06 / 03 / 2010, 32 : 07 PM
|
رقم المشاركة : [33]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
25
صحوة الموت ما أرى
أم أرى غفوة الحياة ..
كانت إغفاءة أشبه بسبات عميق ..أو ربما كانت كذلك .. رأيت نفسي في مواضع و أماكن غريبة .. ولاقيت أناسا لم يخطر ببالي قط أني سوف ألتقي بهم يوما ما .. لكن ما أرعبني حقا هو زيارة عصفورتي وحيدة دون رفيق ووقوفها على حافز الكوة الصغيرة .. كانت مضرجة بالدماء كما رأيتها يوم وجدتها جريحة .. كان الدم يقطر منها فيخصب ريشها و جانبا من حوصلتها . تناهي إلي أنينها و لم يكن زقزقة كعهدي بالطيور، لكنه كان نحيبا . كانت تترنح والريح تعبث بها .. حاولت النهوض لكني لم أستطع .. وفي لحظة تحولت العصفورة إلى غادتي .. فزاد رعبي و أنا أرى الدم لا يزال ينز منها .. صحت مرتعبا لكن الصوت انحبس في حلقي .. وتجمدت أطرافي .. بينما كان العواء يبتعد .. هل خافت الذئاب من حضور غادتي ؟ أم أنها انقضت عليها و حملت أشلاءها بعيدا في الغابة .. لم أعد أراها . اختفت فزاد ألمي و رعبي .. كنت أحس بجسمي ملتهبا .. لكن جبهتي بدأت تنتعش .. لمسات باردة تمسح العرق المتصبب عنها فتنتعش و ينتعش معها جسدي .. وشيئا فشيئا أخذت عيني المغمضتين تتفتحان لتلفي ضبابا يحجب الرؤية عما حولي ، بينما كانت جبهتي تزيد انتعاشا .. تتراءى لي يد ممسكة بقطعة قطن وهي تمسح عن جبهتي العرق ..
يتلاشى الضباب قليلا فأميز جدرانا غير جدران الكوخ .. ويبدو لي وجه باسم من فوقي فأكاد أنتفض فرحة .
غادتي معي .. وتسعفني بالماء البارد على جبهتي .. يا ليتها كانت يقظة و ليس حلما .
تململت في مكاني محاولا القعود ، لكن صوتا رخيما أتاني من فوقي يدعوني لمتابعة الرقاد .. صوت مألوف عندي .. لكنه ليس صوت غادتي .. أصابني إحباط ، لكني أحسست بالنشاط يدب في أوصالي وحمدت الله أن الذئاب لم تنهش جسدي .. كنت أتمنى ذلك من قبل ، لكني الآن متلهف للحياة .. أريد أن أعرف ماذا حصل و أين أنا .. ولمن هذا الوجه الجميل الذي يشبه وجه غادتي ..
أستطيع القول أني رغم حالة اللاوعي التي كنت أستفيق منها فإن حواسي كانت تنشط بشكل سريع ، وامتلأت خياشيمي برائحة أعرفها حق المعرفة .. هي خليط من رائحة الحليب و روث الماشية .. ثم شد انتباهي منظر المنديل المخطط بالأحمر و الأبيض فاستكانت نفسي وشملني شعور بالطمأنينة بأني بين أيدي أمينة .. الآن عرفت أن تلك الفتاة ما هي إلا غادة صديقي و أن هذه الحجرة هي حجرتها .. إذ رغم طابع البداوة التي يغلب عليها فإنها حملت لمسة أنثوية واضحة .. لكن كيف وصلت إلى هنا ومن جاء بي من الكوخ حيث كنت أمر بما يشبه الاحتضار ؟
لم يطل بي الانتظار .. إذ سرعان ما عاد الوجه الباسم يتأملني بحنو و يسألني :
- كيف تجد نفسك اليوم ؟
- بخير و الحمد لله .. لكن كيف وصلت إلى هنا ؟
- استرح الآن .. يبدو أن منزلنا لم يعجبك ..
- حاشا لله .. لكني استغرب ..
- سيأتي أبي بعد قليل و يخبرك .. أنا سأذهب إلى الحقل الآن .
كدت أسألها عن صديقي لكني أحجمت تجنبا للإحراج . لكن من هيئتها و لمعان عينيها و أيضا من استعجالها للخروج دون أن تخبرني بما حدث أوحى إلي أنها ستلقاه هناك .. دعوت لهما في سري و اطمأنت نفسي إلى أن الفتاة لا تزال ولهة بصديقي العزيز .. ما اشد شوقي للقياه و معانقته ..
الحجرة شبه مظلمة ولا أدري له هو المساء بدأ يجثم على البلدة أم أنه الصباح الباكر .. أشعر بالجوع يقرص معدتي بينما رائحة الشاي المنبعثة من خارج الحجرة تستفز خياشيمي .هي ولا شك وجبة المساء "لامرييندا". لكن صياحا و نداء أميز من خلاله دعوة للغذاء .. ما هذا ؟ هل تأخروا بالأكل إلى هذا الوقت أم ماذا ؟
يدخل الأب بقامته الفارعة و هو يبتسم .. ما أشبه ابنته به . وما أشبههما بغادتي ؟ أحس بالألفة نحوه ، لكن إحساسا بالانقباض يتملكني كلما رنوت إلى عينيه النجلاوين .. هل لأنهما تذكرانني بغادتي ؟ أأصبحت أمقت ذكرها إلى هذا الحد ؟ أم أنه فقط شعور بالاستياء النابع عن الفراق الذي ظلت تتمسك به حتى ونحن في أوج ألفتنا و انسجامنا ؟
تناولنا الغذاء .. الدنيا مظلمة في الخارج . سحب و أمطار .. كان الله في عون من يعمل في الحقل . ما أشد ما يقاسيه صديقي الآن وهو مع قطيعه وحيدا في الغابة .. بينما أنا هنا قرب غادته أتنعم بالفراش الوثير و الغطاء الصوفي .
الأب رجل لطيف رغم خشونة صوته و أوامره التي لا تنتهي .. لا أحد يجرؤِ على مناقشته سوى حليمة .. عرفت أن اسمها حليمة حين ناداها والدها فأقبلت وقد ابتل منديلها المخطط . تبدو مدللة لديه .. ونظراته لا تخفي إعجابه بدرايتها بأشغال البيت ، فهي الآمرة الناهية بعد أمها ..
حدثني الرجل كيف اكتشف صديقي الراعي وجودي بالكوخ و أنا مغمى علي .. وكيف حملني على ظهره إلى البلدة .. وكيف التقى به في الطريق و اقترح عليه إيوائي بمنزله .. صديقي قبل مرغما ولم يجرؤ على معارضة سيده .. كان يريد أن يحتفظ بي في حجرته .. غادته أقنعته أيضا أنني سوف ألاقي العناية اللازمة عندها .. ما أشد ما تثير في حالة صديقي من شجن .. تمنيت لو كان هنا بجانبي أستمتع بحديثه و يستمتع هو بالقرب من غادته و التملي بطلعتها بدل الضنك و الكدح في هذا الفصل القاسي .
- هل لي أن أرى صديقي ؟
البغتة تعلو محيا الإثنين .. هو ينظر إلي باستغراب لكون حالتي لا تسمح لي بالخروج في هذا الجو البارد و أنا على هذه الحالة من الوهن .. وهي تتشاغل بالنظر إلى إبريق الشاي وقد احمرت وجنتاها من جديد ..
- ما الذي تقوله يا ابني .. نحن لم نصدق بعد أنك عدت إلى الحياة .
أطلق ضحكته الهادرة وهو يفتل شاربيه الضخمين ، ناظرا إلى النافذة بالقرب منه ..
- عما قليل سوف يسقط الثلج .. أنا أعرف هذا الجو .. لم نعشه منذ سنوات طويلة .. سوف يكون علينا تخزين المؤن .. كل الطرق ستقطع وسنعيش منعزلين عن العالم .. لكن لا تخف .. لن نموت جوعا .. الحمد لله .. الخير وفير ..
وهناك .. حيث الصغار ذوي الشعر الأشقر و العيون النجلاء ؟ كيف يعيشون .. وكيف سيتحملون هذا الشتاء الذي لم يعهدوه منذ زمن .. أتخيل أجسادهم المقرورة و هي تتعرض لسياط البرد القارس ، وليالي الزمهرير الطويلة .. وتتمثل لي سحنة صديقي و قد علاها الهم و الألم .. تغلبني دموعي فأخفيها عن مضيفي .. لكن نظرة من حليمة جعلتني أتأكد من اطلاعها على حالتي .. هي أيضا تبدو حزينة رغم اصطناعها للمرح ..
- علي أن أقابل صاحب الشاحنة التي ستزودنا بالمؤونة قبل أن تقطع الطريق .. استرح و لا تخرج .. أنت في ضيافتنا حتى تمل منا .. أما صديقك ، فسوف يأتيك قريبا .. اطمئن .
وأطلق ضحكته الرنانة التي تردد صداها عبر المنزل الشاسع ثم خرج .. تزحزحت من مكاني أروم الاقتراب من النافذة .. منظر جميل و حزين في نفس الوقت .. شبه هالة بيضاء تلف المكان رغم اكفهرار الجو .. هو الثلج . بدأت نذفه تتساقط بهدوء فتكسو الأرض حلة بيضاء .. وسرعان ما يختفي شكل الجبال و تتداخل مع السماء فلا أعرف مداها ولا أميز موضع قممها .
حليمة ترفل كالفراشة من مكان إلى آخر .. تهيئ كل شيء .. في حركتها ما يشي بالحبور .. وكأني أستمع إلى صدى فرحتها بداخلها .. لم تكن تتخيل أن يلج صديقي عتبة بيتها .. كان يأتي ويلتقي بسيده قريبا من المنزل ليتحادثا في شأن الماشية ، أو ليأخذ أجرته .. اليوم سيكون بإمكانه الجلوس معي في هذه الحجرة الأنيقة .. أشعر بالسعادة .. هناك حركة غير عادية في المنزل .. الكل يعدو .. ماذا يحدث ؟ .. أتطاول بعنقي نحو النافذة دون أن أرى شيئا .. فتأتي حليمة مسرعة و تجدني نصف مغطى .. وتضحك ..
- عنزتنا ولدت توأمين .. هذا فأل حسن ..
- هل هي العنزة ذات القلادتين ؟
سألت دون أن أعي ما أقول .. نظرت إلي باستغراب وقد تورد خداها .. هل تعلم بما أسره إلي صديقي عن العنزة ؟ .. جاء دوري ليصعد الدم إلى وجنتي .. طأطأت راسي و نظرت إلى النافذة ..
- مبارك عليكم هذه النعمة .. و أفاض الله الخير عليكم ..
- شكرا لك .. لو كنت معافى لرأيت العنزة و التوأمين .. لكن لا تهتم .. سوف أجيء إليك بهما حالما يشتد عودهما .. اشرب الشاي مادام ساخنا ..
وما بين انتظاري للقاء صديقي و قبوعي في هذه الغرفة الأنيقة أجد نفسي ساهيا عن سبب وجودي هنا و مغادرتي لعشي .. هل هي بداية النسيان ؟ .. هل أستطيع نسيان كل شيء ؟ .. إذا كان هذا صحيحا فمعناه أن الحب زائل لا محالة من قلبي .. و أنه – أي هذا القلب – سيكون عليه أن يعيش ،على غير عادته ، خاليا من عاطفة الحب التي لم أكن أتخيل نفسي يوما ما مجردا منها .. وحين أقول الحب .. لا أعني أنني صرت ذا قلب جامد . فمجرد النظر إلى هؤلاء الناس وهو يحيطونني بحفاوتهم دون مقابل ، ثم سعيهم و كدهم و تآلفهم الرائع يشعرني بدفء الحب و عذوبة الحب ..
هل أنا على موعد مع فترة فراغ عاطفي ؟ .. وهل ستكون لي تجربة أخرى غير تلك التي لم أجن منها سوى المعاناة و الإحباط ؟
[/align]
|
|
|
|