06 / 03 / 2010, 38 : 02 AM
|
رقم المشاركة : [19]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(18)
أي إنسان هذا الذي يحدثني ؟ و أي قلب هذا الذي يحمل كل هذه الأحاسيس ؟ وأية نفس هذه التي تحملت كل هذا الذي اسمعه ولا زالت تعرك الأيام ؟
على وهج الشمعة الآيلة للذوبان ، أرنو إلى وجه الشيخ وقد زاد نور الشمعة تجاعيده غورا وعمقا .. بدت لي عيناه ساهمتين وهو يروي ماضيه وكأنه يعيشه .. بل أحسست أنه في لحظة من اللحظات قد انتقل إلى هناك ولم يعد أمامي سوى جسد نحيل تكاد عظامه تنفر من تحت جلده ..
-" أنا يا بني عشت كما يعيش كل إنسان .. تمتعت بكل شيء .. بالحب و بالألفة و المودة مع من جعلهم الله سندي في هذه الدنيا .. لن أحدثك عمن أحببت وقد صارت فيما بعد زوجتي .. ولن أحدثك عن صغاري الذين لم يسلم جزء من هذه الرمال من موطئ أقدامهم الصغيرة .. أحسست في يوم من الأيام أنني بلغت كل المنى و أني قد حزت كل الدنيا .. كم تغنيت بذاك الحب الذي حمل الكثير من الغزل .. حتى صرت شاعر المنطقة .. وتهافت علي الكثيرون يرومون سماع مقاطع مما أنظمه .. يا إلهي كم كانت رائعة .. سنوات قليلة عشناها كانت بمثابة دهر .. ثم .. "
نظرت إليه مستفهما و قد تأججت لهفتي ، فاستطرد قائلا :
" في أحد الأماسي ، جاءني الخبر المروع ..احتضن البحر أجسادهم .. كلهم .. فلم يترك لي ولا واحدا منهم يسليني في وحدتي و ينسيني فاجعتي .. انقلب المركب الذي امتطوه صحبة عمهم بعد أن ثارت الريح فجأة وعلا الموج فصار كالجبال .. "
صمت ولم أسأله عن الباقي .. كنت أحس بالألم الذي يعصر قلبه و تمنيت لو أعتذر له عن إثارتي لهذا الموضوع ذي شجون .. لكني اكتفيت بالنظر إلى الشمعة ، بينما ظل هو متكئا على مرفقه وهو يعبث بملعقة صغيرة ينقر بها على المائدة الصغيرة ..
هدير الموج يشعرني بوحشية البحر ويتمثل لي كغول يريد أن يبتلعني .. التفت صوب الباب .. فابتسم قائلا:
-" أنا مثلك صرت أهابه بعد الحادث ، بل صرت أمقته و أخرج كل صباح أتوعده بقبضة يدي .. وربما فاض بي الكيل و صرت أنظر إلى السماء وقلبي يتأجج غضبا و حنقا .. فلا أجد في نفسي سوى ضعفا أمام جبروت الطبيعة و عجزا أمام قوتها .. فاستسلمت يوما للبكاء وأنا جالس على الشاطئ أنظر إلى الأمواج العاتية و كأنني أنتظر أن تحمل لي جسد واحدا ممن ابتلعتهم .. ثم عاودت البكاء في الليلة الموالية .. وشيئا فشيئا بدأت الطمأنينة تدب إلى نفسي .. صرت أرى الأمور بعين أخرى .. وقضيت أياما أذرع الشاطئ ذهابا و إيابا .. وأصعد الجبل حتى القمة فأنظر إلى حيث كنت فأجد كل شيء صغيرا تافها .. هناك علمت أنني أحمل نفسي ما لا طاقة لها به .. وأنني أقترف إثما عظيما بحزني و ثورتي .. وانتهيت إلى قناعة أن الله أعطاني فشكرت و نزع مني فعلي أن أحمد .. وبدلا من أن أنصب العداء للبحر الذي ابتلع أحبتي و للريح التي أهاجت تلك الأمواج ، صرت أكن لهما من الحب ما لم أشعر به من قبل قط .. و بدأت علاقة جديدة تربطني بالبحر و بموجه .. و أخذت الرياح تبعث في قوة و تصميما ..
تتساءل كيف أعيش و لماذا كل هذا الضنى ؟ أعيش من البحر .. كل ما أقتات به يأتيني منه أو بسببه .. راودتني أفكار سوداء في البداية لكني نجحت في إبعادها عن ذهني .. وها أنذا الآن أعيش لكن ليس من أجل نفسي فقط ، بل لأجل كل وحد و كل شيء .. البحر صار رفيقي و الرمال مقعدي .. الأسماك و الطحالب و الصدف أنسي .. هناك فتيان و رجال يقدمون بين الفينة و الأخرى لأعلمهم مهارة الصيد .. الصيد يعلم الصبر يا بني .."
كنت أستمع إليه ساهما كأنني تحت تأثير سحر أو منوم .. ولم أشعر إلا وهو يسألني فجأة :
- ترى لماذا – برأيك – حكيت لك كل هذا .. وقد آليت على نفسي ألا أسر به لأحد ؟
ولما لم أحر جوابا ، تابع حديثه :
- كنت سأتصرف بأنانية لو تركتك تتخبط في معاناتك و يأسك .. وخفت أن يستبد بك اليأس إلى ما لا تحمد عقباه فتخسر كل شيء .. هكذا تعلمت من محنتي .. أنت في مقتبل العمر يا بني ولا يجب أن تستسلم للقنوط عند أول عقبة أو تجربة .. نفسك صافية وقلبك طيب ما دمت تحب .. لا تحصر حبك في زاوية مغلقة .. اتركه يعشش و يفرخ و يطير .. اجعل حبك يحضن كل شيء .. انظر حواليك يبد لك كل شيء جميلا ينطق بجمال خالقه .. أنت قطعت المسافات و جبت الجبال و الوديان وأتيت هنا مشبعا بالآمال .. لكني أراك محبطا وحزينا .. وهذا ظلم لنفسك ولقلبك .. عد من حيث أتيت أو ابق معي إن شئت .. لكن أطلق العنان لمشاعرك تسبح في ملكوت الله .. واجعل حبك بعيدا عن كل نزوة طارئة ..وإذا كان شيء مقدرا في الغيب ، فسوف يكون حتما رغما عنا .."
أستطيع القول أنني – و أنا الآن في طريق عودتي – أشعر كأنني أفيق من حلم أو أنني لا زلت أحلم .. لكن القوة التي أحس بها و الهدوء الذي تسلل إلى نفسي تجعلني أخطو بتؤدة بعد أن كنت أتلهف لطي المسافات كي اصل إلى عشي بأسرع وقت ممكن .. الآن ، صار كل ما حولي عشي ، بل أعشاشا متناثرة هنا و هناك تنتظر مني لمسة حنان أو نظرة ود .. حقا ، لا أنكر أنني ألتفت أحيانا ، رغما عني ، إلى الوراء متوقعا أن يتبعني طيف تحفه هالة بيضاء .. وقد أحسب حفيف الريح هفهفة أو جدائل شعر ..
أصعد الجبل المطل على البحر وصدري يزيد انشراحا .. الأشجار تقف أمامي مصطفة كأنما تحييني و تعبر عن امتنانها لنظرتي الودودة إليها .. حتى العصافير التي انطلقت في ذلك الصباح الندي كانت تحوم حولي منتشية بما علا محياي من بشر و إشراق .. حاولت تمييز عصفورتي الجريحة بينها أو رفيقها الغائب فلم أفلح .. يا إلهي كم أنا مشتاق لعشي و شجرتي و عصفورتي التي هناك .. كم هي لهفتي كبيرة لمعانقة الربى من جديد و مجالسة الجداول والشرب من المنبع الصافي .. و الركض بين الوديان المكسوة بالغابات الكثيفة .
على قمة الجبل أنظر .. إلى هناك .. حيث الكوخ الصغير و المركب المائل على الرمال .. يبدو لي شيء يتحرك ، فيتحرك قلبي معه .. ويطغى حبي له فتدمع عيني رغما عني ..
وداعا أيه الشيخ الجليل .. قد يكون وداعي لك أبديا ، وقد تسعفني الأقدار في لقياك و التملي بمحياك .. وداعا أيها الشاطئ الطيب .. سوف أعود يوما لأستلقي على رمالك و أنعم بمياه بحرك ..
الآن .. كل شيء اختفى عن بصري .. فلم أعد أرى إلا الجبال تحف بي من كل جانب .. هناك طريق يمتد إلى اليمين .. هل أسلكه و أعرج على منزل صديقي الراعي لأطمئن عليه أم أن لهفتي لمعانقة عشي ستدفعني لأحث الخطى كي اصل سريعا ؟
[/align]
|
|
|
|