رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
ثالثاً – الانتفاضة وصورة الطفولة:
الانتفاضة قالت الكثير، وقدمت الكثير. ولكنها في مجال تقديم الطفولة / البطولة، أو الطفل / البطل، استطاعت أن تقدم حالة استثنائية لا مثيل لها أو شبيه. فهنا خرج الطفل عن مساره المحدد له في العادة، وهو مسار الطفولة البريئة الغنية باللعب والضحك والفرح، ليأخذ مساراً آخر يختلف كل الاختلاف. فالطفل الفلسطيني تحول إلى مقاتل يستطيع أن يحارب ويخطط ويهاجم بصورة تبدو مذهلة وغريبة وغير متوقعة. وتبقى الأسئلة المطروحة كثيرة متعددة في مثل هذا المسار: إذ كيف يستطيع هذا الطفل أن يقلب الدنيا كلها. وكيف يمكنه أن يضرب ويهاجم ويخطط..ثم كيف يستطيع أن يخرج من ثوب الطفولة على هذا الشكل ليدخل في ثوب الرجولة والبطولة والشجاعة الفائقة.. وهكذا.. لتكون كل الأجوبة صورة هذه الطفولة الرائعة النابضة بالحيوية والتفوق. فماذا نقرأ في هذا المسار؟؟..
يرى الشاعر هايل عساقلة في قصيدة "أبدعت أكثر" أن الطفل الفلسطيني استطاع أن يسجل إبداعه في كل صورة من صور الحياة المليئة بنبض الانتفاضة لذلك كانت الصورة المغايرة والمختلفة عن حقيقتها الواقعية، حيث "أبدعت أكثر / لما رفعت الشمس أكثر / والسرو أكثر"و"أيها الولد الذي / قطع المسافات الطويلة / ما تعثر / وبكفه / أعلى جبين الأفق أكثر"لتكون العين أمام صورة تبدو من خلال الحب والإعجاب والإحساس والمشاعر. فالإنسان لا يرى ارتفاع جبين الأفق مغايرا ولكنه يمزج الصورة بمشاعره وأحاسيسه فتبدو مغايرة ومختلفة ومليئة بألوان جديدة.. إضافة إلى ذلك فهناك كم هائل من القدرة على التغيير والتبديل، حيث استطاع هذا الطفل المبدع أن يقلب الدنيا بإدخاله مفاهيم جديدة في القتال والمقاومة.. ولكن هل خرج الطفل في كل ذلك من حيز إثارة الأسئلة، أم زاد في تأجيجها..؟؟..
الشاعر ياسين حسن يرى في قصيدة "إلى أطفال غزة" أن الأسئلة تكبر وتشتد مع كل خطوة جديدة، ليكون الخطاب الموجه إلى هؤلاء الأطفال "أكبر من أعماركم تاريخ الاحتلال / أطول من هاماتكم هراوة الإذلال / أضخم من قبضاتكم سلاسل القيود والأغلال / أشد من حجارتكم فتكاً مدافع القتل والاغتيالْ / فكيف كيف أيها الأبالسهْ / مرغتم المحتل في مستنقع الأوحالْ / بأي سحر جئتم / حتى على منخاره الشامخ دستم بالنعالْ".. ولا تفتأ القصيدة تسأل وتسأل، ولا تفتأ إشارات الاستفهام تظهر وتطفو على السطح جراء دهشة طبيعية يولدها هذا الطفل الخارق للمألوف، وعلينا أن ننظر بكل الوعي إلى طفولة تتحول بسرعة مذهلة، وتحول ما حولها.
إن صورة ترتسم بهذا الشكل على مدار الواقع الحي، إنما تسجل كسراً لكل ما هو عادي ورتيب ومتوقع. والطفولة الفلسطينية لا تقول ذاتها الخارقة بحروف أو عبارات تكتب على الورق، بل تسجل كل ذلك بأفعال تشتعل بوقع نابض حيوي سريع، ومثل هذا التسجيل يبقى قوياً فاعلاً ضاغطاً بكل المعاني والامتدادات، كونه يأتي عن طفولة ما تعوَّد الآخرون أنها كذلك، وكونه يأتي متلاحقاً جماعياً ضارباً.
في قصيدة "الصهيل" للشاعر عبد الناصر صالح يأتينا الطفل المغاير، من خلال صورة جديدة، حيث: "هنا الأطفال يحملون حبهم على الأكتافْ / يحملون القدس والجليلْ / يطاردون الجند / والرصاص فوقهم كندف الثلج / لا يخشون بندقية الدخيلْ" فهو الطفل الذي يحمل البلاد وهمَّها،ليكون الرجلَ، وجملَ المحامل، ثم ليكون المقاتل الذي يقلب المعادلة، فهو يلاحق الجند، رغم غزارة الرصاص في مواجهته، وهو في كل ذلك يكسر رتابة كل صورة، ويمزج الألوان كلها بلون شديد السخونة مما يجعلها شديدة الغليان.. فاللون في حالة الطفل الفلسطيني، يأخذ حالة جديدة.. والجو في حالة الطفل الفلسطيني، يأخذ حالة جديدة.. وهكذا..
في الانتقال إلى صورة أخرى من صور الطفل الفلسطيني، نرى في قصيدة "قصيدة بأحرف حجرية" للشاعر حسين مهنا أنه يبدأ في رسم حالة التماهي في كل شيء والانتقال إلى كل شيء، حيث:"وبقيت وحدك للرياح تصدّها / بالقلب والعينين / والصدر الطري / وقبضتين على قمر / وبقيت وحدك ترتدي فرح النهار / وترتدي مرح الفراشات الملونة / الطفولة والبطولة / ترتدي التاريخ قفازاً / وقبعة / وتأتينا مسيحاً منتظرْ.."ثم "رفعت مناكبها الجبال وعانقتك / تقمصتك / خلعت صمتك وانتعلت حذاءك الحجري / ثم مشيت".. وفي قصيدة "الطالب في الصف الشارع" لسميح فرج حيث: "يا طعم القهوة / يدخل في كل رغيف / من خبز الدنيا / في خاتم كل عريس وعروس.." و"ندفنه ليلاً / أقسم / وقبل الفجر يعود يقاتل.."..
الصورة هنا تخرج عن كل حالة من حالات الإمكان، لنكون أمام حالة الطفل الذي يرتدي المعجزة ويأخذ في السير بخطوات لا يعرفها سواه. من هنا صورته القادرة على صدّ الرياح / والاحتلال، وصورته القادرة على ارتداء فرح النهار / والنصر، وصورته القادرة على ارتداء التاريخ، والأصالة، وقدومه كمسيح مخلص يستطيع أن يمنح البلاد وعدها وأفقها وانفتاحها الأكيد على النصر..
هذه الطفولة تأخذ مسارها النابض والواعد في كل الحالات والفصول.. وهذه الطفولة تأخذ هوية تأبى أن تكون مشابهة لأي هوية أخرى ما دامت نابعة من حالة استثنائية في زمن المقاومة والتصدي والمجابهة.. وهذه الطفولة تصر على إثارة الأسئلة في كل حين،كونها تكتب عملية المقاومة بوقع غير مألوف، إذ كيف لهذه الطفولة أن تقفز كل هذه القفزات، وكيف لها من جهة ثانية أن تقاتل الجيش والأسلحة الفتاكة وآلات التدمير.. هذه الطفولة تصرّ على إعطاء الطفولة مفهوماً جديداً ما دامت تشكل كل هذا الإبداع..
[/align]
|