رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
خامساً – الشخصية الفلسطينية والامتداد:
كان طبيعياً أن تصرّ الشخصية الفلسطينية منذ البداية على الامتداد تعبيراً عن القوة والتماسك والنهوض الدائم. وكانت أولى علامات الامتداد هذا التطلع إلى الأرض العربية، والشعب العربي، في إصرار مستمر على أن الشخصية الفلسطينية لا يمكن أن تأخذ معناها بمعزل عن العروبة، فهي شخصية عربية فلسطينية، تسعى إلى تأكيد مثل هذه الهوية في كل حين.
من جهة ثانية أصرت الشخصية الفلسطينية على الامتداد ، للتواصل الدائم مع الأهل اللاجئين ..وكان هذا الامتداد مرتبطاً بالإصرار على أن شعب فلسطين شعب واحد يتطلع إلى تخليص أرضه من الاحتلال ليعيش من جديد في ظلال الحرية، بعيداً عن اللجوء والتشرد.. فكيف تبدّت ملامح هذه الصورة؟؟.
الشاعر حسين مهنا يرى في قصيدته "أبصر من خلل الفرح الجامح" أن الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل لا يستطيع أن يعيش فرحاً كاملاً، أو حياة سعيدة، ما دام يشعر بأن هناك جزءاً منه يعيش خارج أرضه ووطنه، لذلك كانت الصورة كما يقول حسين مهنا: "حين يعانقني طفلي / أرجع طفلاً / أصرخ في فرح الأطفال / أصفّق / أضحك من أعماق الأعماق / أقفز.. أركض.. ألعب / لكن / من خلل الفرح الجامح / أبصر في عينيّ طفلي / طفلاً آخر من شعبي / يتعذّب" بما يعني أن الفرح ناقص، الأمان ناقص، جمالية الأشياء ناقصة، والتطلع مستمر إلى الأهل اللاجئين.
مثل هذه الصورة تتكرر عند حسين مهنا في هذه القصيدة، لتقول بالأشياء المشطورة الناقصة التائهة باستمرار، حيث: "حين يعانقني النوم / ويسري خدر في جسدي المتعب / أتراخى فوق سريري الدافئ في كسل / أتمطّى.. أتثاءب / لكنّي / من خلل الدفء الناعم في جسدي / أبصر شيخاً مقروراً من شعبي / في ليل الغربة / يتقلّب..".. وهكذا تبقى الصورة بحاجة إلى ألوانها لتكتمل وإلى خطوطها تكون أكثر دفءاً.
إن امتداد الشخصية الفلسطينية بهذا الاتجاه، وبما يعني التطلع إلى عودة الأهل، كان معبراً عن الارتباط بالأمل والتفاؤل، وهو ما يتأكد عند الشاعر عدوان علي الصالح في قصيدة "بابا نويل فلسطيني" حيث:"لمعلوماتكم جدّي تشرد عن / ثرى أجداده والخال والعمّهْ / لمعلوماتكم جدي / يعيش الآن في خيمهْ / لمعلوماتكم / لم يفقد الهمه" وفي قصيدة "أحلم"حيث: "أحلم يا شعباً يسكن في خيم وبيوت من طين / أحلم بالعودة يا أهل فلسطين "وفي قصيدة "أغنية فلسطينية" حيث: "متى يا أيها العصفور تأتيني / ببشرى عودة الشعب الفلسطيني / فهذا البعد قد طالا / وليل الظلم ما زالا" و"أنا والشعب أغنية / ولكن / صدرها في اليتم قد شبّا / وأما العجز يا عصفور / فهو يعيش في الغربه.."..
وطبيعي أن كل ذلك لا يتحقق إلا بزوال الاحتلال، فالشعب الفلسطيني الذي يعيش جزء منه في الوطن المحتل ويعاني ما يعانيه من فقدان الحرية، يتطلع إلى الزمن الذي يزول فيه الاحتلال لتشرق شمس الحرية من جديد. والشعب الفلسطيني الذي يعيش الجزء الآخر منه، بعيداً عن أرضه ووطنه، يتطلع إلى الزمن الذي يزول فيه الاحتلال ليعود إلى أرضه. وكل ذلك يطرح الصورة القائلة بأن هذا الشعب يبحث عن الحرية والحياة وإشراقة الشمس، وأن هذا لا يتحقق إلا بالخلاص من الاحتلال.
إلى أين نصل بعد كل ذلك.. وماذا تقول الشخصية الفلسطينية من خلال قراءة ملامحها في الصورة الشعرية؟؟.
إن الشخصية التي تبرز ملامحها على هذا الشكل من الإصرار على الثبات والصمود في أرض فلسطين، من خلال التداخل والتوحد مع كل مفردات الطبيعة، إنما تقول بشخصية قادرة على المقاومة والتحدي والمواجهة، ورسم معالم النهارات المقبلة بثقة متزايدة. إذ أن استناد الشخصية إلى كل هذه المساحة من التماسك، إنما يحدد القدرة على الوقوف الشامخ باستمرار.
وإن الشخصية التي تبرز ملامحها على هذا الشكل من الإصرار على الحب الدافئ العميق المتصف بعشق كل حبة رمل من تراب الوطن، وبالإصرار على تسييج كل زهرة بالروح والدم والشريان فداء وتضحية، إنما تقول بشخصية قادرة على التواصل مع نبض الأرض حتى آخر نفس، إذ من غير الممكن لهذا الحب العميق الراسخ، أن يتراجع أو ينهزم، فهو حب يقدم كل شيء من أجل الحبيبة فلسطين.
وإن الشخصية التي تبرز ملامحها على هذا الشكل من الإصرار على الانبعاث والتحدي، إنما تقول بشخصية مؤمنة غاية الإيمان بحبها لأرضها، وبقدرتها على زرع الحياة من خلال الفداء والتضحية. وحين يكون الدم عنوان طلوع إلى الشمس، فهذا يعني التصاقاً بمفردات الفجر ودخولاً في معانيه. إذ من غير الممكن لشخصية ترى في بذل حياتها من أجل حياة الآخرين عنوان فرح، أن تتأخر أو تتقاعس عن الدخول في قاموس المقاومة والتحدي. ومن هنا أهمية بروز ملامح القوة في حالة الذوبان من أجل حياة الآخرين.
وإن الشخصية التي تبرز ملامحها على هذا الشكل من الإصرار على تجاوز العذابات والمعاناة والقهر، للقبض على معاني الفجر الطالع، إنما تقول بشخصية ذات ملامح قادرة على صوغ المستقبل بالشكل الذي تريد. فالعذاب هنا محرك لإشعال فتيل المقاومة، وليس محركاً لآلية الانطواء والارتداد والانسحاب. وعلى هذا كانت الشخصية الفلسطينية شخصية ثابتة الخطوات في السير على طريق المقاومة والمجابهة.
وإن الشخصية التي تصر على الامتداد نحو الجذور والمحيط والأهل، إنما تقول بشخصية منفتحة دائماً على معانيها. ومثل هذه الشخصية لا يمكن أن تنغلق على الذات الضيقة، ما دامت مؤمنة كل هذا الإيمان بذاتها الكبيرة الواسعة، فهي شخصية عربية فلسطينية، ترى صورتها في كل صوت عربي، وفي كل نبض فلسطيني، لتكون شخصية الأمل والتفاؤل والإيمان بالمستقبل.
أخيراً، لا بد من القول، إن ملامح الشخصية الفلسطينية في الصورة الشعرية عند شعراء الجيل الثاني في الوطن المحتل، إنما تدل على شخصية تسعى باستمرار إلى نيل حريتها، من خلال الإصرار على متابعة السير على طريق العطاء. وإذا كانت مثل هذه الشخصية قادرة على ذلك، فلأنها شخصية متماسكة قوية عميقة الجذور.
[/align]
|