رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
الفصل الثالث
الدخول في مسافة الحلم
ما معنى مثل هذا الدخول في مسافة الحلم، وإلى أي شيء نريد الوصول؟؟ في هذا المجال لا أسعى إلى طرح إجابات تؤدي إلى هذا المعنى أو ذاك في فهم آلية المسافة وأبعادها، بل أريد التواصل مع مفردة تحاول أن تعطي الحلم معناه الغني القادر على رفد الشخصية بشحنة غير متناهية من القدرة على الثبات والتماسك. إذ الحلم في مثل هذه الحالة لا يعني انفصالاً أو ابتعاداً عن الواقع، كما لا يعني هروباً أو سقوطاً في السلبية بأيِّ شكل من أشكالها. الحلم هنا قراءة واعية للحاضر، وتطلع مليء بالتفاؤل للمستقبل. بذلك يكسر الشاعر المعنى ذا الوجه الواحد للمفردة ليقول بالانفتاح على كل المدارات الممكنة والمرئية. إذ العين التي ترى الواقع بأبعاده ومضامينه، تستطيع في الوقت ذاته أن ترى المستقبل بأبعاده ومضامينه، كما تكون القدرة في أعلى وتيرة لها على تجاوز أي انغلاق أو ضغط من خلال التواؤم مباشرة مع حالة الحلم بما تعطيه من إصرار على التفاؤل.يمكن هنا أن نسمع شيئاً من قصيدة "أغنية إلى موسم المطر" للشاعر سيمون عيلوطي حيث: "لا بد أن تجيء في الصباحْ / قوافل المحرم المباحْ / وعندها سيورق الشجرْ / يضيء في سمائنا القمرْ / وفي فيافي عيشنا / سينشد المطرْ.." فالانتقال إلى مسافة الحلم في مثل هذه الحالة، يعطي الشاعر شحنة من التوافق مع القادم من جهة، وقدرة كبيرة لتحمّل الصعوبات الآنية والضغوطات المستمرة. في مثل هذا الخط من التعلق بكل مساحة الضوء المقبلة، يفتح الشاعر العين والقلب والاحساسات لتكون في وقع جديد يستطيع أن يثبت ويصمد ويقاوم. هنا كان الحلم قوة وقدرة واستطاعة توصل إلى قراءة المستقبل بوعي، وإلى إعطاء ألوان زاهية للحاضر من خلال الإصرار على استمرار الثبات.
الشاعر نعيم عرايدي في قصيدة "اشهديني رافعاً جبلاً" يحول صورة الحلم إلى لوحة تتأرجح بين حالتي الإمكان واللاإمكان، إذ يرى "إن التحمت جفوني في عيوني / اعذروني / أو التصقت شفاهي في نهود الأرض / في الأرض اتركوني / لأني كنت في المنفى بلا أم.." فإنه يريد أن يرضع من نهود الأرض، وكأن الحلم يرده إلى الطفولة فتكون الأم أرضاً ترضعه حليبها الدافئ.. وطبيعي في مثل هذه الحال أن يكون الشاعر مشتعلاً بمساحة الحلم إلى آخر حد، لأنه يغيب تماماً في الصورة. ونعود مرة أخرى إلى القول، إن مثل هذه الحال تؤكد من جهة أخرى على الارتباط بالواقع المقاوم حيث تصر على هذا التداخل مع الأرض.
في "مطر أيلول فوق بيروت" يرى الشاعر نزيه خير كيف وقفت فيروز على نافذة البحر ونادت، و"كم تشبه عينيك الباكيتين ليالي أيلول / ذكرني فيك المطر الساقط فيه / ذكرني وبكيت كثيراً" فالورق "الأصفر أغنية أو ذهب مشغول / تحمله الريح لأطفال / ركضوا في ليل الثلج وضاعوا / ركضوا / من جبل الكرمل حتى شباك البحر على مدخل بيروت" لتكون المواءمة بين صوت الأغنية الدافئة، وصوت المطر الدافئ، وصوت أجراس الحلم الدافئة أيضاً. وطبيعي أن يؤدي كل ذلك إلى شفافية حزينة تريد أن تنفتح على الجرح وأن تقوله بلغة ما. الحلم هنا يصعد بشكل سريع إلى الذات الباكية الداخلة في مساحة الجرح ليقول صورة التواصل مع الأرض والوطن والإنسان والخصب وما شئت من صور. ولنا أن نرى إلى مد المفردة وغمسها بكل هذه الشفافية لتدخل في تناغم تام مع الأغنية الفيروزية.. وتبقى المسافة مفتوحة على الكثير والكثير من الاحتمالات.. في "أغنية للأرض"للشاعر عطا الله جبر نقرأ "مهما فعلوا / سنعود صباحاً للأرض / ونضيء الدنيا بعودتنا / لتراب الأوطان الحرة" لنجد صورة الحلم في توافق مع صورة التوقع والتمني والتفاؤل. هنا لا يقول الشاعر بحالة من حالات الحلم الذي يرسم صورة تخطر على البال لتكون ملجأ ومتكأ، ولكنه يترك الحلم ليكون في مسافة المستقبل. وطبيعي أن يكون عطا الله في مثل هذا التصور مسكوناً بالكثير من التوقع والجوع ليوم آخر لا يرى فيه صورة الاحتلال بما تحمل من ضاغط وألم وعذاب "مهما فعلوا" الشاعر هنا يدخل في لحم الواقع لينطلق من خلاله بسرعة إلى المستقبل الذي يحمل الدفء والصورة المشرقة..
نتساءل هنا أيمكن للحلم أن يموت، وما هي الحالة التي يحدث فيها ذلك؟؟ نقرأ عند الشاعر سليمان دغش في قصيدته "احتراق" ومن خلال خطابه لأرضه:"جاؤوا إليك وكنت حالمة / كنجم عند شباك الخيال / تستلهمين الصبح أن يأتي / بمنديل ربيعي وشال / داسوا على أحلامك الخضراء / واغتالوا الهلالْ.." لنلامس الكثير من الألوان القاتمة أو الذاهبة إلى حد بعيد في حالة الحزن. الشاعر يتحول في لحظة من لحظات البكاء على صدر الأرض إلى شاعر مسكون بالهم والأسى والفاجع، وهنا تسقط المرآة لتتناثر جارحة في كل اتجاه. ولكن هل مات الحلم حقاً.. أو ما هي الأحلام التي سقطت صريعة هنا..؟؟..
تقول الإجابة إنها الأحلام التي ذبحت مع الاحتلال.. الأحلام التي قتلت وهي في أوج الجمال والرونق.. ولكن هل انتهى كل شيء عند هذا الحد..؟؟ هذا غير معقول طبعاً.. فبعد انكفاء لحلم، كان النهوض المعبر عن الوقوف من جديد.. هنا استعادت الأحلام جميع خيوطها ووضعت معالم الدرب من جديد "وكبرت أنت على صليبك / صرت آلهة النضال" كبر الهوى "لا بأس إن نحن احترقنا / حسبنا أنّا وهبنا الفجر ومض الاشتعال".. ليكون الحلم حلم ارتباط بالثورة والنضال والعطاء، وهو ما يجعله حلماً إيجابياً مليئاً بكل معاني الحياة.. هنا يمكن أن أستحضر من قصيدة "سوف آتي بقمر" لسليمان دغش قوله "فلأوراق الشجرْ / ألف وعد بربيع منتظرْ" لنرى كيف تكون مساحة الحلم مؤكدة على نموها في تفاصيل الوعد، في ثنايا الغد..
كما نرى لا يعني الموت، أو لحظة الاختناق في ظرف ما، نهأي الحلم المعبر عن الحياة.. دائماً هناك ألف ضوء ينبثق ليعبر عن الأمل والتفاؤل، لذلك كان التوكيد على صورة الانبثاق والتفجر توكيداً على عودة الحلم إلى مساحة الزمن والواقع والتطلع..في هذا يقول الشاعر عمر محاميد في قصيدته "اعترافات لوطني الجميل": " يا أجمل حلم يتجدد تحت النار وتحت القيد وتحت السوط" في تعبير جميل عن ضرورة الحلم، وضرورة الالتقاء به. وإذا كان الواقع ضاغطاً حتى الاختناق، فهذا لا يعني انكفاء الحلم أو موته. لا يعني تغييب هذه المسافة الجميلة من الإصرار على التفاؤل والأمل والتشبث بالنور.
وحين نقرأ "نبضات لا تموت" للشاعر عبد الناصر صالح نتوقف عند قوله:"أيا وطني / طوال الليل أحلم فيكْ.. أستجديكْ / أبحث عنك في الأحداقْ.." ونتساءل ما معنى مثل هذا البحث في ثنايا الحلم؟؟ ..ولماذا يلتفت الشاعر إلى صورة بعيدة مع أنه يعيش في وطنه؟؟.. وهل يعني ذلك هروبه من الأحلام التي ماتت في لحظة الجرح؟؟..
الأقرب إلى المنطق أن الشاعر يوظف الحلم ليعايش وطنه القادم في مساحة الخلاص من الاحتلال.. هذه المساحة يراها الشاعر ملء العين والقلب والتطلع. لذلك كان التمني والطموح أن يأتي هذا اليوم الذي يصبح فيه الوطن خالياً من كل غربة أو غريب.. في مثل هذه المساحة لا يعود من الممكن قبول أي صورة أخرى. الشيء الوحيد القريب من العين والأذن والقلب يتمثل في هذا الانفتاح على يوم يعود فيه الوطن إلى حريته.
يمكن أن نلاحظ الكثير من الخطوات على هذا الطريق. هناك دائماً إلحاح على التطابق مع الوطن القادم، الوطن المقبل، الوطن الذي تعود فيه الشمس إلى إشراقتها. يقول الشاعر مصطفى مراد في قصيدته "وطني": "وحلمت بطوفان مقبل / وحلمت بحقل أخضر" و"سمعت سنابلك الخضراء تنادي / ورأيت الفجر الآتي / والحقل الأخضر / فحملت المنجلْ".. وكأن الانتقال إلى المستقبل يصبح حالة وجدانية قابلة للتحقق المادي على أرض الواقع.. الشاعر لا يكتفي بأن يسمع، أن يرى، في حالة الحلم، ولكنه يحمل المنجل بصورة فعلية تعبر عن تطابقه مع حالة القادم، ليكون في حالة وجود مادي.
في هذا المجال، يمكن أن نختتم بقصيدة الشاعر حسين مهنا "افرح يا شعبي" حيث يتحول الحلم هنا إلى سلاح يمكنه أن يكون فعالاً إلى أبعد حد، لأنه السلاح المعبر عن نفسية متماسكة قوية. يقول حسين مهنا: "افرح يا شعبي / واضحك من أعماق الأعماق / اضحك رغم سواد المأساة / انتزع الضحكة من فك الأفعى "و"هذي أفراحك يا شعبي / هذي أعراسك يا شعبي صيف شتاء / فلتفرح ما دامت في الدنيا أصياف / ما دامت في الدنيا أشتية / ولتتلوَّ الغيلان الموتورة قهراً / ولتنفلق السعلاة.."..
حسين مهنا لا يقول بحلم يلجأ إلى زاوية المستقبل، ولا يقول بحلم يتطلع إلى البعيد، إنه ببساطة يقرب الحلم ليكون حياة واقعية تستطيع أن تحول الحياة إلى ضحكة كبيرة تتفجر في وجه الغيلان الموتورة قهراً. إن مثل هذا السلاح يعني تركيز بؤرة الضوء في وجه الظلمة دون أي تراجع أو انزواء. يقول الشاعر ماذا علينا إذا جعلنا أعراسنا سلاحاً، أفراحنا سلاحاً، دبكاتنا سلاحاً؟؟ يريدون قتلنا وخنقنا وكبت أنفاسنا.. فلماذا لا نطلع أملاً يكسر كل ظلمة، وتشبثاً يقهر كل عتمة..
الدخول في مسافة الحلم دخول في صورة الأمل والتطلع إلى المستقبل.. الحلم حين يكون مرتبطاً بوطن، لا يموت. والحلم حين يكون طالعاً من أرض سيجها العشق، لا ينطفئ.. وفي كل المساحات والمسافات، يبقى الشاعر مسكوناً بالحلم، ما دام الحلم تطلعاً مشروعاً وجميلاً إلى المستقبل.. ما دام الحلم حزمة ضوء تعطي النفس البشرية كثيراً من التفاؤل والإصرار والتوهج.
[/align]
|