رد: خريف الأحزان
طويت صفحة "كريم" في زمن النسيان، كما طويت غيرها من صفحات الذين غادروا هذه الدنيا إلى غير رجعة، مرت ساعات يوم العزاء كأنها سني طوال من الدهر .. كنت حاضرة غائبة، قلما أجيب عن سؤال أو أنبس بكلمة، ما ادري فيما كنت افكر وقتئذ..
صرت انتظر الليل على ما هو أحر من أحر من الجمر.. و جاء المساء متثاقلا يحمل في طياته كآبة و حزنا على فراق هذا الشاب و مصابه الجلل.. كان صديقا حميما لأخي الاصغر. في ذلك اليوم، كان في طريقه للعودة من مدينة مراكش، هو لم يكن يدري ما الذي حمله على السفر إلى هناك، كما أخبر أخي عندما هاتفه ليسأله الخروج سوية للنزهة، كان يسوق سيارة .. وحده في الطريق.. إلى جانبه صديق له ثالث ..فجأة ... انقلبت السيارة بمن فيها .. نجا صديقه بأعجوبة، و حمل هو إلى الإنعاش.. كان حاله ينبئ أنه ميت لا محالة.. و في الطريق إلى المستشفى، لفظ أنفاسه الأخيرة و أسلم الروح إلى باريها...
لا إله إلا الله.
الكون كله سائر بمقادير و مكاتيب.. كان قدره أن يسافر و يموت بالطريق.. صدق الحق إذ قال : " ما تدري نفس بأي أرض تموت"
أمضيت المساء كله على هذه الحال ساهمة واجمة شاردة الذهن لا أتكلم و لا أشرب و لا آكل.. حتى سكن الليل.. و هدأت الحركة.. فانطلقت إلى مكاني قرب النافذة.. فتحتها بيدين مرتعشتين و أخذت مجلسي المعتاد..
حاولت أن أجول ببصري هنا و هناك.. لكني ما استطعت.. كانت صورة الشاب المتوفي تطارد مخيلتي ، و كنت أراه أيما اتجاه.. رباه.. صدري ينقبض من الحزن و الأسى أنا ابنة الجيران فقط ، فكيف بأمه و أبيه المسكينين، على ما يبدو أنهما صابرين، لكن لكل طاقته في الصبر.. فاللهم أعطهما صبرا و زدهما صبرا فوق صبرهما.. و الزمن كفيل بإطفاء بعض من لوعتهما عن فقدان ابنهما ...
صوت ديك يصيح من بعيد ترامى إلى مسمعي، و ها هو صوت الحق ينادي معلنا عن صبح جديد.. بعد برهة تسللت خيوط بيضاء إلى غرفتي، و أتتني أمي تريد إيقاظي فأجبتها و قمت للصلاة..
كنت أشعر بالتعب يسيطر على جسدي فقمت لتوي و أخذت أكتب علني أزيح بعض ما انتابني من فتور...
كتبت و بكيت، و ملأت صفحات من كلمات و عبارات ما كنت ادري كنهها ، ثم طويت انا الأخرى بدوري صفحة "كريم" و حاولت أن أواسي والديه كلما تسنى لي ذلك، خاصة انهما الآن صارا وحيدين ...
في الليلة الموالية ، خيم سكون رهيب على الحي.. ربما كان مشاركة في الحزن حتى من الجماد على هذا المصاب..
الشجرة الجدة تحضن في حب تلك الحمامة و صغارها.. و القمر يضيء الكون كعادته، و النجوم متلألئة في جو السماء، ..
.. و تستمر الحياة
|