[frame="15 98"]
من نصوصي النّثريّة:
من مذكّراتي....
بين الأدب وبيع البطّيخ....
الشّارع الضّيق يعجّ بالمارّةِ، وأنا من بينهم..
طالعني وجهي المكفهرّ في مرآة وُضعت على واجهة استديو للتّصوير يجاور مكتبة النّجمة، حيث كنت أحثّ الخطا متّجهة إليها..
شيء ما كان يضايقني.. أعرفه جيّداً.. أفهمه.. أشعر به..
حاولت أن أبتلع غيظي، فيما مسبّب غيظي يصيح بأعلى الصّوت: (للصّيف يا بطّيخ.. للضّيف يابطّيخ.. لغدر الزّمن يا بطّيخ... )
قرب رصيف المكتبة تماماً، وقف صاحب العربة بعد أن كوّم فوقها بطّيخاته الخضر السّمان..وقد كتب على بطاقة صفراء بخطّ نشاز مثل صوته: (ملك البطّيخ!!!).
الشّارع هنا لايبدو سوقاً للخضار، بل هو مكتبات متّصلة لايقطع بينها إلاّ محلاّت مشابهة لبيع الكتب..
قلت في نفسي وأنا أجرّب آخر طاقة أملكها في كظم الغيظ.. أين يظنّ هذا الرّجل نفسه؟؟
ولم لا يجرّ عربته ويمضي بها إلى سوق الخضار القريب؟؟
أين رجال القانون منه؟؟ أين شرطة المجلس البلدي؟ أين الحكومة؟ أين؟؟ وأين؟؟
ضحكت موظّفة المكتبة نوال وهي تستقبلني: كالعادة.. وضع صاحبنا عربته في المكان المخصّص لموقف الزّبائن؟؟ .
ثمّ سألتني: أين أوقفت سيارتك؟.
قلت لها بحنق: على بعد شارعين من هنا.. ألا تعرفين صعوبة الحصول على مواقف للسّيّارات في هذا الشّارع؟. .
- لا حول ولاقوّة إلاّ بالله العليّ العظيم!..
قالت موظّفة المكتبة، ثمّ أردفت في محاولة مفضوحة لإخفاء تواطئها مع بائع البطّيخ: مسكين.. عنده سبعة أطفال في المدارس، ويريد أن يأكل رزقه بالحلال!..
قلت لها بسخط: ألا يمكنه أن يأكل رزقه بالحلال في المكان المخصّص لعربات الفاكهة والخضار؟.
لم أضف، بل رحت أتفقّد الصّحف والمجلاّت ومستلزماتي المكتبيّة..
ولأوّل مرّة يطول غضبي، لأكثر من دقائق عشر!!
ذلك لأنّ صاحبنا لم يعطني فرصة تمكّنني من نسيان فعلته الشّنعاء..
صوته مازال يهشّم رأسي بحجارة هي أشبه بجلمود صخر حطّه السّيل من علٍ!!
- للصّيف يا بطّيخ.. للضّيف يابطّيخ.. لغدرات الزّمن يا بطّيخ...
أنهيت تسوّق احتياجاتي المكتبيّة، وخرجت على عجلة من أمري، وأنا عازمة على أن أرمق صاحب البطّيخ بنظرة تنسيه حليب أمّه..
وهممت بذلك، واتّجهت من باب المكتبة المواجه له، كي أتمكّن من النّظر إلى عينيه الوقحتين!!
كانت أقلّ من ثانية اندفع بعدها الرّجل بكلّ قوّته نحو الشّارع يعدو، تاركاً العربة وكومة البطّيخ والزّبون المشتري وأنا في ذهول ما بعده ذهول!!
الفكرة ارتطمت برأسي ارتطاماً مفاجئاً، استدعت منّي التفاتةً إلى الخلف..
وإذ بدوريّة من شرطة البلديّة قادمة في السّيّارة البيضاء المعروفة!!
أعرف أنّ القانون يمنع بيع الخضار في غير أسواقها المخصّصة لها. والعقوبة لا تقتصر على حجز ومصادرة العربة والبضاعة، بل تتعدّى ذلك إلى غرامة محترمة لايكفيها كدح شهرين متواصلين ليل نهار في بيع البطّيخ وغير البطّيخ..
والحقيقة أنّ هذا ما كنت أتمنّاه، قبل أن أرى أبا العيال السّبعة يركض في الشّارع مضحّياً بعربة البطّيخ وبكومته..
لكنّني في أقلّ من جزيء من الثّانية غيّرت رأيي..
نظرة واحدة رمقني بها ملك البطّيخ قبل أن يهوي عن عرشه.. فهمت منها أنّ عربته صارت أمانة عندي!! ويالها من أمانة!!
ووجدت نفسي بلا إرادة، ولاشعور، أمسك بقبضتي العربة الخالية من ملكها وأتحوّل إلى ملكة البطّيخ، لأواجه عن غير سابق تصوّر وتصميم أفراد الدّوريّة وهم يترجّلون من سيّارتهم!!..
أقبل الشّرطيّ الأوّل يسألني بلباقة: أين صاحب العربة يامدام؟.
بدون تردّد قلت له: أنا!..
افترّ ثغر الشّرطي وهو يتأمّل ثوبي الأزرق الأنيق، وحقيبة يدي الجلديّة الفاخرة..
ثمّ قال: أنا جادٌّ.. أين صاحب العربة؟.
قلت له بتصميم أكبر: وأنا جادّة..قلت لك، أنا.. .
عاد الشّرطيّ ليبتسم من جديد، ويقول: هذا يعني أنّك ستتحمّلين المسؤوليّة كاملة عن هذه المخالفة؟.
هززت برأسي علامة الموافقة..
في تلك اللّحظة انضمّت إليّ نوال موظّفة المكتبة، وهي تحاول ابتلاع قهقهة كادت تخنقها.. ونادتني بما يشبه الهمس وهي تقبض على ذراعي: أستاذة.. تفضّلي إلى الدّاخل واتركي العربة من فضلك..
وتمسّكتُ بمقبضي العربة، كان في راحتيّ قوّة عشرة رجال يشدّونها نحوي..
أحسست وكأنّني أواجه مصيراً لاتوسّط فيه بين الصّدر أو القبر!!
حاول أحد رجال الشّرطة أن يشدّ العربة من يديّ، لكنّه شعر باستبسالي في التّمسّك بها..
وقال: أتركيها من فضلك مدام.. العربة مصادرة!..
فقلت، دون أن ألتفت إلى أنّ المتجمهرين حولي صاروا أكثر من أن يعدّوا!!
قلت: على جثّتي!!.
وقهقه الشّرطيّ قهقهة زادت غيظي غيظاً، وشعرت بأنّ دمعة توشك أن تنفلت من عيني.. لكنّني زجرتها أيضاً، وقلت في نفسي: على جثّتي أنتِ أيضاً..
ورحت أنهال على الرّجال بمحاضرة ارتجلها الموقف الّذي لا أُحسد عليه!!
- هكذا أنتم، تكبّلون الفقير المسكين بحبال القانون، وتتركون الحبل على غاربه للسّارقين الكبار، بل تعينونهم على ظلم المستضعفين المحرومين.. بدلاً من أن تستقووا على هذا المسكين إبحثوا عن اللّصوص والمجرمين.. ألا يوجد في قلوبكم بعض من الرّحمة...و..و...
المزعج في الأمر أنّ لا أحد من رجال الشّرطة قبل أن يردّ على اتّهاماتي الغاضبة وألفاظي الجارحة، وتمسّكوا جميعاً بكلّ الأدب والاحترام: من فضلك مدام.. إذا سمحتِ.. اعملي معروف..الله يسامحك!!.
أفهم أنّهم ينظرون إليّ على أنّني من ناقصات العقل والدّين.. وأفهم أنّ كلّ واحد منهم يعتبر نفسه في حال نجحتُ في إثارة غضبه، قد هوى إلى أرذل المراتب.. وهي أنّه أهان رجولته، وتشاجر مع امرأة!!
ومع ذلك.. لم يتراجعوا، وظلّ دفتر محضر المخالفات في يد قائد المجموعة، والقلم في يده الأخرى في انتظار أن أتخلّى عن مقبضي العربة..
وفجأة.. تدخّلت العناية الإلهيّة، بمرور أحد جيراني في السّكن، ورآني على هذه الحال المزرية، بين أخذ وردّ مع رجال شرطة البلديّة، وسمعني: العربة لن تأخذوها.. هي أمانة عندي في انتظار عودة صاحبها!..
- لكنّ صاحبها لن يعود لأخذها، لأنّه إن فعل سيدفع فوق العربة عربتين!..
قلت بثقة وتحدٍّ: إذاً لن تأخذوها!..
جاري أبو صلاح رفع يده بالسّلام، فحيّاه جميع أفراد الدّوريّة باحترام وإجلال..
وتذكّرت أنّ أبا صلاح هو الأستاذ سهيل المحامي المخضرم، اللاّمع والمعروف..
الحمد لله.. وصل في وقته..
حيّاني بأدب جمّ، وقال: خير أستاذة؟..
قال له الشّرطي الأوّل بسخرية: ألقينا عليها القبض تبيع البطّيخ في منطقة يمنع فيها وجود عربات الخضار!..
وضحك أبو صلاح.. ضحك ضحك.. كما لم يضحك في حياته، فشاركته الضّحك بابتسامة صفراء.. في انتظار ما ستسفر عنه علاقة الجيرة.. ونظراتي المتوسّلة..
تقدّم أبو صلاح وهمس في أذن الشّرطيّ، ولم يطل الكلام، سرعان ما قال لي الشّرطي: كرمال الأستاذ سهيل، وكرمال الأدب والشّعر، لن نحرّر ضبطاً بالمخالفة، ولن نصادر العربة.. شرط أن تخبري صاحبها بذلك، فإن عاد عدنا...
فهمت أنّ الأستاذ سهيل قال شيئاً ما يخصّني.. ولم أميّز إن كانت سيرة الأدب والشّعر في مقام المدح أم الذّمّ والتّهكّم.. لكنّ الّذي كان يعنيني في تلك اللّحظة هو العربة!!..
لا أدري من أين حصلت على كلّ عبارات الشّكر الّتي هتفت بها في تلك اللّحظة..ورحتُ أتبِعُ العبارة بالعبارة..
- ألف شكر.. شكراً جزيلاً.. أعدكم بأنّ صاحب العربة سيرحل بها إلى سوق الخضار، شكراً أبا صلاح.. شكراً أيّها السّادة...
وتعاقب المحتشدون في الخروج من دائرة الحدث الواحد تلو الآخر.. ونوال تقهقه، وتشدّني من ذراعي هامسة: يكفينا (بهدلة) اليوم.. أتركي العربة وادخلي إلى المكتبة...
بصراحة، لم أقدر..
العربة أمانة، والرّجل قد لا يعود قبل ساعات..
وقوت العيال السّبعة؟؟
قالت نوال: تبرّعي له بأجر يوم من راتبك وأمرك إلى الله...
كادت الفكرة تروق لي لو لم يسألني أحد المارّة: بكم كيلو البطّيخ يا سيّدة؟!!.
أيّ فرح ملأ نفسي في تلك اللّحظة؟؟!!
هتفت بنشوة ما عرفتها من قبل: بمئتين وخمسين ليرة.. تريد بطّيخة؟؟.
وصرخت نوال بي: أستاذة!!.
قال الرجل مستغرباً: أين صاحب العربة؟.
قلت له: أنا مكانه ريثما يأتي.تفضّل يمكنني أن أبيعك..
لم أزد حرفاً واحداً، بل انطلقت فوراً إلى العمل، وانتقيت واحدة من البطّيخات المكوّمات، ثمّ رحت أضرب عليها بيديّ مثلما يفعل بائع البطّيخ تماماً، وألقيتها في الميزان..
بعد ذلك قلت: وزن البطّيخة ستّة كيلو غرامات.. والتّمن هو ألف وخمسمائة ليرة، وبالهناء ..
نقدني الرّجل الثّمن، وتهافت بعده الزّبائن، ونوال تضع رأسها بين كفّيها وهي غير مصدّقة ما تراه!!!
كومة البطّيخ بدأت تتهاوى.. بطّيخة تلو الأخرى، والمال في الكيس الصّغير يزداد..
ونوال تتذرّع بجردة الحسابات كي تصرف زبائنها.. وتتمتّع بمراقبة المشهد الّذي لايتكرّر..
ساعةٌ كاملة مرّت، والبطّيخ بين يديّ..وسط دهشة المارّة وذهولهم، إلى أن ظهر صاحب العربة قادماً من بعيد على خوف يترقّب..
كان وصوله أشبه بالعيد عندي..
وتحوّل صوته النّشاز وخطّه النّشاز إلى عندلة وتغريد، وهو يرتّب عبارات الشّكر..
دموعه أفصحت عن امتنان عجزت شفتاه عن الإحاطة به، وراح يعدّ ماله، ويقسم أنّه لو كان مكاني لما نجح في بيع كلّ هذه الكمّيّة من البطّيخ خلال هذه المدّة الوجيزة..
لم يكن السّبب مجهولاً.. إنّه غرابة المشهد: سيّدة تبيع البطّيخ في ثوب أنيق!!
المتفرّجون تحوّلوا إلى زبائن هذا كلّ مافي الأمر..
والرّجل تسلّم عربته بثلاث بطّيخات لم أنجح في بيعها، قدّم لي منهنّ واحدة كهديّة...
قبلتها شاكرة، رغم علمي بأنّها أصغر البطّيخات وأقلّهنّ شأناً..
حين رجعت إلى البيت، كنت أسترجع في بالي ذلك الحدث الغريب بكلّ تفاصيله...
ولأوّل مرّة مررت بعربة بطّيخ أخرى على جانب الطّريق المفضية إلى بيتي، فنظرت إلى صاحبها بإعجاب كبير.. نظرات لم يعوّدني صلفي المَقيت على أن أرمق بها أولئك المستضعفين من البشر إزاء كفاحهم البطوليّ في رحلة البحث عن قوت العيال....
وصار الشّارع الممتدّ أمامي كلّه بطّيخاً في بطّيخ..وكأنّ السّماء أيضاً أمطرت بطّيخاً!!.
ملك البطّيخ!!! عبارة تتكرّر كتابتها على بطاقات صغيرة تزيّن عربات الخضار..
كانت تضحكني في الأمس.. لكنّها منذ ذلك اليوم تحوّلت إلى أقلّ شهادة تقال في هؤلاء المجاهدين على دروب التقاط الرّزق الحلال..
وحملت خلاصة نهاري بسؤال، عرفت الإجابة عليه قبل أن أختم يومي في مهد انتظار الغد..
ما الّذي نختلف عنه نحن المصنّفين أنفسنا في خانة المثقّفين العباقرة عن بائعي البطّيخ؟؟
الجواب: ( كلّنا في الحياة بائعون... وكلّنا نزيّن بضائعنا: للصّيف، للضّيف، لغدرات الزّمن..وكلّنا نفرّ من القانون ورجاله حين يضيّقون الخناق على رغبتنا بالمخالفة، وكلّنا نحسب أنفسنا ملوكاً أمام عربات بيعنا..
لكنّ بائعي البطّيخ أرقى فكراً منّا.. إذ إنّ تصنيفهم أنفسهم بين الملوك لايعفيهم من أن يكدحوا بزنود العمل في ساحاته، بابتسامات تجعل من كلّ عابر سبيل أميراً في ممالكهم العجيبة.. فيما نأنف من أن نجلس على كرسيٍّ هوت على مرفقها ذرّة غبار، موزّعين على البشر نظرات التّعالي والاستكبار...)..
بعد أسبوعين من الحادثة ذهبت إلى المكتبة، و التقيت بنوال لأوّل مرّة بعد الحادثة الشّهيرة، فبادرتني بقهقهة عالية مازالت تمتدّ منذ يوم العربة التّاريخي إلى الآن..
قبل أن تودّعني سألتني: ( لم تمسّكت بعربة لبطّيخ تمسّك المستبسلين، وفعلت ما فعلته؟؟).
قلت لها جوابي الصّادق الوحيد: ( كانت عربة البطّيخ في ذلك اليوم تساوي مكتبتي.. ومكتبتي تساوي عندي حياتي!.)..
قلت هذا ومضيت إلى سيّارتي الّتي رصفتها على باب المكتبة تماماً... لأنّ الملك ترك عرشه هناك فارغاً.. فتربّعت عليه، لكنّني لست أدري إن كنت سأملأه أم لا؟؟
[/frame]