عرض مشاركة واحدة
قديم 04 / 05 / 2010, 03 : 12 AM   رقم المشاركة : [99]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: عش رشيد الميموني الدافئ


32
[align=justify]
تمر لحظات أجد في نفسي ميلا للصمت .. قد يكون التعب سببا رئيسيا في ذلك .. لكن الهدوء الشامل و ما يحيط بي من أدغال تحجب عني رؤية الشمس يدفعني لكي ألتزم الصمت وأشرد على إيقاع خطوات البغال الرتيبة .. وبينما تباعدت المسافة بين الرجل ورفيقه من جهة و بيني وبين حليمة من جهة أخرى .. وفي الوقت الذي كانا منهمكين في حديث لا أسمع منه شيئا إلا ما ألحظه من حركات يديهما ، كنا نحن ، أنا وحليمة نلتزم الصمت .. كل يسبح في واد .. أو ربما كنا نفكر في شيء واحد لا نريد الإفصاح عنه .. كل واحد منا كان ينتظر من الآخر أن يبادر ببدء الحديث دون أن يعرف ما يجب قوله .. كنا نلتمس العذر لبعضنا البعض .. وكانت تبدو لي بعض الأسئلة ساذجة على نحو :" ما أجمل النهار.. هل يمكن أن يعود المطر من جديد كما حدث من قبل ؟" أو " هل تعبت ؟ّ" .. وأتردد فلا أضع السؤال .. قد يكون مفتاحا لهذا الصمت الموحش بيننا ..
عما قليل سوف نمر بالطريق الفرعي الذي يصعد نحو عشي الدافئ .. كم هو غامض هذا الإحساس الذي يعتريني و أنا أنظر إلى أماكن فارقتها منذ زمن ، و ها أنذا أراها تنظر إلي بوجل .. ألمس في نظرتها عتابا .. هي تنتظر مني أن أتوقف وأسلك الطريق الصاعد الملتف بين أشجار السنديان لأعانق العش و الشجرة .. هناك بيتي الذي نسيته في غمرة يأسي و انطلاقي نحو البحث عن المجهول .. ترى هل تعلم حليمة ما يدور بخلدي من أفكار وما يعتلج في صدري من أحاسيس ؟ شوقي لتحويل وجهتي يطغى على تفكيري بما سوف يلاقيه تصرفي من إنكار .. لكنه عشي ومن الوفاء أن أذهب إليه لأتفقده ..
الفرصة تواتيني الآن .. فالمسافة بيننا وبين الأب و رفيقه تقلصت حتى صرنا وراءهما ببضعة أمتار .. يلتفت إلينا قائلا :
- عما قريب سنصل .. لم تبق إلا تلك التلة .. منها سنطل على الضريح .
نطقت ودن وعي مني :
- حسنا يا عمي .. سأترككم لبعض الوقت وسألحق بكم .. أود زيارة بعض معارفي هناك .. منذ مدة لم أرهم ..
- طيب .. لكن لا تتأخر .. فحفل الذبائح سيبدأ قريبا .. سنكون بالمنزل الذي يجاور الضريح عند الجهة السفلى ..
- حاضر .. لن أتأخر .. لن آخذ البغل لأنني أفضل المشي راجلا ..
ضحك الرجل ضحكته المعهودة و قال :
- أعرف ذلك .. حليمة وخادمي أخبراني بذلك .. هيا .. في رعاية الله .. لا تنس أن تأخذ زادك معك .
ترجلت عن البغل ونظرت إلى حليمة مودعا فوجدتها تحدجني بنظرات أقل ما يمكنني أن أصفها أنها نارية .. كنت أستشف منها رغبة ملحة في مرافقتي .. أو إثنائي عن عزمي على الذهاب إلى هناك ..
- إلى اللقاء حليمة .. اعتني بنفسك ..
ظلت تنظر إلي دون أن يبدر منها أنها سمعتني . ثم فجأة رأيتها تشيح بوجهها عني عابسة و تلوي لجام البغل تحثه على السير . ظللت أنظر إليها تبتعد رفقة والدها و رفيقه حتى غابوا عن أنظاري .. ثم درت على عقبي مييما شطر الطريق الصاعد .. ملأت رئتي برائحة السنديان المنتشرة في كل مكان من هذا الوادي الغارق في السكون .. وانطلقت أوغل بين الأشجار مترنما بما يخطر على بالي .. منتشيا بكل ما يحيط بي .. أمد يدي نحو الأشجار المصطفة عن يميني و يساري فأحس ببرودة الأوراق الندية في هذا الصباح الزاهي ..
أحس بشهية كبيرة و أنا أنحرف عن الطريق لأجلس على صخرة أعرفها و تعرفني .. اعتليتها و جلست عليها أنظر إلى ما أمامي من بطاح و ربى بدأت تستيقظ متثائبة .. ومع إطلالة أول شعاع من الشمس بدأت الألوان تتشابك بين خضرة العشب اليانعة و حمرة شقائق النعمان القانية . بدت لي زرقة السماء كبحر هادئ .. أكلت بنهم و نهضت أواصل السير .. فضلت أن أسلك طريقا يلتف حول عشي لأصل إليه من جهة المنبع .. كنت أريد أن أفاجئه حتى يكون اللقاء حميميا .
بيد أني ، وخطاي تقودانني بكل شوق نحو المنبع ، شعرت بما جعل قلبي ينقبض فجأة .. إذ لم ألق ما كنت أتوقعه من حميمية الأماكن .. كل شيء من حولي بدا لي جامدا .. مفرغا من كل تعبير .. ماء المنبع ينساب في سكون وانتفت عنه تلك الرقرقة الشجية التي طالما انتشيت بها .. الصخور المنبثقة من بين المياه ظلت صماء لا تعيرني اهتماما .. المنحدر الذي يوصل إلى العش مباشرة فقط ذاك المنحنى الرائع الذي كان يشعلاني بأنني أنزلق تلقائيا نحو شجرتي .. بل ، ما الذي أراه هناك ؟ .. هل أكون ضللت الطريق ؟ .. لكن بيتي لا يزال في الجهة السفلى بجوار النهر قابعا في وجوم هو أيضا .. لكن الشجرة الفارعة .. الدوحة التي احتضنت عشي و وكر العصفورين .. أين هي ؟.. هل تكون ما أراه من بقايا جذع يابس ينتصب كرأس شيطان ؟
ما الذي حدث ؟ وكيف وصل عشي إلى هذه الحالة ؟ بل أين هو هذا العش ؟ ..
حلق فوق رأسي غراب ينعق وهو ينساب في الفضاء .. خيل إلي أن نعيقه قهقهة .. كل ما حولي يقهقه ساخرا من حالي و أنا واقف كالمعتوه أنظر يمينا و شمالا .. بل إني استطعت تمييز ضحكة مألوفة عندي .. ضحكة تذكرني بجدائل الشعر الغجري و بالعينين النجلاوين .. هل تسخر مني أنت أيضا ؟ .. ماذا تريدين مني ؟ .. لماذا تتعقبينني وتسألين عني أينما حللت و ارتحلت ؟ ماذا يدور في رأسك الشيطاني هذا ؟ .. اضحكي الآن .. فأنا لم أنل منك سوى ما يسبب لي الألم .. حتى لحظات العشق التي منحتني إياها على الغدير في ذلك اليوم الممطر لم أعد أحس بعذوبته .. بل إنه صار الآن في حلقي اشد مرارة من العلقم . لطالما حسبت هروبك تمنعا و دلالا .. وتخيلته في أزهى أوقات تفاؤلي ، نوعا من الغنج .. لكني الان أراه فقط عبثا و لهوا مجانيا لا ترومين من ورائه سوى التلذذ بألم الآخرين الاستمتاع برؤيتهم يجرون من ورائك لاهثين إلى ما لا نهاية . كم من العشاق غيري جروا وراءك .. وكم منهم جن لما فعلته بهم ؟ .. لكن عليك أن تعلمي أنني لست مثلهم .. وإذا كنت قد سايرت عبثك و نزواتك ، فإن ذلك لم يكن سوى إلى حين .. وقد جاء هذا الحين وانقشع ضباب السراب من أمام عيني .. صارت الرؤية أمامي أكثر وضوحا وباستطاعتي تلمس طريقي بكل ثبات عكس ما كنت عليه من التيهان الضياع .. وداعا وإلى غير رجعة .. لن أندم على شيء مثل ندمي على ضياع كل هذا الوقت في الجري وراء السراب و اللهاث خلف الوهم .
جلست منهكا وأسندت ظهري على جذع الشجرة الجاف .. ذكرتني وضعيتي باليوم الذي ذهبت لأعود بحليمة من عند خالتها ..
حليمة ؟ .. ترى ما كان شأنها بعد أن ودعتها ؟ .. مسكينة .. كم أكون قد سببت لها من آلام ؟ .. يا لي من ساذج غر .. تخيلت أن وداعي لها قد يكون الأخير و أنني سوف أرتع و أمرح قرب عشي ممنيا النفس بلقاء من جاءت تسأل عني في بيتها ..
سراب في سراب .. ووهم في وهم .. علي الآن أن أحسم في أمر عشي .. هل أطيق وداعه ؟ .. إلى أين اذهب ؟ .. الجواب لم يتأخر وجاء محملا بنشوة اللقاء القريب عند الضريح . لكن هل أفرط في عشي فقط لأن غادتي .. أو على الأصح من كانت غادتي سببت لي كل هذا اليأس بنزواتها و غموضها ؟ .. هل أعود لأعيش هنا لوحدي ؟ .. لا أستطيع .. لكني على يقين من أني قادر على رفع التحدي و إرجاع عشي الدافئ إلى ما كان عليه من نضارة و بهاء .
فورا .. نهضت أنفض عني الغبار .. و أسرع في الانحدار من جديد لا الوي على شيء ، لأصل إلى الطريق المؤدية إلى الضريح وقد انتفى عني شيئا فشيئا شعوري بالكدر .. وصرت أستدني الوصول لأنعم بمتعة السوق و بمباهج اللمة ..


[/align]
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس