رد: رواية تبحث عن مؤلف
[align=justify]تحية إجلال للأستاذ الكبير طلعت .. ها أنذا أتلقف فكرتك الرائعة بكل لهفة وكأني أترقبها منذ زمان .. ويسرني أن أكون من الأوائل الذين يدلون بمشاركتهم في هذا العمل الأدبي البديع :
************************************************** ******************************************
يبتلعه الشارع الرئيسي فينقاد لخطواته الواهنة وينظر إلى هناك .. إلى أقرب زقاق يتفرع من الشارع .. تختلط أصوات المارة بنبرة نادرة الباكية المتوسلة . تتلقفه الوجوه المقبلة المدبرة على عجل .. كأنها أقنعة قدت من صخر .. بعضها يتفحصه في فضول .. لو لم تكن جامدة لاستشف منها رثاء أو سخرية أو ربما شماتة .. متى يسدل الليل ستاره ويخلو الشارع ، فيخلو هو نفسه لخواطره ولتأملاته ؟
يحث الخطى نحو الزقاق .. لماذا اختار هذا دون الأزقة الأخرى ؟ .. الزقاق يمتد إلى ما وراء الدور المتكدسة في وجل .. يلفها نقع زاد من ملامحها البائسة .. تنظر إليه بدورها .. على الأقل ، في ملامح هاته يستشف تعاطفا و مسكنة كالتي تسكنه الآن .. هنا يسود السكون .. لم يتبق سوى صدى صوت نادرة يعلو ويخفت مع اقترابه من النهر الهادر .. تلاحقه توسلات الأولاد فيلتفت مرعوبا .. يخيل إليه أنهم على مقربة منه .. هل تفعلها نادرة ؟ لم لا وهي تعلم نقطة ضعفه مع الأولاد ؟.. يعاوده السعال فيضع كفه على فمه ثم ينظر إلى راحته متوجسا .
لماذا اختار هذا الزقاق المؤدي إلى النهر؟ .. يتوقف عند الجسر وينظر إلى الأسفل فيحس بالدوار . يمر أمامه صبي يحمل بين يديه علبة سردين صدئة وأسلاك .. لا يعيره اهتماما .. كل اهتمامه منصب على ربط العلبة بإحكام حتى يمكنه جرها .. يعض شفتيه .. يغمض عينيه وهو يجذب أحد الأسلاك .. ما أهنأه ! .. أين منه ذهن فارغ من المشاكل .. من الأعباء .. من كل هذا الذي يجثم على صدره فيكاد يحبس أنفاسه ؟ .. لم كل هذه المعاناة ؟ .. لم يحمل نفسه ما لا طاقة لها به .. أليس مثله مثل الآخرين ؟ .. لماذا لا يعانون ؟ .. هم أيضا يشاهدون الدمار و الخراب و القتل .. لكنهم يضربون كفا بكف .. يتحسرون .. يتألمون .. يدعون بالويل و الثبور .. ينددون ..يحتجون .. لكنهم في آخر المطاف يعودون إلى ديارهم ليسهروا ويلاعبوا أولادهم .. ويداعبوا زوجاتهم .. لهم متسع من الوقت كي يحبوا ويعشقوا وينجبوا . ماله يحمل أعباء الدنيا كأنما قدر عليه حمل خطايا و أوزار الخلق ؟
يتعالى هدير النهر ، بينما تند من الصبي صيحة غضب .. لقد تقطعت الأسلاك و هوت العلبة/السيارة إلى النهر .. نظر مليا إلى لعبته وهي تطفو تارة و تختفي تارة أخرى بين مياه النهر .. ثم انصرف وهو يصفر .. لا شك أنه وجد فكرة أخرى .. لم ييأس . خيل إليه أنه يسمع نداء من بعيد :" أمجد .. أمجد " .. انتفض من مكانه . هل تأتي نادرة ؟ .. نظر إلى مياه النهر .. هل ما يدور في خلده جبن أم أن الخوف من ذلك وعدم الإقدام عليه ضعف و جبن في آن واحد ؟ .. أليس الأولى به و هو العاجز المريض المنهك ألا ينتمي لعالم الأحياء ؟
يترك الجسر و ينقاد من جديد لخطواته حتى يجتاز آخر منزل .. يجد نفسه أمام الجبل الجاثم على المدينة .. يتأمل الصخرة الناتئة أعلاه فتراوده فكرة تسلق الجبل .. تتلاحق أنفاسه و هو يسرع الخطى ، و تصطدم قدماه بقنينات الجعة وبعض الأكياس العازلة .. يحس بالغثيان و يتوقف عند إحدى الصخور و يطل على المدينة . ما أجمل المنظر ؟ .. لكن نفسه عازفة عن كل شيء الآن .. عليه فقط أن يحدد ما يريده.. و ما هو ناو فعله .. يلتفت إلى حيث بعض الكهوف .. حدثه أحد الأصدقاء أن بعض المقامرين يلتجئون إلى هنا للعب والسمر والعشق .. تراوده فكرة الانعزال عن الخلق والتأمل إلى أن يأتي الغد بجديد . و نادرة ؟ .. والأولاد ؟ .. هل يستحملون ؟ .. على الأقل .. سيقول لهم غدا أنه لم يكن طرفا فيما يحدث .. وسيخبرهم أنه ضحى بكل متعاته ولذاته كي لا يكون له يد في الوضع المخزي الراهن .. ماذا أفعل يا ربي ؟
شعر برغبته في البكاء تعاوده .. فليبك .. وهو الذي كان يكرر للأولاد أن الرجال لا يبكون ولا يذرفون الدموع .. وأن بكاء الرجل دليل على ضعفه .. لكنه الآن يبكي دون خجل أو خوف من أن يفتضح أمره ... لو كانت نادرة هنا لكفكفت دمعه و لأوسدت رأسه على صدرها الحنون .. لكن ماذا ينفع كل ذلك مع كل هذا العجز المقيت ؟[/align]
|