عرض مشاركة واحدة
قديم 25 / 03 / 2010, 55 : 08 PM   رقم المشاركة : [62]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: عش رشيد الميموني الدافئ

27
[align=justify]
كل شيء ينطق ربيعا .. في كل مكان يطل علي الربيع هامسا مبتسما .. تهتز الأرض و تربو .. وتينع مفترا ثغرها عن ابتسامة ساحرة .. تنظر إلي الأزهار بدلال و الأشجار تومئ إلي بحنو ، و الجدول يتطلع إلي في نشوة .. أنطلق بعيدا موغلا في الغابة المطلة على البلدة و كأني أسابق الزمن كي أصل إلى هناك .. صار هناك ملجئي كل أصيل ..
هل كان لا بد من مساحة زمنية كافية لكي أنتبه إلى ما يحيط بي من جمال و الربيع يطرق الأبواب معلنا عن وصوله بأبهى حلة ؟ .. كم مر عي من الوقت و أنا حبيس الغرفة الأنيقة حيث اعتكفت تماما و عزفت عن رؤية كل كائن ؟ .. وبينما كانت الدنيا في الخارج تتشكل خيوطا بأزهى الألوان و أبهاها ، كنت أنا طريح الفراش أعاني من صدمة أشد وطأ مما عانيته و أنا في الكوخ صريع الحمى أنتظر أن تنهشني الذئاب بأنيابها الحادة ، قبل أن يسعفني صديقي المفضل ويحملني إلى البلدة .. المفضل ؟ .. كأنه اسم غريب يتردد على شفتي .. من يكون هذا المفضل ؟ .. ولم كل هذه المرارة التي تصاحب النطق به ؟ .. كنت أحاول أن أركز ذهني كي أعرف ما الذي حدث لكني أعجز و أجد نفسي موغلة في ضباب كثيف يلفني ثم يكتنفني سواد مرعب .. كنت أتذكر فقط لحظة انطلقت كالمجنون نحو بيت صديقي لأقتحم حشد الجالسين حول الجسد المسجى و أنزع عن الوجه الحبيب الغطاء أمام ذهول الجميع .. ياااه ..كم كان بهيا وكم زادت وسامته حين وقع بصري عليه .. بل إن وجنتاه بدتا لي أنضر وخيل إلي أنها دافئة موردة .. انهلت عليها تقبيلا و دموعي تبللها .. ثم مسحت بكفي على جبينه قبل أن أغطي الوجه من جديد و انهض و أتمشى قليلا مترنحا ، ثم أتهاوى عند عتبة الباب ..
كانت غيبوبة لم أستفق منها إلا بعد أيام من مواراة جثمان صديقي الثرى .. كنت أستمع إلى حليمة و هي تحدثني عن هذياني و عصبيتي أثناء غيبوبتي حتى صار الكل يخشى أن ألحق بالمفضل ..
ترى ماذا كنت أقول أثناء هذياني ؟ وهل تلفظت بما يشير إلى حب صديقي وعشقه لغادته ؟ .. كنت أنظر إلى حليمة بريبة وهي تحدثني عن هذياني ، فتبتسم و تحمر وجنتاها .. و أعلم أني أفرغت كل ما كان يحويه صدري من أسرار صديقي .. لكن ، لماذا أسميها أسرارا ؟ ألا تكون حليمة أعلم و أدرى مني بما كان يكنه لها المفضل من حب صامت ؟ .. أعترف أن انتهائي إلى هذه الفكرة جعلني أتنفس الصعداء مؤقتا ، لأني خشيت أن أكون تحدثت عن غادتي الهاربة أيضا .
طبعا تأجل رحيلي عن البلدة .. لم يكن لدي خيار .. فحالة الوهن التي وصلت إليها لم تكن تسمح لي حتى بالنهوض فبالأحرى صعود الجبال و اقتحام الوديان .. ثم إني كنت سأصطدم بالمعارضة القوية لوالد حليمة فيما لو أعلنت عن نيتي في الرحيل .
بدأت أولى خطواتي المحتشمة تقتصر على محيط البيت لأجلس ساعات تحت أشجار الإجاص و المشمش التي بدأت تزهر. وكثيرا ما حملت معي الكرسي الخشبي بجانب الفرن لأتابع حليمة و هي تضع الخبز فيه .
وشيئا فشيئا صرت أقوى على السير بالقرب من البلدة ، فأصعد إلى المنبع و أقف طويلا عند الربوة التي كانت محط آمال صديقي و أحس بقلبي يعتصر ألما .. ولطالما هفت نفسي لصعود الجبل و ألج إلى الكوخ الذي ولا شك صار يشكو من فقدانه لصاحبه .. ترى هل صار موحشا الآن ؟ إذن علي بالعودة إليه و ترتيبه إكراما لروح المفضل الحبيب .. في تلك اللحظة بدت لي الفكرة صعبة المنال لكني كنت أعلم أن لا شيء سيردعني و يوقف جموح نفسي للوصول إلى هناك إن عاجلا أو آجلا ..
الحزن و الأسى كانا يوغلان في النفس و القلب ، ومقابل ذلك كانت الدنيا تتفتح و تزدهي احتفاء بالربيع ، ثم إن عناية أهل حليمة بي خفف علي مصابي . لكن الشيء الحاسم الذي جعلني أنفض عني ما علق بي من شجن هو إصراري على فعل شيء من أجل صديقي .. فكرت في العناية بالكوخ و صرت أهتم بالعنزة أكثر من ذي قبل و نظرات حليمة تتابعني في فضول .. سرح خيالي إلى الربوة و تمنيت لو يكون هناك عشي الجديد .. بل إني و في غمرة حماسي بالبحث عن كل شيء أفعله إكراما لروح الفقيد ، صرت أركز اهتمامي أكثر بحليمة فأساعدها في بعض أعمالها الشاقة كالسقي و جمع الحطب و إشعال النار بالفرن .. وكانت تتمثل لي نظرات المفضل المليئة حزنا و أستشف منها رضا و طمـأنينة .. فأجد في مساعدة غادته ..
زياراتي للربوة لا تنتهي .. أجد نفسي كل يوم جالسا عند الجانب الأيمن حيث دفن صديقي .. أتأمل استطالة القبر بينما يسود سكون تام .. لا شيء يتحرك ولا شيء يهمس أو ينبس بصوت .. ربما احتراما لهذا الراقد في سلام الآن .. هل أغبطه لأنه ارتاح من كل هذا العناء ؟ على الأقل ، ارتاح وارتاحت نفسه وقلبه من هذا الذي نسميه حبا .. أقارن بين حالتي وحالته فأجده أوفر مني حظا ، لأنه بكل بساطة كان ينظر بواقعية إلى حبه مع يأسه منه ، بينما أنا أغرق في مستنقع اليأس ومع ذلك أعيش هذا اليأس و أجري وراء السراب .
اليوم .. أنا هنا في الكوخ .. قدمت إليه باكرا بعد أن أعلمت الأسرة برغبتي في ذلك .. حملت معي الزاد الكافي .. وانطلقت أذرع الأرض المخضرة مشيا حثيثا تستقبلني نسمات الصباح الباردة قبل أن تطل الشمس من أعلى الجبل .. توقفت كثيرا عند بعض الجداول لأنعش جبهتي بمائها البارد .. ثم أتابع السير وقد شملني حبور لا يوصف ، وكأني لم أكن بالأمس صريع الحزن على فقدان صديقي .. كنت انظر إلى ما حولي من أشجار تحجب عني رؤية الجبال و أتخيل أن روح صديقي تتعقبني فأتوقف قليلا و أصيخ السمع مترقبا نداء أو ضحكة .. لكن لا شيء كان يملأ الجو سوى حفيف الأوراق و هي تتناغم مع النسيم و رقرقة الجداول المنسابة مياهها في إيقاع رتيب لكنه ممتع .. زقزقة العصافير و تنقلها في خفة من غصن لآخر جعلني أحس ببراءتها و انسياقها مع غرائزها دون تكلف .
ربما طافت بمخيلتي غادتي بسرعة كلمح البصر و أتساءل : هل حقا نسيتها ؟ أم أني أحاول جاهدا على تناسيها ؟ لماذا أريد نسيانها ؟ هل وجدت ما يعوضني عنها ؟ هل يكفيني تأمل وجه حليمة لأتذكرها و أعيش على ذكراها ؟ قد يكون هذا صحيحا ، لكني سرعان ما كنت أطرد عني مثل هذه الأفكار احتراما لذكرى صديقي . هل أذهب للبحث عنها ؟ لم لا تبحث عني هي الأخرى ؟ لم أحمل نفسي مسؤولية الفراق بينما كانت هي من ورائه ؟ ترى هل تكون نهايتي مثل صديقي فأرحل دون أن أفوز باللقاء ؟
وصولي إلى الكوخ بدد ما بدأ يشملني من أسى .. ووقفت على مقربة منه .. نتبادل النظرات .. أحس به يبكي و ينتحب في صمت .. يبدو أنه يعلم بمصير من كان يسكنه طيلة فصل الربيع و بعض من الصيف . تقدمت بحذر احتراما لمشاعره و لمست بابه برفق فانفتح دون عناء .. أثارت رائحة المكان أشجاني و جال بصري بأنحائه .. هناك الغطاء الصوفي الذي دثرني به أول مرة و المصطبة التي تنازل لي عنها عند أول لقاء لنا هناك .. كل شيء يهتف باسمه .. كل شيء ينطق بحضوره وكأنه لا يزال هنا .
قضيت النهار كله في إزاحة ما تراكم عند الباب من تراب بفعل السيول و الرياح و نفضت الغبار عن الباب ثم رششت الماء على جوانبه فبدا متلألئا .. جلست أستريح و أتناول زادي .. كانت شهيتي كبيرة فالتهمت طعامي بشراهة .. ثم استلقيت قرب الكوخ مستظلا بأشجار السنديان الجاثمة من فوقي في حنو .
أخذتني سنة و جسدي يغلي حبورا ، تعمه سكينة تامة .. يتناهى إلي ثغاء بعيد يصاحبه نباح .. أين يكون هذا القطيع ؟ .. تمنيت لو اصطحبت معي العنزة .. عنزة المفضل كما صرت أسميها .. أو حليمة كما كان يحلو لصديقي أن يناديها . ستذكرني دائما به .. فقط ؟ أم أن هناك شيئا آخر لا أريد الإفصاح به و أحاول تجاهله ؟
كانت للمعزة مكانة رفيعة عندي .. المعزة كانت تشكل رمزا لحب صديقي تجاه غادته .. حليمة تشبه غادتي تماما .. إلى أين يوصلني هذا الهذيان ؟
انتبهت فجأة على مأمأة بالقرب مني .. استويت جالسا والتفت نحو المنحدر لأجد فعلا العنزة تركض نحوي ..
ومن ورائها بدت حليمة .
[/align]
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس