[grade="dc143c 000000 008000 ff0000 000000"]ما تبَقَّى لكم[/grade]
2
*
*
*
مع صبي الخباز تسلمت منه أول الكلمات وآخرها " سأغادر غدا مع غروب شمس اليوم وسأكتب لك من الأردن أذا وصلت" ثم جاء التوقيع الصغير، "حامد" مكتوباً بهدوء تماماً كما كان يكتبه على قفا علبة تبغه حين كان يغادر البيت لسبب من الأسباب : " ساعود بسرعه، " حامد " ثم يترك العلبة متكئة فوق الراديو .
كان يعرف انني أتجه إلى الراديو أول وصولي إلي البيت.. ولكننا خدعناه . لنعترف بذلك أنه بعيدا الآن .. يسير منذ ثلات ساعات على الأقل, وخطواته واحدة واحدة أحصيها مع الدقات المعدنية المخنوقة في الجدار , أمامي .. دقات النعش.. دقات محشودة بالحياة يقرعها بلا تردد فوق صدري حيث لا صدى ثمه إلا كان الرعب وهو يخطو فيبدوا أمام الجدارالأسود المرتفع ورائه مباشرا حيواناُ ضئيلا يعقد العزم على رحلة دفء لا نهاية لها، مشحونة بالغيظ والأسى والاختناق وربما الموت، أغنية الليل الوحيدة في جسدي .
منذ اللحظة التي أحسست فيها بخطوته الأولى على الحافة عرفت أنه رجل غريب. وحين رأيته تأكدت من ذلك كان وحيداً تمام بلا سلاح , وربما بلا أمل أيضاً، ورغم ذلك فعند لحظة الرعب الأولى، قال أنه يطلب حبي لأنه ليس بأستطاعته أن يكرهني.
ليس باستطاعتك أن تكرهني يا زكريا، ليس باستطاعتك أن تفعل ذلك، فأنت كل ما تبقى لى، أما هو فقد مضي وأمحى من هذه الغرفه، ولم يبقَ منه إلا أصوات خطوات معدنية تدق على الجدار بلا نهاية مثل عكاز فقد اتجاهه.. ولم يتبق لي ما أفعله إلا عدها.. وأنت مستغرق في النوم على بعد شبر واحد مني.. بعيد.. كالموت.
أنت لا تعرفه رغم أنك عملت معه فتره صغيرة في الخيمة التى كنت تسميها مدرسة المعسكر، وهو لم يعرفك أيضاً، وأنا فقط التى عرفتكما.. كان رأيه بك دائما موجزاً و واحداً، قاله لى بعد أول مرة قابلناك فيها معاً مصادفة بالطريق :
- ما اسمه ؟
- زكريا.
- من اين تعرفه؟
- زميلي في مدرسة المعسكر.
- صديقك؟
- كلا.. أنه نتن.
وكان هذا كل شيء : " انه نتن !"، لم يغير هذا الاصطلاح إطلاقا، وحتي حين عرف قال كلمة واحدة : "انه نتن !" ومضى.
توقف العكاز فجأة , هنيهة واحدة، ثم دقت الساعه تسع دقات.
- مشى ثلاثة ساعات اذن.
- لكنه لم يعرف إطلاقاً أنك استوقفتني بعد ثلاثة أيام في الطريق وقلت لي : "سلمي على حامد" , وأنا لم أوصل له سلامك , لاننى عرفت أنك استوقفتني لسبب آخر.
لقد وقف فجأة نظر إلى السماء أولاً ثم الى ساعته.
عرفت أنه يفكر مثلهم كلهم : إن عليه قطع أطول مسافة تستطيعها ساقاه الفتيتان قبل أن يبزغ الضوء المبكر.
- كنت مبسوطة أمامه, مستسلمة لشبابه بلا تردد ولخطواته وهي تدق في لحمي .
ولكنه مثلهم كلهم , خاف من الأنبساط الذي لا نهاية له , حيث لا تلة ولا علامة ولا طريق , وظل واقفاً ينظر إلى سواد الأرض المتصل بسواد السماء في نقطة تقاطع مباشرة أمام قدميه . ثم سار فجأة ,شاباً كما كان دائما مملوءاً بالغيظ والاختناق والحزن . ولم أستطع أن اقول له بأنه انحرف شبراً صغيراً إلى الجنوب سيصل به في الصباح الى قلب الصحراء والشمس.
ولم أعرف قط لماذا مررت ذلك المساء من أمام المقهى الذي تجلس فيه , كأنما بالمصادفة . ولماذا أبطأت حتي يسرت لك أن تراني وتلحق بي؟
- ولم أعرف قط أن تلك اللحظة الصغيرة ستصل بي بعد أربعة أشهر الى سريرك أمام ذلك النعش المعلق الذي ظل يدق..يدق..
-الى سريره ,هذا سريره هو لقد نمنا معاً فى هذه الغرفه حين كانت خالتنا تنام في الغرفة الاخرى قبل ان تموت . وكان سريري يمتد تحت النافذة , وسريره في الجانب الآخر مقابل الساعة . ثم نقلت سريري إلى الغرفة الخارجية بعد أن ماتت خالتنا وبقي هو هنا , مقابل الساعة , على هذا السرير ,يستمع أغلب الظن الى دقاتها المعدنية المبتورة تخطو فوق الجدار حول نفسها دون لحظة توقف واحدة.
وحين ماتت خالتي ماتت على سريره... ويخيل إلى الآن أنه قصد الى ذلك قصداً , فحين كانت طريحة مرضها الأخير قرر فجأة أن ينقلها من الغرفة الأخرى إلى سريره , ولم يقل قط لماذا , وقد ماتت هناك بعد أن دقت الساعة دقة واحدة ,في الليل.
أحسست بذلك تماماً , فقد بدت تلك الدقة الوحيدة , المبتورة والقاسية بدت لنا جميعاً خطوة أخيرة . وقد نظرت إلي الساعة ثم إلى فيما مضت تتحدث إليه " سلم على أختي , الله كريم ذات يوم ستذهبان إليها أو تأتي إليكما " ونظرت إلى الساعة وقد بدأت تدق من جديد كأنها لم تدق أبداً , وقالت وهي لم تزل تنظر إليها "" دير بالك على الصبية ""عندها خرجت من الغرفة.
الصبية ..الصبية..الصبية..كانت دائماً في ثيابي , في جثي المتوهجة , في فراشي.
غريبة كأنه الفراق.
الصبية , لم أعرف انها خرجت ولكن خالتي عرفت فأشارت نحوها وراء الباب باصبع واهن وقالت : "" زوجها يا حامد زوجها , انها صبية وأنا اعرف "". ولكن الملعونة لم تنتظر .
جائتني بجنين يضرب في أحشائها .وأبوه ؟
ذلك النتن الكلب زكريا , لقد خدعاني معا ثم طرداني وأنا غارق في عارها.
زوجتك أختي مريم , زوجتك أختي مريم ..كله مؤجل..كله مؤجل .
جاءت وقالت : سأعترف لك بشيء خطير , فخفق قلبي وقلت لها : " اجلسي اذن " . فجلست وطوت راحتيها فوق حضنها فسقط بصري فوقهما وعرفت فوراً . اجتاحني الرعب فأخد جبيني ينضح عرقاً تساقط فوق عيني , وخيل إلي أن صراخها ينبعث من تحت راحتيها المطويتين فوق حضنها . صراخ مجروح ينبعث من بين فخديها حيث طوت راحتيها كأنها تخفي شيئاً . وفجأة بدأت تبكي , فقلت بصوت واهن :"" يا إلهي ! عرفت ! "" فأمسكت كفي بكلتي يديها , وأخذت تمرغها فوق شفتيها ودموعها وسمعتها تهذي: " ولكننا سنتزوج يا حامد , سنتزوج " . وسألت بلا وعي : "" من هو..؟
-زكريا!
- زكريا! ؟
- زكريا!! ؟ أنتظري لحظة زكريا ؟ يا إلهي !
كان الجدار عالياً وراء المعسكر . وقد أقتادونا جميعا الى هناك , وفيما كنا نتزاحم على الممر الضيق المؤدي إلى ذلك البناء المهدم كانوا يزجروننا تاره بالعبرية وتاره بالعربية المكسرة , ثم أوقفونا صفاً واحداً وانصرفوا يدرسوننا بإمعان واضعين فوهات رشاشاتهم تحت آباطهم , موسعين ما بين أقدامهم , وفجأة أخذت المساء تندف رذاذها ببطء وكآبة , فيما غاص المعسكر وراءنا بصمت أسود. وعند الظهيرة تقدم الضابط ونادى سالم, الأ ان الصف بقي مستقيماً وصامتاً ومبللاً , وحين نادي مرة أخرى بصوته الرفيع العالي نقل رجل ما خطواته محتاراً فخشخش الحصي هنيهة ثم خيم صمت جديد.وبدا الضابط وقد نفذ صبره كتلة من الغضب المشلول . و وراءه مضغت مغاليق البنادق أشداقها بصوتها الفولاذي المكتوب كأنها الموسيقي التي ترافق باتقان لا حد له مسرحية جيدة الأداء . وانسحب الضابط ببطء موسعاً الطريق امام الفوهات الدقيقة :" إذا كنتم تصرون على أخفاء هذا الفتي إلي ذلك الحد فلتذهبوا جميعاً إلي الجحيم نحن نعرف انه واقف بينكم"" وخشخش الحصي مرة أخري فيما أطبقت جفني فأنزاح العالم من أمامي وأضحى لا يعي شيئا.
وفي اللحظة التالية تماماً أندفع زكريا خارج الصف المستقيم وقذف نفسه راكعاً وكفاه مضمومتان إلي صدره وأخذ يصيح..فتراجعت الفوهات الفولاذية مترددة بطيئة , ثم تقدم الظابط فركله وتولي جنديان إيقافه على قدميه الواهنتين :""" أنا أدلكم على سالم"""
وقبل أن يفعل تقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة . وقد رأيناه يغسلنا بنظرة الأمتنان التي لا تنسي فيما كانوا يقتادونه أمامهم . إلا أنه عاد فالتفت إلى زكريا وشيعه بنظرات رجل ميت : باردة وقاسية وتعلن ولادة شبح . وغاب وراء الجدار هنيهة . ثم جاء صوت طلقة واحدة فيما اخذنا ننظر الي زكريا وكأننا جميعا متفقون على ذلك .
زكريا.. زكريا.. كنت جثة تتوهج داخل ثيابي. وكان الوهج يبقي فيها حتي حين كنت أخلعها وأعلقها على الجدار . وكانت الساعة تشيع نفسها كل صباح في نعشها الصغير أمام عيني وأنا أبدل ثيابي , فينبثق فجأة ثدياي الأهوجان كأنهما كانا مطويين في حقيبة حامد , وتنزلق كفاي دون أن أعي والساعة تدق فوق فخدي , لم يكن ثمة في البيت كله مرآة كبيرة واحدة لأري جسدي فيها مرة واحدة . كنت أري وجهي فقط , وحين أحرك المرآة فتمر صورة جسدي وبطني وفخدي تبدو لي قطعها غير موصولة ببعضها لجسد فتاة مقطعة تشيعها دقات مبحوحة , قاطعة وساخرة , تدق في الجدار بلا رحمة , كنت أول من لمستني فبدوت في تلك اللحظة قريبا حتى لكأنك عشت كل عمرك معي في ثياب واحدة . تحت تلك الدقات الرهيبة للعكاز الذي فقد إتجاهة , وبين أصابعك , يديك , شفتيك , وتحت عينيك , خلعت خمساً وثلاثين سنة من حياتي سنة سنة وقطعة قطعة . هل سأراك دائما كاللص , أسرق النظر إليك وراء المنعطفات ؟ "" لنتزوج إذن.......""
- أخوك حامد سيطلب مهراً علىّ عشرين جملاً .
- ""إسأله""
- هذا الصغير لا يطيق سماع صوتي , أنا أعرفه يفضل أن يقتلك على أن يراك مع أي رجل , فكيف إذا كان زكريا هو ذلك الرجل ؟
- " لا تريد أن تتزوجني إذن "
-أريد ولكن لماذا لا تريدين أن أراك.؟ .
- لقد أعطيتك من وحشيتي كل ما املك , وهو يضرب دون أن يعي بعيدا عن طريقه .
- ولكن شيئا واحدا لا أستطيع اعطاءه :
الوقت .
كان يتسرب من بين خطواته , ليس ذلك فقط، كان ضده لم يكن في سباق معه ولكن في سباق مع خسارته .
ومن تلك الوحشية التي لم يعد يعرف من أين تعمل داخل جسده استمد شعوراً بضرورة التوقف , فوقف, كان الافق أمامه يتوهج . ثمة أنوار وطريق وأصوات بعيدة لو انه يعرف لحسب انه استبق الوقت ولكنه لا يعرف . وقف وأخذ يفكر , كانت حركته قد اعطته حرارة في وجه الريح الباردة القادمة من السماء في كل الأتجاهات . وفجأة بصق.
لا يهم , فأنا لا اتعامل مع الاحساسات التي تعصف في أعماقه . اتعامل مع الاتجاهات فقط . وهو هنا في اتجاه خاطئ . ضده , ورغم ذلك فيبدو انه ما زال مغيظاً من امر لا علاقة لي به , ولا علاقه له بوقفته تلك نصف ساعة بعيداً عن الطريق الصحيح . وقد حدث ما كنت أتوقعه تماماً , فحين حاول ان يمر بعيداً بعض الشيء عن الاضواء اخطأ الاتجاه مرة اخرى , وأنتصب بشكل يكاد يكون مستقيما نحو الجنوب متخلياً نهائياً عن التفكير , معتمداً على حواسه جميعاً دفعة واحدة مغلفة بشيء من الرعب , ولكنه رعب مستثار ايضاً مزيج من المشاعر التي تملأ قبضتّي مغامر شجاع وهما تدقان بوابة مجهولة .
*****************
يُتبع