06 / 03 / 2010, 33 : 02 AM
|
رقم المشاركة : [17]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
16
كم مر من الوقت و أنا أتأمل صفحة البحرالمنبسطة أمامي إلى ما لا نهاية .. وكم لبثت ألتفت تارة إلى اليمين و تارة أخرى إلى اليسار محاولا أن أميز شيئا على الشاطئ المترامي الأطراف .. ولا أدري لم انقلب حماسي و بهجتي بالوصول إلى شعور بالانقباض و القلق . هل لأن نهاية الرحلة توشك على الانتهاء و أنني على موعد قريب مع الفوز بمحبوبتي و العودة بها ؟ أم أني أتخوف لاشعوريا من الرجوع مرة أخرى خالي الوفاض .. هل يكون ما أعيشه الآن من أمل مجرد سراب وحلم لا ألبث أن استيقظ منه ؟ لماذا أنا مسمر القدمين هنا في أعلى الجبل ولا أسرع في الانحدار إلى الشاطئ ؟ ثمة شيء لا أدري كنهه يحثني على الرجوع و الاكتفاءبالانتظار هناك في عشي .. لكن هذا سيكون دليلا على عجزي وربما جبني و ضعفي أمام الشدائد .
ربما كان لما وصلت إليه من اقتناع جعلني أمد الخطى نحو المنحدر .. صعب أن تجد الطريق بين كل هذه الأشجار و النباتات الكثيفة .. لكني ، مدفوعا بحدسي وحاسة مشاعري، أسير بخطى ثابتة نحو الأسفل .. يغيب عني البحر لحظة ثم يظهر لي قبل أن يختفي مرة أخرى .
تغوص قدماي في الرمل الناعم وأنا أتجه نحو البحر .. و أقترب حتى أحاذي موضع انكسار الموج .. في صوت انكساره نغمة شجية تزيد النفس وحشة و حزنا .. لو كنت هنا في غير هذه الظروف لكنت أسعد حالا بما أرى و بما أسمع .. لماذا يتراءى لي كل شيء حزينا الآن ؟ .. أقترب من أحد قوارب الصيد وقد مال قليلا إلى اليمين .. المجذافان بداخله .. لمحت اسما أنثويا على جانبه فحرك أشجاني .. ترى لمن يكون هذا القارب ؟ وهل يكون صاحبه يكتوي مثلي بلظى الحب ؟ هل ينعم بالقرب ممن يحب أم أنه أطلق على قاربه اسم معشوقته كما فعل صديقي الراعي الذي سمى عنزته باسم محبوبته؟
نزعت حذائي وتقدمت أكثر وسط الموج المتداعي على الرمال المبللة .. أنعشتني برودته . نبهتني صيحات بعض النوارس إلى ما أنا بصدده الآن .. ومع تلك الصيحات و انكسار الموجوجدت نفسي أترنم :
ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان
وستسأل عنها موج البحر...
وتسأل فيروز الشطآن
ثم ، وبدون وعي ،انتقلت إلى مقطع آخر :
وسترجع يوما يا ولدي
مهزوما مكسورالوجدان
وستعرف بعد رحيل العمر
بأنك كنت تطاردخيط دخان
زاد انقباضي وشعرت بحاجة للبكاء .. أدرت ظهري للبحر ورنوت إلى أعلىالجبل ، هناك من حيث أتيت فبدت لي القمم موحشة بقتامتها . هل علي أن أعود كل تلك المسافة ؟ ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ وما الذي أنتظره سوى أوهام و سراب .. أخذت أتمشى على الشاطئ المبلل .. أجمع بعض الصدفات أو بعض الحصى و أرمي به بعيدا كأنني أفرغ ما بصدري من ضيق .. وجدت راحة في السير وصوت الموج لا يزال يمتزج بصيحات النوارس .. وهناك حيث بدأ الضباب يتلاشى قليلا لمحت شبح عجوز محدودب جالسا القرفصاء بالقرب من مركبه وهو يصلح شبكته .. أخيرا وجدت من يؤنس وحدتي .
بادرني برفع يده قبل أن أبدأه بالسلام فأثر في ذلك وشعرت بعطف ومودة نحوه .. جلست إلى جانبه أراقبه في انكبابه على شبكته ولم أرد أن أشغله عما هو فيه . نحافته تثيرالشفقة و سمرته تكاد تصير سوادا .. لكن مظهره يدل على صلابة عوده .. تبادلنا بعض الكلمات وربما حدثته عن مأربي بطريقة ملتوية .. ابتسم و كأنه فهم تلميحي . ذكرتني ابتسامته بتلك التي ارتسمت على شفتي صديقي الراعي عند لقائنا في الكوخ .
أحسست بالدم يكاد يفور من وجنتي و غضضت ببصري و أنا أتلاعب بقصبة على الرمل .. سألته عن بعض الدور المتناثرة على أطراف الشاطئ وساكنيها فابتسم من جديد وطفق يحدثني عن كل بيت و ساكنيه حتى دب الملل إلى نفسي .. لم يكن في حديثه ما يثير الفضول .. لكنه وقبل أن ينتهي من عمله و ينهض بخفة أثارت دهشتي ، قال لي وهو يشير إلى الشاطئ :
- هذا من نعم الله .. كنز ولا كل الكنوز .. إن أحببت أن تفوز بالاستمتاع به أو بأي شيءآخر ، عليك بالقدوم فجرا وترقب طلوع الشمس ..
لم يكن في كلامه شيئا جديدا ، لكن شيئااستوقفني وتساءلت عما يعنيه بقوله "أي شيء آخر ؟".. نظرت إليه فوجدته يجمع الشبكة ويلقيها في المركب .. ثم قال :
- اليوم أنت ضيف عندي.. غدا سآخذك في جولة عبر البحرلترى صنع الخالق .. لا تبتئس .. كل شيء يهون .. هيا بنا .
كم أغبط هذا العجوز على تلقائيته و خلو ذهنه من كل مشاكل الدنيا .. لكن مهلا .. علمتني التجارب و إن كانت قليلة ، ألا أثق بالمظاهر .. من يؤكد لي أن هذا الشيخ لا ينوء بعبء ثقيل ؟ .. ألا يكون يضاهي صديقي الراعي فقرا و بؤسا رغم نشاطه و تفاؤله البادي على وجهه الذي غزته التجاعيد ؟
علي أن أعترف أن مبيتي عند الشيخ العجوز و خروجي صحبته بعدالفجر بقليل خفف عني وطأة ما كنت أحس به .. سهرنا أمام الموقد . كان الرجل يعيش وحيدا . لم اسأله عن أهله . كنت أستمع إلى حكايته وأجد في طريقة سرده متعة أنستني ما أنا فيه من غم .. صوت الموج يسمع جليا بالقرب من البيت . لكن لا شيء يرى في هذاالظلام الدامس .. كانت على المائدة الصغيرة شمعة تتوهج و على ضوئها كنت ألمحالتجاعيد على وجع العجوز وقد زادت عمقا ..
نسيت نفسي و نحن نمخر عباب الموج الهادرفي هذا الصباح الندي .. البحر صار هائجا لكنه ليس لحد الخطورة .. الرجل يجذف بحيوية منقطعة النظير و أنا في مقدمة المركب أجيل النظر في الأفق متفحصا ما يحيط حولنا منصخور تبدو كجزر صغيرة .. كدت أسأله عن وجهتنا لكن ترنيمته الجبلية ألزمتني الصمت .. خلت نفسي أمام عشي و البدويات يترنمن من بعيد ..
كانبكي ونبكي
ونطيح فدموعي
أيلي يا للا
ايلي يالعيلا
قوللي علاش كتبكي
قوللي علاش كتبكي
حبيبك دابا يولي
صرت أغالب دموعي و اخفي تأثري عن مضيفي .. لكنه لم ينتبه إلى ما كنت أعانيه .. واستمر المركب يشق الماء شقا و النهار يطلع رويدا رويدا .. حقا .. لقد كان على صواب حين تحدث عن الكنز .. لم أشعر قط بما أشعر به الآن من رهبة ممزوجة بالإعجاب لصنعة الخالق الباري .. كل شيء ينطق بالعظمة و الجمال .. البحر .. السماء .. الجبال التي تتراءى من بعيد .. الصخور الناتئة .. النوارس .. وأخيرا الشمس التيتشرق الآن .. بنفسجية اللون كبيرة القرص .. كل شيء يسبح .. كل شيء يبتهل .. يصلي .. يحب ..
الآن .. أرى المركب يدور على نفسه ليستقبل الشاطئ البعيد هناك .. الغارق في ضباب الصباح .. أنتبه من جديد إلى ترنيمة الشيخ و أنا أحدق في المدى البعيد .. أحس بالأشياء تتنفس مع تنفس الصبح .. شهيتي تتفتح .. لكن العجوز كان قد أعد لكل شيءعدته .. توقف عن التجذيف ليناولني رغيفا بالعسل و بيضا مسلوقا .. التهمته بلذة وبصري لا يحيد عن الشاطئ ، كأنني على موعد مع حدث قريب ..
والحدث القريب كان رؤية .. وفي هذه المرة كانت حقيقة .. أو هذا ما خيل لي ونحن نقترب من الشاطئ .. لأنني لمحت عند أقصى الجهة اليمنى ، حيث ينتهي سفح الجبل على شكل جرفسحيق ، شيئا يتحرك ، تحيط به هالة من البياض . دققت النظر فبانت لي هيئة غادة مستقبلة البحر وقد عبثت الريح بجدائل شعرها.
قلبي يخفق بعنف .. وصرت أحث العجوز في نفسي على الإسراع بالتجذيف ، وتمنيت لو كان لي مجذافا آخر لأزيد من سرعة القارب .. كدت القي نفسي في اليم لأسبح .. لكني تمالكت نفسي .. من تكون ؟.. هل هي .. ؟ ماأسعدني إذا تحقق حلمي أخيرا ؟ .. وما أشقاني إذا كان كل هذا حلما .. أو كانت الغادة ليست من أبحث عنها .
[/align]
|
|
|
|