06 / 03 / 2010, 21 : 03 AM
|
رقم المشاركة : [21]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
19
[align=justify]
هل حقا كان حديث الشيخ كافيا لكي يجعلني أنظر إلى الأمور بطريقة مختلفة و أصرف النظر عن كل شيء أم أنني فقط كنت أغالط نفسي وأتجاهل مشاعري الدفينة التي استطعت كبتها لفترة ؟ ..تساؤلي هذا ظل يلح علي و أنا أوغل في الغابة التي تغطي الجبل بكثافة فلا تسمح برؤية أي شيء .. إلا إذا اعتليت صخرة من الصخور الناتئة هنا وهناك ..غير أني مع تجاهلي لأحاسيسي المكبوتة ، كنت لا أمنع نفسي من الالتفات بين الفينة و الأخرى متوقعا أن أرى غادتي تسرع الخطى لتلحق بي .. فينتعش صدري و تتأجج أحلامي .. بل إني كثيرا ما تمنيت أن أكون حالما لأستيقظ و أجد نفسي متجها نحو البحر لألتقي بها هناك على الشاطئ و أعود بها .. وربما نسيت أو تناسيت أنها لم تغب عن ذهني قط .. فكان كل جذع شجرة يذكرني بقوامها فأهرع إليها ألقي بنفسي عليه و أحضنه بكل ما أوتيت من قوة ، وكانت كل حركة من أوراق العرعر و الصنوبر تحيل ذاكرتي غلى شعرها المتموج مع الرياح .. بل كثيرا ما استلقيت على ظهري وسط حقل من حقول الذرة التي تتوسط الغابة و أوراقها تداعب وجهي .. وكل حفيف لهذه الأوراق كان يجعلني أنتشي كأنما كنت استمع إلى أنفاسها وهي تهمس في أذني ..
الآن تأكدت أنني لن أنساها و لن أتخلى عنها .. فهل أعود أدراجي و أنحدر من جديد إلى الشاطئ ؟ .. حائر أنا وسط هذه الغابة .. لا يجيبني سوى رقرقة مياه جدول صغير ينساب بين الأعشاب .. يتناهي إلي نباح كلب فيخفق قلبي طربا .. معنى هذا أن أحد الرعاة قريب مني .. وربما يكون رفيقي .. يا إلهي كم اشتقت إليه و لنظرته الحزينة .. في نفسي شوق كبير لمعانقته و مبادلته الحديث .. أحس بلهفة لمعرفة كل شيء عنه و عن محبوبته ، أو ربما كنت أنا في حاجة لأنفس عن صدري ما يعتلج فيه من مشاعر القنوط و الأمل ..
وعلى غير وعي مني ، سلكت طريقا يؤدي إلى الكوخ .. ممنيا النفس بلقاء الراعي الطيب .. وشعرت في لحظة أن مجرد اللقاء به و محادثته سيعيد إلي البسمة التي افتقدتها منذ مدة ..
أقفز بين الصخور و أمد يدي لألمس بعض الأغصان المتدلية نحوي كأنها تحييني .. وأنزع حذائي و مسكه بيدي ثم أشمر عن ساقي و أعدو وسط الجدول فأثير رذاذا حتى يبلل ركبتي .. منذ متى لم أحس بكل هذه السعادة دون أن أدري مبعثها ؟.. هناك إحساس دفين يتردد صداه في قلبي ممنيا نفسي بشيء تشتهيه و تتلهف إليه ، و إلا فما هذا الحبور المفاجئ الذي غمرني وأنا الذي كنت لساعات فقط فريسة القنوط و اليأس ؟
انقلب كل شيء رأسا على عقب .. وصرت أتخيل ما أتمناه و أحلم به قاب قوسين أو أدنى مني ..
عرفت الآن أن حبي لغادتي لم يتغير قيد أنملة .. بل زاد تأججا .. و إنما كانت مغادرتي لها وهي على الشاطئ مجرد انفعال ليس إلا .. بل كان لا وعيي يتوقع أن أجدها من ورائي تقتفي أثري .. هل كان ذلك غرورا مني ؟ .. ربما .. ولكني متيقن الآن أنني متلهف إليها و غير مبال بصدها أو وجومها .. قد أكون أخطأت في عدم الإنصات إليها إلى آخر المطاف .. وكان علي الصبر و الأناة لمعرفة كل شيء .. تسرعي أفسد كل شيء وفوت علي فرصة الاطلاع على حقيقة تصرفها معي .. هي ولا شك قلة تجربة لي في مجال العواطف .. وانعدام خبرة في عالم المرأة .. كم كان الشيخ العجوز يتكلم عمن أحب بثقة رغم أنه لم يحدثني طويلا عنها .. ترى كيف كان حبه وطريقة تعامله معها قبل و بعد الزواج بها ؟
الأسئلة تتضارب في ذهني و أنا أشرف على الكوخ .. لا أحد هنا .. لكن قشور البرتقال عند الباب و تناثر بعض قنينات العصير تنم عن تواجد رفيقي منذ لحظات قليلة هنا .. سأحث الخطى لأدركه قبل أن يصل إلى بيته .. حتى يتسنى لي التحدث إليه بكل حرية ..
- فعلت حسنا بعودتك ..
التفت إلى مصدر الصوت لأجده واقفا غير بعيد واضعا عصاه فوق كتفه وقد وضع كلتا يديه عليها .. قهقهت عاليا و أسرعت إليه أضمه قائلا :
- ألا يمكن أن تتركوا أحدا يرتاح من خلقتكم أيها الرعاة ؟
قهقه بدوره وهو يربت بشدة على ظهري وقال :
- ألا يمكن أن تريحوا الغابة و أهلها من إزعاجكم أيها المتطفلون ؟ ..هيه.. قل لي أيها العاشق الولهان .. ماذا تم من أمرك ؟ وأين الأمانة التي ذهبت لتأتي بها ؟
- بل أنت حدثني عن الأميرة ابنة ولي نعمتك .
- هي هناك تنتظر عودتي على أحر من الجمر .. و أنا أتدلل لأصل متأخرا ..
ضحكنا معا و انحدرنا حيث كان القطيع يتجمع ليأخذ وجهة البلدة الصغيرة وقد أخذ المساء يتلون بصفرة بهيجة .. صفرة كانت ستبعث في نفسي انقباضا لو كنت في موقف غير هذا ..
صديقي الراعي يعيش الحلم كما أعيشه .. بل إن حلمه أقرب للغرابة .. كدت لا أصدق ما رواه لي عن أن فتاته متعلقة به لولا معرفتي بصدقه و سلامة طويته .. كيف ؟ .. هذا ما حدث .. صار يجدها لدى عودته من المرعى خارج البلدة متذرعة تارة بالتنزه ، وتارة بالبحث عن عنزتها المدللة ، و أحيانا بانتظار عودة أبيها من السوق الأسبوعي فيحييها و يلحظ حمرة وجنتيها .. ثم صارت تبحث عنه لتشكو إليه مرض عنزتها أو هروب جدي من الحظيرة حتى صار يشك في أنها هي التي أطلقت سراحه ..
صديقي لا يبدو عليه أنه سعيد بهذا التحول لدى محبوبته .. بدا لي رزينا وهو يحدثني بتلقائية عما حدث ..
- ها قد نلت المبتغى .. ماذا تريد أكثر من هذا ؟
- أي مبتغي يا أخي ؟ .. هل أنساق مع عواطف فتاة لا تعرف من الحياة شيئا ؟ .. حسنا هي تحبني و لا يمر يوم دون أن تأتي لتراني .. وبعد ؟ .. هل تظن أن كل شيء انتهى ؟ .ز ألا ترى وضعي ووضع أسرتي المتأزم ؟.. لا وقت لي للحب .. رغم أني أعيش هذا الحب .. لكني لا أتركه يبدو للعيان .. ولن يرى النور حتما .. فمثلي لم يخلقوا إلا للشقاء و الضنك .. لكن الحمد لله على كل حال و أنا راض بما قسمه الله لي .
- لا تيأس .. الله قادر على تغيير الأحوال .. و أنت شاب طيب وشهم ..
حديثنا لم ينته ونحن نلج من جديد البيت ليستقبلنا الإخوة وقد انتفى عنهم الشعور بالرهبة التي انتابتهم في المرة السابقة .. بل و أقبل أصغرهم مادا يده إلي بتفاحة لم يبق منها سوى القليل ..
من جديد أجد نفسي أمام مشهد يزخر بالحب رغم البؤس .. لا شكوى و لا زجر و لا تذمر .. وكأن الكل عرف ما له و ما عليه .. حتى الصغار تصرفوا و كأنما حفظوا دورا أملي عليهم .. والأب الذي لم يتسن لي لقاءه سابقا بدا لي أهدأ من الجميع .. كثير التأمل .. لا تفارق البشاشة وجهه .. كان يأمر دون أن يتكلم و ينهى بدون إشارة .. بينما زوجته تصول و تجول بين الحجرات ومن خارج البيت إلى داخلة في حركة لا تعرف الكلل ولا الملل .. تبدو كخادمة ، لكنها محور كل شيء .. تشبه زوجها في أمره و نهيه دون أن يصدر عنها صوت ..
أتى دوري لأشبع فضول صديقي .. و أحدثه عن غادتي وعن الشيخ و ما جرى على الشاطئ .. لم يقاطعني و إنما اكتفى بهز رأسه و الابتسام كعادته .. ولم أجد حرجا في الحديث بعفوية .. وشعرت بحماسي يزداد مع ازدياد أملي في أن يتغير كل شيء دون أن أعرف كيف و متى .. كل ما أدريه هو أن عودتي هذه لا بد و أن تتكلل بما يسر .. وأن مفاجأة تنتظرني في عشي .. فهل كان تلكئي في الوصول بعد أن كنت أتحرق شوقا لمعانقة أشيائي العزيزة هناك ، مبعثه الخوف من خيبة الأمل ، أم لتمديد فترة الاستمتاع بهذه الطمأنينة التي تشملني أطول وقت ممكن ؟ ..
في بعض الأحيان يعتريني شعور أنني سأجد هذه المفاجأة في عشي أو في طريق عودتي ، بل أحس أنها قريبة مني وتحوم حولي كلما خرجت مبتعدا عن بيت صديقي ..
اليوم نحن على موعد مع باقي الرعاة لنتغذى في قمة الجبل .. أسر لي صديقي أننا حين نعود سوف أرى محبوبته في انتظاره .. وهذا ما أجج فضولي .. سأرى أخيرا تلك التي سلبت قلب الراعي الطيب .. وصرت منذ الآن أقارن بينها و بين غادتي رغم أني لم أر الأخرى قط .. لكن خيالي دائما ما يسرح بعيدا ..
[/align]
|
|
|
|