[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]ما تبقى لكم[/grade]
3
*
*
*
كنت أرتجف خائفة ومستثارة في وقت واحد حين رأيته أمام الباب , كان حامد قد غادر منذ خمس دقائق فقط , وكان زكريا وقف أمام الباب واثقاً من نفسه وسأل " هل هو هنا ؟" و دون ان ينتظر وضع قدميه في الباب ودخل واضعاً يده على كتفي فأحسست بها ثقيلة تكبلني .
" أريد أن أحدثه بشأن زواجنا " وفي دوامة من النشوة لست أدري كيف قلت :"" انه ليس هنا "" .
-" هل سيتأخر ؟.اعني هل استطيع انتظاره .؟"
- لا أعرف , لا أعتقد لقد ذهب ليأتي بالاعاشة , أنت تعرف أنه أول الشهر .
وتحرك إلى الداخل ثم استدار فجأة :"خائفة مني ؟"
- كلا , لماذا..؟
تقدمت فوضعت شفتيك حارتين قاسيتن على عنقي وسقطنا معاً فوق الكرسي الطويل الذي كان سريري وسمعت صوتك في ثيابي :" إذن سيتأخر " وأحسست كفك فوق صدري تعتصر :" إذن سيتأخر , كنت ماراً من هناك بالمصادفة " ثم التصق جسدك كله بي والتهبت :" كنت ماراً بالصدفة قرب المركز ورأيت أزدحاماً لا يصدق . صحيح أنه أول الشهر " ولست أدري كيف أحسست بيديك الخشنتين على ظهري العري :" إذن سيتأخر" سقطعت الكلمة في أذني وطافت هناك بلا معني فلم يعد يهمني , بعد , أن يتأخر أو لا يتأخر , ثم لبست ملاسبك : " الأفضل أن أذهب ". وكان انهيار صامت يجتاح بدني فيحطمه من الداخل , وحين صفق الباب فقط سمعت الساعة تدق ثماني دقات كأنها تقرع الباب مره أخرى.
لو كانت أمي هنا فقط , يا زكريا لو كانت أمي هنا فقط .
ولكن ليس غيرك , وحامد سيذبحني لو عرف , وأعتقد أنني حامل , وأبتسمت ووضعت يدك على كتفي وانت تنظر إلى بطني ثم قلت: أنت أرض خصبة أيتها الشيطانة أرض خصبة .
أقول لك .. أرض خصبة مزروعه بالوهم والمجهول تتكسر كل انصال الفولاذ في العالم اذا مرت فوق صدرك الاصفر العاري , صدرك الاجرد الممتد الى أبدي والى آبادهم , والسابح بجلال في بحر من العتمة , كل انصال الفولاذ في العالم ليس بمقدورها ان تحصد من فوقك عرقاً واحداً . ولكنها تنكسر , واحداً وراء الآخر , امام حصادك الصلب النامي أكثر فأكثر كلما خطا الرجل الى اعماقك خطوة وراء الاخري , حتي ليتحول هو ذاته الى عرق مجهول مشرش يستقي منك انتصابه وخطواته . وليس بالوسع أن يحصد .
- لا تقل لي ذلك حتي لو فكرت به فأنا خائفة منه إلى درجة لا أجرؤ فيها على القضاء عليه , عاري . ولكنه يا زكريا , عاري الوحيد في خمس وثلاثين سنة طاهرة ومخزونة .
ها هي تدق عشر دقات.
تدق تدق... كأن العكاز ينتزع نفسه بائساً وهوا يدق خطواته الأبديه المفردة في نعش صغير مغلق بإحكام .
أربع ساعات يسيرها دون لحظة توقف وأنت تتركني معه أتعقب خطواته على الجدار ملقي إلى جانبي تتنفس نومك , تري كم بقي له , هل تستطيع ان تعرف يا زكريا....
- لم تنامي بعد ؟
- كلا , ولكن قل لي يا زكريا كم يحتاج المرء إلى قطع المسافة مشياً من غزة إلى الأردن ؟
- عشر مرات قلت لك
- لا , لم تقل لي.
-إثنتا عشرة ساعة
وانقلب على جنبه لحظة ثم رفع نفسه على مرفقيه ومضت الساعة تدق .. وأكمل:
- إذا كان يعرف الطريق جيداً
واقترب , وأخذت عيناه تبحاث في العتمة عن وجهي :
_... وإذا لم يصادف دورية في الساعة الأولي .
جلس الآن تماماً ومرر أصابعه في شعره , ونظر إلى ساعته ثم عاد ونظر إليّ :
_ كم الساعة الآن ؟
_دقت العاشرة .
_وأنت تفكرين به ؟
_نعم .
_لقد حاولتُ جهدي ان أمنعه على طريقتي الخاصة , أنت لست غاضبة مني ؟
_ كـلا .
_إذن حاولي أن تنامي .
_ انني ما زلت أحاول ذلك منذ ساعتين على الأقل .
وانزلق , مرة أخرى , في السرير ودفن وجهه في الوسادة :
_ على أي حال لن يفيده أن تمضي الليل تفكرين به , أفضل لك أن تقتلي الوقت نائمة .
_ لا أستطيع .
وأنقلب إلى الجانب الآخر وصمت , فبدت الغرفة مهجورة من جديد , يجول فيها ذلك الصوت الرتيب لدقات لا تتوقف , تحوم حول أذني , وتصدم رأسي من جوانبه كلها ثم استدار ومد يده إلى الطاولة , فخشخشت علبة الثقاب وأشغل لفافته فأضاء وجهه المربع الخشن , والتمعت عيناه الصغيرتان نصف المغمضتين في حفرتين مظلمتين , ورفع جسده متكئاً على الوسادة , وامتص لفافته فتوهجت نقطة ضوء تسبح في العتمة ثم خطت فوقها دقات العكاز فبهتت من جديد.
_ سنغير قليلا في أثاث البيت . على قدر ما يسمح لنا الجيب , أعتقد ان السريرين لا بأس بهما , ولكن سنحاول استبدال مقاعد الجلوس في الغرفة الأخرى .
_ يجب أن نفكر بالصبي .
_ أنت مجنونة , صدقيني ! تفتكين بشبابك من أجله , وغداً ستلعنينه وتلعنين أباه والساعة التي لم تستمعي فيها إلى النصيحة , ستتحولين إلى امرأة مترهلة ببطنِِ ٍ منقوش كأنه مصاب بالجدري , أنا أعرف , وقد رأيت ذلك بعيني , وطوال عام كامل لن تكوني امرآة , مجرد زجاجة حليب .
واقترب . واضعاً لفافته بين شفتيه , ومرر كفه فوق صدري وبطني . وتوقف هناك لحظة :
_ لك جسد هائل لا تدركين حاله , وغداً حين تبيضين بيضتك الكبيرة ستنقلبين إلى جبل صغير من اللحم وتفقدين كل شيء عدا قطعة الصراخ تلك التي ستقلب حياتك إلى الجحيم .
وفجأة جاءت . وقد كنت أحسب أنني لن أفكر بها , ولكنها جاءت مع صوته حاملة أطفالها , و وقفت هناك , على قدمي السرير , فيما كانت كفه الثقيلة الدافئة تضغط برفق فوق أحشائي . حتي أنني لم أسأله عن اسمها !
_ لم تقل لي ما اسمها.
وسحب يده فجأه وامتص لفافته من جديد . وفي الصمت المفتوح على وسعه , أخذ العكاز يقرع خطوته المفردة بإلحاح متسارع :
كنت أعرف أنك ستسألين هذا السؤال ذات يوم . لا مانع عندي طبعاً , ولكن الآن ؟ ما الذي جعلها تمر في رأسك ؟
_يدك , يدك وهي تمر فوق بدني ..... هكذا تفعل معها أيضاً ؟؟؟...
_ لست أدري . ولكن استمعي إلى هذه النصيحة من أجل راحتك فقط : حاولي أن لا تفكري بها كثيراً.
_ماذا قالت لك ؟
_لم تقل شيئاً , كانت تعيط طوال الوقت , فلم تجد وقتاً للكلام .
وجر نفسه أكثر نحوي وأحرقني لهاثه , فاشتعلت وعرفت أن ذلك سيحدث ولم أستطع مقاومته , وانزلق ثوبي بين اصابعه فتدفق جسدي , وأخدت التعمة تلهث حولي بفحيح مستثاؤ , وفاحت روائح الرجال دفعة واحدة فيما أخذت أهتز بلا هوادة صعوداً ونزولاً , وانا أنسحق بين الأكتاف , أقذف وأدفع وأسحب وأكوم , وأهمل , ثم أجر وأعتصر وأبلل بالماء في مزيج راعب من البرد والقيظ في آن واحد , حتى إذا ما طوفت فوق دوامة من الغيبوبة , أخذ حامد يهزني بكلتا راحتيه معتصراً كتفي بين كفيه الصغيرتين المتشنجتين :
"مريم هل أنتي مريضة .؟؟"
- كلا ولكن أين أمك ؟
-" تُركت على الشاطئ وستلحق بنا , خالتك هنا معنا ".
كان صغيراً وشجاعاً بصورة لا تصدق , وقد ظل ينظر بعينيه الحادتين إلى كل الرجال نظرة الند , وهو ملتصق في كأنه درع صغير من الفولاذ يرصد سن الرمح .
و وراء الشاطئ الأسود كانت يافا تحترق تحت شهب مذنبة من الضجيج الملتهب المتساقط في كل مكان . ونحن نطوف فوق موج داكن من الصراخ والدعاء .
-"ولماذا تركتَ أمك على الشاطئ ؟"
- لم أتركها , ولكن الزورق امتلأ وستاتي في زورق آخر . إن الرجال يعتون بها هناك , وكان لا بد لي من ان آتي معك , وخالتي أيضاً .
كان عمره عشر سنوات فقط وكنت في العشرين وبدا أنه أكتشف كل شيء في لحظة مجنونة واحدة . وقد صرف الليل كله يحدق إلي بعيني نسر صغير , ونحن نطوف في فراغ أسود بلا نهاية والمجاديف تدق سطح الموج . تدق . تدق . ويافا تغطس كالشعلة في مياه الأفق البعيد . وتنطفئ في عيوننا نقطة نقطة .......
لقد حرصتُ عليك حرصي على حياتي ذاتها ايتها البقرة , أمضيت كل أيامي وانا غارق في خدمتك الصغيره ليلاً نهاراً بلا كلل . وكنت أريدك امرأة شريفة تتزوج ذات يوم رجلاً شريفاً . ولكنك فتحت فخديك لأول رجل . لأول نتن . وجئت تحملينه في احشائك ,دون ان تكترثي لحظة واحدة بي . دون ان تكترثي حتى به.
كنت ايتها البقرة كنت , كنت . ولكنك ستسقطين في سرواله معها , سيتقاسمكن جميعاً وستموتين هناك , وسأقول لأمك انك مت , وأنني دفنتك في سروال رجل نتن , مع امرأة اخرى لديها منه خمسة أطفال , وقد تلد طفلاً سادساً في المساء .
- فكيف سنعيش معاً ؟
- ستقيم معي هنا وتتركها؟ حتى أنني لم أسألك هذا السؤال ! قد يمضي كله دون أن تأتي , فتكون إذن في فراشها هي . وفي طريق عودتك من دارها إلى مدرستك تقرع بابي , أو لا تقرعه , كلما ذهبت إليها ستمر من امام الباب . يا إلهي . لم أفكر قط أن بيتي يقع في منتصف الطريق بين بيتها ومدرستك . وقد أراك تمر أمام الباب وتمضي إليها دون أن تلتفت .
-هل تشدها دائما من شعها وأنتما تتسلقان هذه اللذة الأليمة ؟
- " قلت لك كفٌي عن التفكير بها وفكري بي أنا معك " .
ورفعني بين ذراعيه الثقيلتين , فصارت الساعة أمامي , وكان عقرباها غائبين في العتمة إلا انهما ظلا يدقان . وغصنا معاً بما يشبه الإغماء .
من أين يستطيع حامد أن يفهم ؟ لقد كان دائما رجلاَ رائعاً ولكنه لم يكن أبداً إلا أخي . ومرور الزمن لم يكن يعني لديه شيئاً فيما كان بالنسبة لي موتاً يعلن عن نفسه كل يوم مرتين على الأقل . بالنسبة له كنت أتحول كل يوم إلى مجرد أم . وكان يتحول كل يوم بالنسبة لي إلى رجل محرم . ولم يدرك قط طوال عمره لحظة ارتطام واحدة مع رجل حقيقي ستودي بنا معاً , وأيضاً بعالمنا الجميل الصغير التافه الذي أجبرنا أنفسنا على اختياره .عالم تافه غير مستعد لقبول عانس أخرى , فما الذي كنت تتوقعه إذن ؟. انتزع نفسه واستلقي عارياً وأخد يحدق الى السقف وهو يلهث :" لم تكوني هنا ,( انا أعرف ! كنت مثل قطعة حطب , ولكن ذلك لن يستمر طويلا ً , أنا الذي أعرف كيف أطوّعك )"
وصمت قليلا ولهث بصفير مسموع :" كانت فتحية مثلك في البدء.
- " إسمها إذن فتحية ؟ "
-أف ! لم تفهمي من كل ما قلته إلا فتحية ... فتحية ماذا تريدين أن أفعل ؟ أطلقها ؟ أنت لا تريدين ذلك , أنت اكثر شباباً منها وأكثر جمالاً فلماذا تخافين منها ؟ أنتظري قليلا ً لتسمعي رأيها ! " .
قمت فأخذ السرير يئزّ , ومضيتُ إلى الغرفه الأخرى . كانت زميلة ٌ صغيرة في ثانوية الإنكليز بيافا لها عينان تغمزان دائما كأنما حين تتحدث , تتحدث دائما عن الحب , وكان فمها الصغير يُدعك بانتظام , فتبدو شفتاها ثقيلتين مضرجتين . وأثناء الدروس كانت تعلكهما بأسنانها لتحافظ على لونهما المتوقد , كانت صغيرة , وكان جسدها المشدود داخل الثوب الكحلي يبدو كجسد قطة مهتاجة . وكانت دائما تكتب رسائل وتتلقي رسائل , وتتحدث عن رجل تسميه دائما "هو" وتغمز بعينها . تري أين انتهت الأيام بك يا فتحية ؟ كان أبوها يقول دائما انه لن يغادر يافا حتى لو انقلبت إلى كهوف حجرية . وكان إذا تحدث يظل يقول أهلا ً وسهلا ً كأنه صاحب ُ مضافة بدوية . وحين زرناها مرة أثناء الحوادث دخل الي الغرفه وتناول كتاباً والتفت فجأة إلىّ " ماذا قرر أبوك أن يفعل يا مريم ؟"
_لست أدري , ولكنه ينوي أن يبقي، هكذا يقول .
_أهلا ً وسهلا ً وأنا أنوي أن أبقي .
وخطا إلى الخارج فيما أخذت فتحية تغمز وتبتسم , وهي تنظر إلى قفاه المتهدل , إلاَّ أنه عاد والتفت إلينا :
_ولماذا أغادر .؟ إذا جاءت كارثة فأهلا ً وسهلا ً , لن يستطيع القدر أن يمسخ أكثر من القرد .
وحين غيبته نهاية الممر , قالت فتحية فجأة :
_سأزوجك أخي فتحي ذات يوم ..... إنه يبحث عن عروس , ما رأيك ؟
_ قلت لك إنني أنوي إكمال دراستي .
وغمزت وابتسمت , وعلكت شفتيها بأسنانها :
قولي هذا الكلام لغيري .
وكانت أمي تتحدث باللهجة ذاتها : إذا خطبك فتحي فلن أقول : "طيب" سأقول كما يقول أبوه :"أهلا ً وسهلا ً ".
و وقف أبي أمام الباب , كان غاضباً , وكان يرتجف شأنه كلما تحيّر في غضبه , وصاح بصوته العريض المبحوح :" لا تتحدثوا عن الزواج قبل انتهاء القضية " . وكان إذ يلفظ كلمة القضية يبدو الخطر محدقاً وداميا ً . وكانت له طريقته الخاصة في ذلك , فهو يشد على الياء بعنف وينفض نهاية الكلمة نفضا ً وقد أخذ حامد هذه العادة منه , أغلب الظن .
*****************
تمت