عرض مشاركة واحدة
قديم 06 / 03 / 2010, 28 : 03 AM   رقم المشاركة : [22]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: عش رشيد الميموني الدافئ

[align=justify]

20


في هذه اللحظة و أنا وسط الرعاة نتحلق حول قصعة حوت أرنبا بريا ومرقا و بطاطس ، نسيت كل شيء واندمجت في حديث تقطعه بين الفينة و الأخرى قهقهة أو ترنيمة .. جو ممتع و بعيد عن كل كلفة و كأننا أصدقاء من عهد بعيد .. وأجمل ما انتبهت إليه هو خلو الحديث من أي تعريض بأحد أو الشماتة به حتى وهو يبتعد عنا بحثا عن الماء أو حطب لتبقى النار مشتعلة .. الكل يترنم بأغنيته ، بل يكمل ما بدأه صاحبه وكأنهم يتناوبون في نظم قصيدة غزل .. وأتساءل في صمت : هل يعيش كل واحد من هؤلاء البسطاء الطيبين حكاية حب مثلي ومثل رفيقي ، أم أن ترنيمتهم عفوية تنطق بها سجيتهم البدوية الميالة للحب العشق العذري البريء ؟ بيد أني ما لبثت أن عدت إلى واقعي وهاجت في لحظة أشجاني فأبديت لصاحبي رغبتي في العودة إلى البيت متعللا بالتعب .. نظرته إلي توحي بأنه فهم ما أحس به فنهض ينفض يده و ينتزع ما علق بين أسنانه من لحم بواسطة أعواد رقيقة كان يشذبها بعناية و نحن جالسون قبل الغذاء ..
ألقينا التحية على الباقي من الرعاة ثم انحدرنا نحو البلدة التي كانت تبدو لنا من بعيد بدورها القليلة المتناثرة . الأصيل يزيد من هيبة الطبيعة وهي تستعد لمفارقة الشمس الجانحة نحو المغيب .. لم نقل أية كلمة .. وقع خطواتنا يبدو رتيبا وسط هذا السكون الشامل .. ما الذي يفكر به صديقي ؟ هل يشاركني ما أحس به من لوعة أم أنه غارق في معاناته التي لا يرجو من ورائها شيئا ؟
تمر بنا مجموعة من الغيد وهن يحملن جرارا ملأنها بالماء عند المنبع .. يطرقن وقد اضطربت خطواتهن ، حتى إذا ابتعدن تناهت إلينا ضحكاتهن .. كنت متلهفا للتحديق في أية واحدة منهن لعلي أجد من يحبها رفيقي، لكن إعراضه و اكتفاءه بالرد باقتضاب على تحيتهن أوحى لي أنها ليست بينهن . بصره شاخص نحو المنعرج المؤدي إلى المنبع وقد بدا الطريق كدرب وسط صفين من أشجار السنديان ..
- هل نستريح قليلا ؟
أجبت بحركة من رأسي .. فصعدنا على تلة بجانب الطريق وهي تشرف من جهة على المكان الذي مرت به الفتيات منذ قليل و من الجهة الأخرى على البلدة .. و أمامنا امتدت المروج بعيدا حتى سفح الجبل الجاثم على شكل هرم و قد غطته الغابات كليا .. مرور القطعان لا ينتهي عند أسفل التلة ، وفي كل مرة أجد نفسي أرد بالتحية على صاحب القطيع وقد بدا التعب على وجهه .. بينما كان صديقي يرد على استفسار البعض عن ولادة عجل أو مرض بقرة ..
ومع أفول آخر شعاع من الشمس ، لمست حركة لا إرادية من رفيقي ، فوجدته يلتفت نحو المنبع .. هناك انبرت فتاة متوسطة الطول .. تمشي الهوينى وهي تترنم ببعض الأهازيج المعروفة في المنطقة .. ابتسمت في سري و أنا أحدق في صديقي وهمست له :"شمس تغيب و شمس تشرق.." .. ابتسم رغم شروده ، وحول بصره نحو الجبل بينما تتبعت أنا خطوات الغادة المقبلة نحونا وملامحها تزداد وضوحا .. شرد ذهني وزادت دقات قلبي .. يا إلهي .. لولا أني تركت غادتي هناك على الشاطئ لخلت أنها هي بلحمها ودمها .. نفس العينين .. نفس الشفتين .. نفس القوام الذي أبرزه تمنطقها بمنديل مخطط بالبيض و الأحمر.. حتى الشعر المطل من تحت شاشيتها العريضة ينم عن غجريته .. حتى مشيتها كانت تحاكي مشية غادتي و تضاهيها رشاقة .. هل يمكن أن يكون التشابه إلى هذا الحد ؟
أيقظني صوتها وهي تحيي رفيقي وقد بدت على محياها علامات الانزعاج ، ربما من تواجدي .. هل كانت تمني نفسها بلقائه وحيدا لتعترف له بشيء ما ، فجئت أنا وأفسدت كل شيء ؟ .. حز في نفسي أن أكون سببا في إفلات مثل هذه الفرصة وتفويتها على محبين .. لكن صديقي هو الذي أتى بي إلى هنا لأراها .. فلا مجال للوم النفس .
رد التحية عليها باقتضاب ، ثم قال :
- ألا تحيين ضيفنا ؟ ..
- مرحبا بالضيف الكريم .. على الرحب و الساعة .. هل هو باق هنا مدة أطول ؟
نظر إلي صديقي فارتج علي ولم أدر ما أجيب لشدة وقع أثر صوتها علي، لكني استطعت بعد جهد جهيد أن أقول :
- سوف أغادر البلدة غدا إن شاء الله ..
- هل أعجبتك منطقتنا ؟ ..
- بلدتكم جنة ..
ضحكت فزاد اضطرابي ، ثم توجهت بالحديث إلى الآخر :
- هل التقيتم بأبي ؟ .. لن يتركه يرحل قبل ثلاثة أيام من الضيافة .. و أنت تعرف هذا .. لن يسامحك ..
أجاب صديقي بالنفي وقد علت الحمرة وجنتيه .. أضحكني موقفنا و اضطرابنا أمام غادة في مقتبل العمر.. وعذرت لصاحبي ذلك .. لكن ماذا علي أنا ؟ .. وما سبب ارتباكي ؟ ..
غادرتنا الفتاة و نحن نحدق تارة فيها .. نتابع خطواتها كالبلهاء .. وتارة نحدق في بعضنا البعض .. كنا واقعين تحت ما يشبه السحر .. وفي لحظة انفجرنا ضاحكين ونحن نشد على يدي بعضنا بشدة .. وقلت :
- معذور و الله يا صديقي .. كنت أعرف أنها رائعة لكني لم أكن أتوقع مثل هذه الروعة ..
- حقا ؟ .. ولكن .. كما ترى .. لا أمل .. أعيش على الوهم و أعرف أنه وهم ..
أردت أن أذهب عنه ما اعتراه من غم فقلت ضاحكا :
- حسنا .. مادمت تعرف أنه وهم و بما أني فشلت في أقناع غادتي بمرافقتي .. فأنا الأولى بها الآن ..
التفت إلي شاردا وهو يبتسم قائلا :
- حقا .. لقد لاحظت سهومك و أنت تنظر إليها .. ما الذي جذب اهتمامك ؟
أربكني سؤاله و خشيت أن اذهب أفكاره بعيدا فقلت :
- غادتك رائعة يا صديقي .. وقد وجدت تشابها بينها و بين غادتي .. وأنا أرى في هذا فألا حسنا في ما ينتظرني هناك في عشي .. هل أصارحك بشيء ؟
- قل ..
- لدي إحساس بأنك ستفوز بها .. كل الشروط متوفرة .. و أهمها حب الفتاة لك .. المهم أن تعرف كيف تتصرف لتحقق أمنيتك و تذهب عنك هذا الإحساس باليأس الملازم لك .. قم و انفض عنك غبار القنوط وافتح ذراعيك للدنيا .. و أطلق عصافير حبك تصدح شدوا .. واترك الأمل و التفاؤل يغزوان قلبك .. تفاءل بكل شيء واعلم أن ما قدره الله سيكون شئت أم أبيت ..
هل كنت أحدث نفسي عبر صديقي .. هذا ما بدا لي وأنا أسترجع ما قلته حين أطفئت الشموع وأخلد الجميع إلى النوم .. بقيت جالسا على حافة السرير الخشبي أتطلع إلى الكوة وقد ساد الظلام و ازداد حلكة مع اقتراب السحر .. كنت أتخيل البدوية مارة قرب البيت وهي تتطلع إلي بعينيها النجلاوين .. فتصيبني رعشة و أهم بسؤالها .. عماذا أسألها ؟ .. هل تعرفين فتاة تشبهك و تقيم على الساحل ؟ .. يا له من سؤال غبي ؟ .. ستكتشف أنني أسألها فقط لمجرد السؤال أو لغاية ما بنفسي ..ما الذي حدث لي ؟ ..هل أكون وقعت بشركها ؟ هذا محال .. لأني لا زلت أهفو إلى الشاطئ و من تلازم الشاطئ .. هل يكون لتشابهمها سببا في تعلقي بغادة رفيقي ؟ .. هذا محتمل .. لكنه تعلق بالأخرى عبر هذه .. صرت أتفلسف وقت السحر .. هل ينتهي بي كل هذا إلى الجنون ؟
الفجر يبزغ و أنا أنظر عبر الكوة إلى الخارج الذي بدأ يتنفس على وقع نور الصباح .. تبدأ حركة العصافير و زقزقتها إيذانا بعودة الحياة إلى إيقاعها المعتاد .. و تصدح الديكة في تناد متواصل .. ليسمع وقع حوافر القطعان و هي تخرج للمرعى .. تدب الحركة في البيت وتملأ خياشيمي رائحة القهوة و البيض المقلي ..
أجلس مع الأسرة وأجيل النظر عبر أنحاء البيت ثم أتطلع إلى ما يحيط به كأني ألقي نظرة وداع أخيرة .. إلحاح الأسرة كبيرها و صغيرها على البقاء لمدة أطول يحرجني وأنا المتلهف للوصول سريعا إلى عشي.
الجو أصبح غائما وغطت السحب قمم الجبال .. حدثني صديقي عن أخبار تناقلها الوافدون من ناحية عشي أن العاصفة كانت قوية في بعض المناطق و أن السيول جرفت معها الكثير من الأشجار .. فتمثلت لي دوحتي شامخة لا يؤثر فيها إعصار ولا سيل .. لكن بالي لبث مشوشا على عشي و عش العصفورين .. وقلقت لمصير البوم .. فكان هذا حافزا لي على مغادرة البلدة بأسرع وقت ممكن حتى أقف على حجم الدمار الذي خلفته العاصفة ..
العناق و البكاء و التواعد على تبادل الزيارات كان آخر ما ميز فراقي عن صديقي العزيز .. شددت على يديه و أنا أنظر بقوة إلى عينيه محاولا أن أنفث فيهما قوة .. لكني كنت أيضا أحوج ما أكون إلى من يزرع في آمالا بقرب تحقيق مناي ..
مع وصولي إلى آخر قمة تشرف على عشي كانت السحب قد بدأت بالانقشاع .. فصرت أحدق نحو الأسفل حيث انتصبت الدوحة في إباء .. لكني لم أستطع تمييز ما يحيط بها .. فأسرعت بالانحدار وقد عاد إلي الشعور بالابتهاج .. أخيرا عدت إلى عشي الذي طالت غيبتي عنه .. سأتعهده من جديد و أهتم بشأنه أكثر من أي وقت مضى .. وها أنذا أسير على ضفة النهر الصغير الذي يمتد هناك حتى يحاذي الدوحة ليميل نحو اليمين و ينزل شلالا ..وجدت في طريقي أكوام من الحجارة التي جرفتها المياه و أكوام من الطين الذي لم يجف بعد ، لكن الذي لفت نظري هو انتفاء أي أثر للدمار بالقرب من شجرتي .. بل أحسست كأنما يد خفية امتدت لتزيل كل أثر لذاك الدمار .. حتى شجرتي وجدت عليها لمسة رقيقة تتمثل في طلاء جذعها بالجير الأبيض وكذلك بعض الأحجار التي صفت عن اليمين و الشمال لتشكل ممرا أنيقا نحو المنبع و آخر إلى البيت . عجبا .. من كان يظن أنني سوف أجد كل هذه الأناقة التي تحف بعشي بعد العاصفة التي تحدث عن قوتها الكثيرون ؟ .. أسرعت بتسلق شجرتي لأجد عشي بأبهى ما يكون من حلة .. بينما احتضن الغصن المقابل له عشا خشبيا طلي بالبياض أيضا .. ومن داخله بدت لي كومة صغيرة من التبن وبعض العيدان وقد توسطتها ثلاث بيضات صغيرة .. كدت أطير فرحا .. و أسرعت بالنزول لأتابع الاستكشاف .. كأنني أعيش حلما .. لكن داخلي كان يهتف و يصيح : لا .. ليس هذا بحلم .. بل حقيقة .. اجر و اركض واستمتع ..
وجريت و ركضت و استمتعت بمعانقة كل ما تركته .. الربى .. الجداول .. المنبع .. حتى وصلت إلى حافة الشلال لأجلس لاهثا أنظر إلى الوادي وقد غمرني فرح لم أشعر به قط من قبل ..
السكون يبعث في نفسي طمأنينة .. وهدير السيل هناك في الأسفل يشعرني بقوة ..
- هل أعجبك منظر عشك ؟
لم ألتفت .. فقد هبت نسمة محملة بأريج مألوف عندي لتملأ خياشيمي .. وتلقى مسمعي صوتا ليس غريبا عني .. فأحدث هذا خدرا في جسدي ولبثت مطرقا أعبث ببعض الحصى .. بينما كانت بداخلي قوة هائلة تدفعني للنهوض والانقضاض على صاحب الصوت .. أو على الأصح .. صاحبة الصوت .
[/align]
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس