رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
أولاً – الانتفاضة وصورة الغد:
أستبق التوقف عند أي محور يأتي ترتيبه أولاً، لأرى مباشرة ضرورة التوقف عند صورة الغد في قصيدة الانتفاضة، ما دامت هذه الصورة نتاج كل الصور والمحاور. فالتطابق والتوافق مع الحالة المستقبلية التي يصل إليها الإنسان المنتفض هي الغاية. وطبيعي أن تكون مثل هذه الحال غاية في الإشراق والجمال، لأن الصورة التي ترسمها ريشة الشاعر تنطلق في خطوطها الأولى من خلال الحاضر المعاش، وهو في هذه الحال حاضر / انتفاضة مستمرة تعطي الكثير، وتنطلق في خطوطها اللاحقة من خلال المستقبل المنظور، وهو في هذه الحال مستقبل / انتفاضة يعد بالكثير.لذلك أخذ الشاعر في معانقة حاضر مليء بالوعد، ومستقبل مليء بالنبض والحيوية والصور الزاهية الألوان.
إن ما طرحه الشاعر حنا عواد في قصيدة "وأفنى ليبقى الغناء" عند العزف على وتر التوافق مع الطبيعة، ثم التداخل مع كل حركة ونسمة ودفء، إنما يحرك بشكل مباشر دافع الالتقاء مع المستقبل. وهنا تبرز أهمية صورة "الانتظار" أو"التطلع" إذ تبدو صورة مليئة بنبض الامتداد والاتساع، فالشاعر الذي يضع ذاته الشاعرة في لحظة الحاضر، إنما يضع ذاته في لحظة المستقبل، لذلك فهو يغني "لهمس السهول ونبض الحقول" ولكن إلى أين تمضي الأغنية، وإلى أي حد يمتد غناء الشاعر؟؟
تبقى لحظة التوافق مع الطبيعة شديدة البروز والاشتعال. وعلينا أن نشد كل وتر لنلتقي الكثير من الدفء والجمالية في صورة الحاضر / المستقبل، والمستقبل / الحاضر، ما دام الشاعر مصراً على مزج الطرفين في لحظة تفجر واحدة تضيء المحيط بأكمله. يقول حنا عواد: "لحلمٍ يسافر في بحر عينيك / عبر مدى الحزن والليل / لصبح نديّ يخضِّله الطلّ / يوشحه النور والورد والفل / لفجر بهيّ يُحاصَرُ في أفق جفنيك / أسكبُ لحني أغني" لتكون اللوحة رائعة في إعطاء الغناء كل هذا الاتصال مع صورة القادم المزروع في صورة الحاضر، وصوت الحاضر المزروع في صورة القادم. وطبيعي أن يكون الغد في هذا المسار غداً مليئاً بالزهر والأناشيد والجمالية.
كان طبيعياً في كل مسار، أن يكون التطلع إلى المستقبل مليئاً بالنبض والقصيدة هنا تطرح المستقبل لتكون في كل ثوانيه. وإذا كان الاستحضار انتقالاً إلى المستقبل، فإنه في الوقت ذاته توافق معه. والشعر لا يريد أن يرسم المستقبل بمعزل عن الحاضر، كما لا يريد أن يرسم المستقبل دون النظر بتدقيق شديد إلى سيرورة الفعل المقاوم. وهذا ما جعل الارتباط شديداً بفاعلية الفعل وبامتداده. فالفعل هو الذي يقول المستقبل ويرسمه، والفعل هو الذي يصمم شكل البناء الذي سيرتفع في الغد.. ولكن تبقى هناك مساحة عريضة من الارتباط بالتفاؤل والأمل بطبيعة الحال.
عندما تسقط سحر شهيدة، وهي واحدة من مجموع، يفتح الشاعر حسين فاعور عينه على المستقبل في قصيدة "في عزّ موتك تولدين" حيث الشهادة ولادة، والموت نبع حياة، والدم ينبوع عطاء، يقول: "إني أرى علماً يرفرف في سماء القدس / تحضنه الأمم / إني أرى عرس الحياة على القممْ / وأرى سحر / فستانها الزهريّ يجتاح الحجارة / والإطارات اللهب / إني أرى سرباً من الأعلام / يجتاح الأفق / وأرى الحياة تجيء جذلى في خطاه / إني أرى علماً يرفرف في القلوب / هو العلم / إني أراه / وأرى مدارس لا يحاصرها الجنود / أرى عصافيراً تدوس على القبور".
المستقبل في هذه الصورة يقترب إلى حد الملاصقة، ليكون صورة تلامسها الأصابع، وتعيشها المشاعر. فالرواية لا تأخذ فسحة الحلم، بقدر ما تأخذ فسحة التحقق. هنا تشتد الألوان لتعيش حالتها كاملة متكاملة، ولتكون ذات وقع نابض بالحياة والوجود. العلم يرفرف.. العرس يشتعل.. الحياة تجيء.. المدارس التي لا يحاصرها الجنود ،تكون واقعاً.. وهكذا..
الانتقال كان سريعاً فجائياً، ولكنه في كل حال وصول إلى حال يتمناها الشاعر/ الشعب، ويسعى إليها. وطبيعي أن مثل هذا الانتقال إنما يمثل توكيد الشاعر على حبه لما هو كائن من نضالات متأججة، ومقاومة مستمرة، وعلى حبه لما هو قادم من أيام يراها قريبة واقعية إلى أبعد حد. فالعلم الذي يرفرف في سماء القدس، لا يكون علماً ينتظر المستقبل أويتمناه، ولكنه علم يقرّب المستقبل ليكون في الحاضر. كذلك العرس والحياة وما إلى ذلك. فالنقلة كبيرة كونها تحقق التصاق الحاضر بالمستقبل دون أي فواصل، وتحقق التصاق الحلم بالحقيقة، وتحقق التصاق الوعد بالوصول دون أي مسافات.. وفي كل الحالات تكون صورة المستقبل صورة رائعة نابضة بالحياة والحيوية والأمل ، يقول الشاعر عبد الناصر صالح في قصيدته "الصهيل": "وبيارات أهلي / تغص بالثمار / تغص بالثمار.."..
إذن في الحالة العامة تنبض صورة المستقبل بالاقتراب أولاً، حيث تستطيع أن تفيض في كل ملامحها على الحاضر المعاش لتكون صورة الحاضر. وبالجمال ثانياً، حيث تبدو مثل هذه الصورة صورة مستقبل نابض بالألوان الزاهية والخطوط المؤدية إلى لوحة رائعة. وبالحيوية ثالثاً، حيث تأتي مثل هذه الصورة لتكون صورة خصبة بالحياة، فهي لا تقبل الركون إلى حالة جامدة أو محايدة، بل تأخذ في التواصل مع كل ما هو مليء بحركة ودفء التوهج. وبانفتاح الدم على الوعد رابعاً، حيث الصور تقول تحققها وتواصلها بالغد المنفتح على الشهادة.
[/align]
|