أما المقاعد الثلاثة الأخرى فقد كانت جديدة ، وبدت هناك فظة وغير متسقة مع الأثاث . وفي الوسط كانت الطاولة المرصعة بالصدف هي نفسها ، وإن كان لونها قد صار باهتا ، وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب ، وفيها تكومت أعواد من ريش الطاووس ، كان يعرف أنها سبعة أعواد . وحاول أن يعدها وهو جالس مكانه إلا أنه لم يستطع ، فقام واقترب من المزهرية وأخذ يعدها واحدة واحدة ، كانت خمسة فقط .
وحين استدار عائدا إلى مكانه ، رأى أن الستائر قد تغيرت ،وأن تلك التي اشتغلتها صفية ، قبل عشرين سنة ، بالصنارة ، من الخيوط السكرية اللون ، قد اختفت من هناك ، واستبدلت بستائر ذات خطوط زرقاء متطاولة .
ثم وقع بصره على صفية ، فرآها محتارة ، تنقب بعينيها في زوايا الغرفة وكأنها تعد الأشياء التي تفتقدها ، وكانت المرأة السمينة العجوز تجلس أمامهما على ذراع أحد المقاعد ، تنظر إليهما وهي تبتسم ابتسامة لا معنى لها ، وأخيراً قالت دون أن تجعل تلك الابتسامة تفر:
- "منذ زمن طويل وأنا أتوقعكما ".
*****************************
يُتبع
توقيع عبدالله الخطيب
 [frame="3 98"][frame="2 98"]
لاَ تَشك ُ للنّاس ِ جرحا ً أنتَ صاحبُه .... لا يُؤْلم الجرحُ إلاَّ مَنْ بهِ ألم
don't cry your pain out to any one
No body will suffer for you
You..! who is suffering
[/frame]
[/frame]
الثورة تتكلم عربي
عبدالله الخطيب غير متصل   رد مع اقتباس