عرض مشاركة واحدة
قديم 06 / 03 / 2010, 31 : 03 AM   رقم المشاركة : [23]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: عش رشيد الميموني الدافئ

21




في كثير من الأحيان ، تتبدى لنا الطبيعة بألوان نميزها دون عناء ولا يشكل لنا ذلك أية صعوبة .. فالأخضر اليانع أخضر ، و الأصفر الفاقع أصفر ، و الأحمر القاني احمر . ونفس الشيء ينطبق على ما يحيط بنا من جبال شاهقة تكللها الثلوج وروابي تتعانق في ما بينها ومروج تهتز وتربو محتضنة جداول و غدران تصطبغ بلون السماء .. حتى الأصوات تكاد تكون مألوفة من هبوب رياح وحفيف أوراق وخرير مياه و زقزقة عصافير و هدير نهر ونقيق ضفادع ..
لكن كل هذا اختفى في لحظة و أحسست أنني أعيش في عالم تنتفي الأصوات فيه و الألوان .. بل إن جميع الأصوات اجتمعت و امتزجت لتشكل ترنيمة غريبة .. و تداخلت كل الألوان لتحيك خيوطا متشابكة .. هل هو الأصيل أم هي ساعات الصباح الأولى ؟ .. هل أعيش السحر أم بداية المساء ؟ .. ترن في أذني عبارة "هل أعجبك منظر عشك ؟ّ" .. فلا أدري هل أستدير و احتضن من نطقت بها أم ألزم مكاني لأنتظر .. أنتظر ماذا ؟ .. هل هو الخوف من أن تتكرر التجربة الأولى من جديد فلا أمسك إلا بسراب ، لتبدأ معاناتي من جديد و أتيه في دوامة من الوهم ؟ ..
يطول الصمت و أحس بالحرج .. هي ولا شك تنتظر مني جوابا و إلا فسرت صمتي بجفاء و نفور فأكون بذلك قد أهنتها ، وربما تختفي إلى الأبد .. ولكني في قرارة نفسي و مع خوفي من أن أستدير و لا أجدها كنت تحت تأثير قوة لا قبل لي بها ، تدفعني لكي أمارس لعبة التشفي و .. لم لا .. الانتقام ؟
هكذا إذن طفت أحاسيس طالما تجاهلتها و داريت حدتها .. أحاسيس تتقد غضبا و ثورة لم يطفئها إلا حديث العجوز بهدوئه و حلاوة سرده .. لكن ذلك كان مؤقتا فقط .. والآن لم يعد هناك ما يمنع من أن تطفو من جديد وأرد الكيل كيلين و الصاع صاعين .. لكن .. هل من شيمة المحب الانتقام و التشفي ؟ .. وهل كنت أنتظر هذه اللحظة بلهفة و شغف لكي أصفي الحساب مع من ملكت القلب و الروح ؟ وهجرت من أجلها عشي و جبت القفار و الغابات و سلكت الوديان كي أصل إليها وأعود بها ؟ .. ماذا أنتظر ؟ .. أن تركع أمامي متوسلة منتحبة ؟ لا لشيء إلا لأرضي غروري و نزعة التسلط الكامنة في قرارة نفسي ؟ .. هل يهون علي رؤيتها بذلك الانكسار و التذلل و أنا لا أعرف من الحب إلا الأنفة و الشموخ و العزة ؟ .. ثم من يضمن لي إن هي استعطفت و اعتذرت ألا ينقلب حبي لها و عشقي إلى شفقة ؟ .. و الشفقة كما يقال دخان الحب .. فإذا انجلى الدخان ، لم يتبق من ورائه إلا رمادا دافئا يبرد مع مرور الوقت .. علي إذن أن أتصرف سريعا و أتخذ موقفا واضحا .. فإما أن أدخل متاهة اللوم و العتاب وأستسلم لشيطان التحدي و العناد ، و إما أن أسامح و أعفو لتصفو الحياة و نعيش في وئام ..
- لقد زاد بهاء وكان محتاجا لذلك منذ زمان ..
رغم ما حرصت عليه من نبذ اللوم فإني وجدت نفسي أحشو الكلام به دون أن أعي ما أقول .. الصمت يزيدني عذابا .. لحد الآن لم ألتفت إليها .. ترى هل لا زالت بجانبي أم أنها رحلت ؟.. إن كانت فعلت ذلك فعلي و على الدنيا السلام .. سأهجر كل شيء و أعتكف في ذلك الكهف و أعزف عن كل مباهج الدنيا .. لا حب ولا عشق ولا أي شيء من هذه التفاهات .. يمر لقلاق متجها نحو عشه فوق برج عتيق فتسنح الفرصة و أنا أتابعه لأحيد ببصري إلي يميني وقلبي يزيد خفقانا .. لا أحد بجانبي .. هذا ما كنت أخشاه و أتوقعه .. ضاع كل شيء .. فقط بسبب أنانيتي وغروري .. هذه نهاية حتمية للغرور و الاعتداد بالنفس .. يا إلهي ما أشقاني .. ما العمل الآن ؟
التفت بعنف نحو عشي القابع هناك فوق الشجرة فاستبدت بي رغبة جامحة في تدمير كل شيء .. وبدا لي الممر المجير بالأبيض وكأنه أفعى تهم بلدغي .. اسودت الدنيا في عيني و نهضت وقد تبددت كل الألوان و اختفت كل الأصوات فلم أعد أرى إلا السواد ولم يعد يطرق أذني سوى طنين خلته آتيا من عالم آخر .. أصوات هي شبيهة بنعي .. هي النهاية كما أظن .. لأرحل من هنا فورا .. لكن قبل ذلك لألقي نظرة وداع أخيرة على شجرتي و عشي .. إذ رغم ما طاف بذهني من فكرة التدمير فإني أحسست بالشفقة عليهما .. العش ينظر إلي بحسرة و كأنما علم مآله .. و عش العصفورين الخشبي استكان في حزن فلم يبد منه ذاك البياض الناصع ..
تأملته في صمت واقتربت منه كي أنظر إلى داخله ففوجئت بالعصفورة جالسة تحتضن بيضاتها .. لم تهرب ولو يبد عليها أنها انزعجت من حضوري .. فقط بدرت منها حركة فهمت منها أنها تستجمع البيض كلها تحتها لتحس بها و تنفث فيها دفئها .. ظلت ترمقني تارة بعينها اليمنى و تارة بالأخرى فابتسمت لها .. لكنها ابتسامة لا معنى لها ، إذ كان ذهني شاردا و أفكاري مشتتة . مددت بأصبعي أداعب منقارها فنقرته بخفة كأنها تستجيب لمداعبتي .. بل أطبقت عليه وهي تلويه يمينا و شمالا .
استلقيت على الغصن المقابل و أنا أنظر إلى الأسفل .. شعرت برغبة ملحة في التمشي نحو المنبع فنزلت واتجهت نحو المنبع .. لم أسلك الممر ، لكني حاذيته وأنا أتحاشى النظر إليه .. المكان يترقرق ماء و قد علا خريره حتى لا يكاد يسمع صوت آخر .. ينساب الماء بين الصخور فأختار إحداها و أجلس .. تأخذني سنة ويتابع بصري حركة الماء دون أن أعي ذلك ..
- يبدو أن العش لم يرقك بمنظره الجديد ..
في هذه المرة التفت يمينا و شمالا .. ثم نظرت إلى الخلف لأجدها على صخرة قريبة .. كانت تبتسم وكأنها تعلم ما يعتلج بداخلي ..
- حقا .. شيء رائع .. لم أكن أتصوره بهذا البهاء ..
- و المسلك الذي طليته بالأبيض .. لم تحاشيت المرور منه ؟
ارتج علي لحظة ، ووجدت نفسي أجيب دون تردد :
- خفت أن أفسده .. ربما كنت أنتظر أن نسلكه معا ..
يبدو أن جوابي أعجبها ، فمالت برأسها لتخفي ابتسامة ارتسمت على شفتيها ..
- هل أنت غاضب مني ؟
- غاضب ؟ .. معاذ الله .. من قال لك هذا ؟
- تلكؤك في الرد علي حين سألتك في المرة الأولى عن العش .
- كنت فقط تحت وقع المفاجأة .. لكن قولي .. كيف ومتى أتيت إلى هنا ؟
ضحكت ضحكة أخذت بمجامع قلبي ومادت بي الأرض حتى خشيت أن يغلبني الدوار و أسقط وسط الماء ..
- لذلك حكاية طويلة سأرويها لك عندما تحكي لي ما جرى لك منذ رحيلك عن الشاطئ ..
تعود الألوان لتشرق من جديد .. وتعود الأصوات كما كانت ، ونحن نغادر المنبع نحو عشي .. عفوا عشنا، وقد لزمنا الصمت و تركنا ما حولنا ينوب عنا في انتقاء الكلمات .. كانت تسير بجانبي دون أن أحيد النظر عنها وكأني أخشى أن تختفي فجأة ، أو أستيقظ من حلم فأجد نفسي عند صديقي الراعي أو في بيتي .. لكنها ظلت معي .. لم تختف .. وكانت تختلس النظر حين ألتفت إلى جهة لأريها شيئا .. و أفاجئها وهي تحدق في فتحمر وجنتاها و أخال الشفق قد اصطبغ بحمرتهما ..
كنا نسير على غير هدى .. نذرع الحقول ونصعد تلة تشرف على الوادي فيثير فينا منظره أحاسيس أعجز عن وصفها .. أشعر أني ممسك بزمام حبي بقوة حتى لا يفلت مني ..
- هل أنت سعيدة معي ؟
لم تجب و إنما كان كل شيء يصيح بداخلها ما يغني عن الجواب . كنت متلهفا لسماع صوتها ، لكن من حولي كان يرن صدى كلامها الصامت .. ووجدت نفسي أسال من جديد :
- ألا زلت خائفة مني ؟
- بصراحة .. أخاف من هذا الحب ومآله .. كنت أخشى أن يأتي يوم أتساءل فيه .. وماذا بعد ؟ .. أحسست أن الانتظار و الأمل في اللقاء مع ما يحمله من معاناة خير من اللقاء و التوجس من الأتي المجهول .. أحاول ما بوسعي أن أبعد عني هذا الشعور بالخوف ..
سكتت قليلا وعضت شفتيها كأنها تتردد في قول شيء يحيرها ثم سألت :
- ألم يساورك نفس الشعور ؟ لم لا تبوح لي بكل شيء ..
لم أرد .. كنا على مشارف العش ونحن عائدين من جولتنا .. وهناك في أعلى الشجرة وقفت عصفورتي وبجانبها رفيقها وهما لا يتوقفان حركة و زقزقة .. بينما كان آخر سرب من الطيور يجوب السماء في رحلة عودته المسائية .. تفاءلت بعودة العصفور وزاد انشراح صدري .
- طبعا سأبوح لك بكل شيء مادمت ستفعلين مثلي .. لكن .. لتعلمي فقط أني رغم غيابك ورغم خيبة الأمل التي عدت بها من الشاطئ .. ورغم إحساسي بالقهر و القنوط ..
ران الصمت و أحسست بها متلهفة لسماع بقية الكلام ..
كنت منشغلا بالنظر إلى العصفورين وقد تشابك منقاراهما .. وعلت زقزقتهما .. فابتسمت و نظرت إليها لأجدها تبتسم مثلي وقد دمعت عيناها وعادت الحمرة تصبغ وجنتها وجدائل الشعرالغجري يغطي جزءا منها. وهناك في الأفق كان الشفق يتخذ لونا أرجوانيا ساحرا .
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس