06 / 03 / 2010, 30 : 07 PM
|
رقم المشاركة : [32]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
والآن ماذا تبقى لي سوى عشي وعصفوري الإثنين وما يحيط حوالي من هضاب و جبال غارقة في صمت قاتل ؟ و كأنما استوحشت وجومي واستثقلت شرودي و أنا أهيم على وجهي تارة عبر المروج المثقلة ماء بعد العاصفة الأخيرة ، وتارة بين الوديان الموغلة في الغابات الكثيفة ، أو على صخرة تعتلي قمة الجبل الجاثم في جبروت على الوادي الهادر .. تلازم صورتها البهية مخيلتي في حلي و ترحالي و أقضي وقتا في تأملها مغمض العينين فتتراءى لي كحورية تزهو بحسنها الأخاذ وبهائها المنقطع النظير ..
انتهى كل شيء .. على الأقل في المستقبل المنظور .. وصار علي أن أنتظر شهورا أو سنين ، و ربما دهرا قبل أن تجود علي الأقدار ببلسم يشفي جراح نفسي المكلومة .. بلقاء صار يبدو لي الآن أقرب منه للخيال أو بنسيان ينقذني من أتون هذا الذي يسمونه حبا .. ما الذي جعلني أقحم نفسي فيه كغريق لا يعرف من السباحة شيئا ؟.. ماذا جنيت على نفسي غير الوهم و الجري وراء السراب ؟ .. لماذا تركت غادتي ترحل ولم أتشبث بها رغم إلحاحها ؟.. ربما كانت فقط تجربني ، وحين رأت انسياقي مع رغبتها ، لم تجرؤ على تغيير قرارها ؟.. لكن كم كان علي أن أحلل و أفسر أدق تفاصيل تصرفاتها ؟.. ألا يكفي ما عانيته من فراق كاد يعصف بكل آمالي ؟ هذا إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل .. ثم ، لم أحمل نفسي دائما تبعات هذا الذي يحدث و أنا الذي أهفو دائما إلى اللقاء و أعزف عن الفراق ، بينما هي تكون دائما من وراء كل هذا الذي نعانيه .. أو على الأصح أعانيه أنا لوحدي ؟ .. أنى لي السلوان الآن وقد غدوت كالمجنون ، أعتلي القمم لأنظر إلى الأفق ؟
أنصت لعقلي فأجد نداء بالتعقل و نبذ الأوهام .. و أصغي لقلبي فأسمع نحيبا و توسلا فأترنم :
أنت قلبي فلا تخف
و أجب : هل تحبها ؟
و إلى الآن لم يزل
نابضا فيك حبها ؟
لست قلبي أنا إذن
إنما أنت قلبها ..
وأستعيد ذكرياتي فلا أجد غير الآلام و الأحزان رغم فترات من السعادة العابرة و الخاطفة مع غادتي .. هل تتلذذ بعذابي أم أنها تتعذب مثلي ؟ لم كل هذا ؟ .. لا افهم .. يقولون إن المرأة صعبة الفهم و نزواتها أكبر من أن تحصى .. ورغم ذلك استكنت إلى غادتي و سلمتها قلبي دون شروط .. و نسيت كل ما بدر منها من تصرفات كان يمكن لأحد غيري أن يقابلها بالمثل . لكني سلكت طريقا رمت به المودة و المسامحة .. وأصر هذا القلب المتمرد على التشبث بها و هذا الخيال بصورتها حتى لا أجد سبيلا للنسيان ..
كيف يا قلب ترتجي
طعنة الغدر في خشوع
وتداري جحودها
برداء من الدموع
لست قلبي و إنما
خنجر أنت في الضلوع ..
ترى أين تكون الآن ؟ وهل تعاني كما أعاني أنا من وطأة الفراق و الوحدة ؟ أم أنها وجدت ما تسلو به و أنا آخر من يشغل بالها في هذه اللحظة ؟ .. ألتفت من حولي فأجد كل شيء يرنو إلي بوجوم .. وكأن ابتسامتي الغائبة عن شفتي منذ الرحيل الأخير قد ألقت بظلالها على عشي و عصفوري و أيضا على الكوخ الذي صار مأواي الجديد .. نسيت أن أذكر أنني لزمت هذا الكوخ ثلاث ليال متتالية .. لأن العاصفة لم تفتر ولم يتوقف هديرها .. و لأنني كنت أشعر بالخجل و أنا أفكر في الخروج كعادتي تحت المطر .. كنت أخجل من نظرة الجدول و الشجر و المرج المليئة شماتة على خيبتي .. فلم أغادر الكوخ ولبثت أطل من نافذة صغيرة ، ملتفا بغطاء صوفي ، مسترقا النظر إلى الخارج و العاصفة في أوجها .. سرحت بنظري إلى أسفل الوادي و تأملته و هو يرغي و يزبد وكأنه يتوعد بالويل و الثبور كل ما اعترض سبيل مياهه الهادرة .. لم لا أكون مثله ؟ ماذا ينقصني كي أتحلى بهذه القوة بدل أن أظل هنا خانعا مستكينا أنتظر في عجز مقيت ؟ ..
لم أشعر إلا و انا أنتفض من فراشي الخشبي و ألقي عني الغطاء الصوفي ، ثم أرتدي ملابسي الشتوية المعلقة على نصف عمود ناتئ في أحد أركان الكوخ .. إلى أين ؟ وجدت بداخلي نداء خفيا يجذبني إلى حيث رحلت غادتي .. لكني طردت عن ذهني هذه الأفكار و وقفت بباب الكوخ أنظر إلى العاصفة .. سرني أنني مثل الوادي ..أغلي ثورة و وبداخلي هيجان لا يعرف الحدود .. اقتحمت ستار المطر الذي حجب عني الرؤية واندفعت تحت السيل العارم أغرس حذائي المطاطي في الوحل فأحس بالمتعة .. تركت كل شيء وسهوت حتى عن وكر العصفورين .. لكني حين تذكرت ذلك كنت مطمئنا إلى أن من خلقهما لن يتخلى عنهما .. و أنهما سوف لن يحتاجا إلي بعد أن ضمنا مقرا آمنا من العواصف .
إلى أين ؟ .. لا يهم .. لأسر فقط و لأتمش دون توقف . ولأندفع مع السيول المنهمرة من كل جانب . أحس بنشوة الانطلاق وبلذة الانعتاق من ذاك الوضع النشاز الذي لا يلائم طبيعتي التواقة للتحرر من أغلال الجمود و السلبية . فقط ، أنا محتاج في هذه اللحظة لمن أحدثه و ألقي على مسامعه ما يقض مضجعي ويقلق نفسي .
صديقي الراعي. ياللفرحة.. كيف غاب عني ذكره ؟ ولماذا لم أفكر في اللجوء إليه بدل أن أستكين لوحدتي ؟ وفي غمرة هذه الفرحة العارمة توقفت فجأة .. ماذا لو كان تفكيري في صديقي له وجهة أخرى غيره ؟ ألا يكون لا وعيي قد سلك طريقا ملتويا ليتملى بطلعة غادته و يستأنس بقربها ؟ .. فتر حماسي لحظة ووقفت أفكر غير مبال بالماء المنهمر من فوقي .. علي أن أحدد سبب وجهتي الجديدة .. إذا كانت مشاعري كما تخيلت فعلي أن أعود أدراجي ..لأن أعيش وحيدا أهون علي من أنس صديقي بينما نفسي تهفو لغيره .. بل تغتصب منه حقا من حقوقه و تقضي على أمله و إن كان هذا الأمل مفقودا ..
اضطررت للتوقف مرات و سلوك طريق آخر معاكس كي أعطي لنفسي الفرصة و الوقت الكافي كي تحدد ما تصبو إليه حقيقة .. فما شعرت إلا بحاجة ملحة لصديقي مع أمنيتي أن أجده في الكوخ بدل منزله ، فكان هذا دليلا على أن ذهني منشغل فقط بصديقي و بما سوف ألاقيه منه من مؤازرة و دعم بفضل ما جبل عليه من رزانة و حكمة و تأن في إصدار أي حكم أو قرار .. صديقي بخلافي، و أنا أعترف بذلك ، رجل نضج قبل الأوان .. يرى الأمور ببصيرته ويحللها بكل هدوء بعيدا عن كل انفعال .. يعيش تجربته بألم .. لكنه ألم بلغ شأوا كبيرا في النبل و الشهامة .. ما أحوجني اليوم ، بل الآن ، لشخص مثله يدثرني برداء من الكلمات تسبغ على نفسي طمأنينة و سكينة و تبعد عن نفسي شعورها بالوحشة و القنوط ..
كنت أسير .. وجسمي يشتعل حرارة لا أدري إن كانت حمى أو دفئا يتنامى مع كل خطوة أخطوها نحو المنعرج الأخير المطل على الكوخ .. بيد أني انتبهت و أنا أضع يدي على جبهتي لأوقف تساقط قطرات المطر على عيني ، أنها ملتهبة أيضا .. بينما كانت أطرافي ومفاصلي تؤلمني .. الطريق أمامي يمتد طويلا بين أشجار البلوط و تملؤه بعض الحفر و أكوام التراب المبلل ، وهذا يعني أن خنزيرا بريا مر من هنا .. لا شيء يخيفني منه إلا إذا كان مجروحا ، أما في ما عدا ذلك فيكفي أن أتنحى جانبا و أترك له الطريق .. المشكلة في الأنثى وخاصة إذا كانت مصطحبة صغارها ، فهي تثور وتهجم .غريزتها تدفعها لحمايتهم .
ها أنذا أصل ، وهاهو الكوخ الوديع يتوسط الغابة على سفح الجبل .. لا أحد هنا .. أشعر بالانقباض بينما آلامي تزداد حدة و جسمي التهابا و ارتعاشا .. هل هي النهاية ؟ .. هل قضي علي أن أعيش آخر أيامي هنا منبوذا ؟ أشعر برغبتي في الرقاد و البلل يسري إلى كافة جسدي . تزداد الظلمة حلكة و تميد الأرض بي فأحس بالغثيان .. الألوان تختلط في ذهني و أسمع أصواتا لا أميز مصدرها ولا ماهيتها .. نداء و صياح ثم نباح أشبه بالعواء .. هي ولا شك ذئاب ستجد في جسدي النحيل فريستها في هذا الفصل القاسي .. الجوع سيجعلها تمزقني إربا إربا و تهرب بأشلائي في كل اتجاه .. كم رأيت من الذئاب بفروها الرمادي المهيب وأنا أعبر هذه الغابة ، فتفر لرؤيتنا و رؤية الكلاب معنا .. كانت عيونها تقدح شررا .. و آذانها منتصبة في قسوة بينما كانت تكشر عن أنيابها .. لكنها كانت تدبر لا تلوي على شيء . الآن لن تجد من يمنعها مني . لكني أراها في مخيلتي وديعة . ربما لأنها ستريحني من العذاب و تطفئ لهيب جسدي المتأجج حين تغرس أنيابها لتنهشه وتنهي فصلا هزليا من حياة عشتها متعلقا بخيوط واهية من السراب و الوهم .. لوقع أنيابها في لحمي أخف وطأ من هذا الإحساس بالمرارة و الإحباط .. النباح أو العواء يقترب .. تتصلب ضلوعي في انتظار أول عضة من أنياب الذئاب الجائعة .. بينما يغوص وعيي في متاهة لا نهاية لها .
|
|
|
|