رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
الفصل الثالث
الانتفاضة والشخصية القصصية
في واقع الانتفاضة الممتد اشتعالاً على مدار الأيام والأشهر والسنوات الماضية / الحاضرة، كان لا بد من تغيّر وتبدل حركة المحيط وطبيعته من خلال التداخل أو الرجوع إلى حركة إنسانية أخذت تشكل صورة جديدة لم تكن معروفة من قبل، رغم إيماننا بأن الزمن السابق، أو ما قبل الانتفاضة في الوطن المحتل، لم يكن بعيداً بأي حال عن كل معاني وأبعاد وفاعلية المقاومة. ولكن هذا لا يعني ضرورة التماثل أو التشابه في الصورة والأسلوب والطريقة، إذ كانت الانتفاضة حدثاً استطاع أن يأتي "بانتفاضته" التي قلبت كل شيء، وجعلته مليئاً بالجديد المغايةر، فظهرت الحياة اليومية المعاشة كحياة جديدة في التوافق مع حدث الانتفاضة.. وهكذا.. ليكون الإنسان العربي الفلسطيني "صانع" و"مهندس" واقع جديد هو "واقع الانتفاضة" الذي يأخذ من تجربة الماضي الكثير، ومن الحاضر الكثير، ليكون في صياغة جديدة متميزة.
هذا الإنسان الذي يمكن أن يدخل في معنى ما من معاني الانتقال إلى "المسار الجديد" وهذه الشخصية التي أوجدت إطاراً جديداً لقصة مكتوبة بحبر الحياة اليومية "المنتفضة". ثم هذا البطل – وهي البطولة التي تعني الفعل النضالي بمعناه العريض – الذي أخذ يطوي الأيام إصراراً وشموخاً، ويبدع ما يبدع من صور التحدي، هو ما سنحاول دراسته من خلال انعكاس صورته في قصيدة الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني، خاصة تلك القصيدة التي اقتربت من شكل "القصة" أو"الحكاية ة" وهي تقدم واحدةً أو أكثر من الشخصيات المقاومة..
الانتفاضة وملامح أولية للشخصية:
الملمح العام للشخصية العربية الفلسطينية يؤكد على وجود شخصية إنسانية مليئة بالأمل والتفاؤل رغم كل الضغوط وقساوة الظروف. مثل هذه الشخصية تستطيع أن تصهر كل شيء ليكون خاضعاً لهذه النظرة التفاؤلية أو متوافقاً معها. وهذا يعني في المسار العام، أن الشخصية العربية الفلسطينية قادرة على الاستمرارية والوقوف بكل صلابة مهما ضاقت السبل، لأنه من الصعب كسر امتداد مثل هذه الشخصية والحد من قدرتها على الامتلاء بالحياة..
الضاغط قد يشكل الانفجار، أو أعلى درجة من درجات التماسك، وهذا عام بالنسبة لكل إنسان، في هذا استطاعت الشخصية العربية الفلسطينية أن توظف حالة الضغط في مجرى حالة بناء الذات. وحين نستمع إلى الشاعر المتوكل طه في "ونحن سواء" يقول:"فنحن نواجه رمل المعسكر بالأوفِ / نكسر وحش الصحارى / بعرس انتفاضتنا / لا نكف عن الدبكات / ونغمر هذا المدى بالغناء" نستطيع ن نفهم آلية مثل هذا البناء لجوانب الشخصية. فالمتوكل طه لا يضع مساحة الأمل والتفاؤل بكل هذا الامتداد ليقول: إننا نواجه عذابات السجن والاعتقال بالإصرار على التشبث بالحياة والتفاؤل فحسب، ولكنه يريد أن يوصل رسالة تقول: إن الشخصية الفلسطينية قادرة على التحمل إلى أبعد حد، وقادرة على الاستمرارية والوقوف بثبات لأنها بنيت بشكل جيد ومدروس من جهة، ولأنها صاحبة حق وتاريخ وجذور من جهة ثانية.
من هذا الملمح العام، يمكن أن نقرأ مسار القدرة على صوغ الفعل النضالي الجديد المغايةر إلى الحد الذي يجعلنا نتساءل:"كيف يحدث ما يحدث"والسؤال لا يبحث عن إجابة بقدر ما يسجل حالة الانبهار والإعجاب. وطبيعي أن الارتداد إلى الزمن السابق، يضعنا أمام الكثير من بذور هذه الشخصية، ومعالم التشكيل لملامحها، وإذا كنا نقف أمام الطفل الفلسطيني، وهو الشخصية التي تحركت بسرعة مذهلة لتأخذ الكثير من مساحة الاهتمام، فعلينا أن نرى مباشرة إلى التصاق هذه الشخصية بإطارها العام. إذ لا يمكن أن تكون مثل هذه الشخصية نابعة من فراغ، لأنها تسجل حضور الفعل الفلسطيني في زمن الانتفاضة.. ولكن كان طبيعياً أن تبرز صورة "الطفل"وأن تلتصق أو تقترب من صورة "الحجر" ليكون "طفل الحجارة".. وهي صورة مثيرة للدهشة والانبهار، لأننا ما تعودنا أن يكون الطفل على هذا الشكل من العطاء..
يقول ياسين حسن في قصيدته طإلى أطفال غزة": "فكيف كيف أيها الأبالسهْ/ مرغتم المحتل في مستنقع الأوحالْ / بأي سحر جئتم / حتى على منخاره دستم بالنعالْ.." لنضع اليد على مفصل الاندفاع إلى هذه الشخصية التي حملت الكثير. فالطفولة جاءت إلى غير المتوقع وقلبته دفعة واحدة ليكون متوقعاً، وخرجت من خلاله بشخصية الطفل الذي يستطيع أن يقاوم الرصاص وقنابل الغاز والدخان المسيل للدموع، وكل وسائل القتل بيدين طريتين، وصدر عار، وحجر.. وهذا ما أذهل الاحتلال / كما الدنيا.. فكانت شخصية الطفل الفلسطيني ضاربة للاحتلال بكل المعاني، لأنه لم يتحمل أن يخرج الشعب العربي الفلسطيني كله ضده باشتراك الأطفال أيضاً، مما جعله ينسى أنه يقاتل شعباً مسلحاً بالحجارة، فأخذ يضرب ويطلق الرصاص ويقتل بكلِّ قساوة وهمجية الاحتلال، وكان الطفل بطبيعة الحال ضحية – كما بقية الشعب – تركزت عليها الأضواء الإعلامية مستهجنة أن يتحول "الجيش"، وهو جيش احتلال، إلى قاتل للأطفال.. من جهة أخرى كان الطفل مبدعاً في نضاله، مما لفت الأنظار إلى شخصية "الطفل" الذي يرفض الاحتلال، ويخرج من بيته ومدرسته ليقول "لا" وليقاتل، وهذا ما سجل حضوراً كبيراً "له" ولقضية الشعب العربي الفلسطيني، وأصبح الطفل أسطورة في المقاومة والحضور.
من هذا الملمح العام أيضاً، نقرأ صوغ فعل التداخل مع الطبيعة الفلسطينية بما يشكل أعلى وتيرة من التماسك. هنا تأتي قصيدة "الصهيل"للشاعر عبد الناصر صالح لتقول:"دمي سال على وجه التراب / ولم يزل هناك ترتوي الأشجار منه / تحتمي به الطيور من مخاوف الدمار والحريق" و"هنا الأطفال يحملون حبهم على الأكتاف / يحملون القدس والجليل"لنرى إلى مساحة شديدة التألق في رسم ملامح الشخصية. حيث التداخل يؤدي دوره، فالدم يشكل السياج الذي يحمي، والحياة التي تسقي، كما الحب في التعامل مع الطبيعة والمدن يشكل في الذات التماسك الذي يساعد على الاستمرار. وفي هذا وذاك قدرة على قراءة الطبيعة الفلسطينية بتميز. الشاعر لا يقول بطبيعة محايدة أو صامتة، ولا يرضى للطبيعة الفلسطينية أن تكون كذلك. من هنا حضورها القائل بحالة استثنائية خصبة. وهو يعرف أن حضورها يشكل الكثير بالنسبة لبناء شخصيته، ما دامت جزءاً أساسياً من هذه الشخصية. الفلسطيني هنا مليء بالطبيعة، والطبيعة مليئة به.
ومن هذا الملمح العام يمكن أن نقرأ أيضاً فعل التواصل مع "المعنى"والغايةة" بصورة واضحة جلية. صحيح أن ذاك لا يختلف حوله اثنان حيث الغايةة هي الوصول إلى الحرية، ولكن ما أعنيه هو هذا التفصيل والشرح، وبما يوضح قدرة الشخصية على فهم حركة نضالها بأروع صورة. يقول الشاعر حنا عواد في قصيدته "كي يبقى شجر الزيتون"والعنوان يحمل ما يحمل من إشارات، يقول:"كي يبقى شجر الزيتون ونبقى / كي يمتد ونمتد جذوراً في الأرض / وننمو مع هذا الزيتون فروعاً تكبر تورق / تزهر تثمر" و"كي لا نفنى أو لا يفنى وطني / نفنى قربان فداء" فالانفتاح على المعنى أو الغايةة لا يقول بمباشرة التطابق مع الحرية، ولكنه يمضي خطوة إثر خطوة في تفصيل يضع الذات في مسار التداخل مع كل شيء في الوطن، ليقول من أجل كل شيء نعطي، ومن أجل كل شيء نموت، ومن أجل كل شيء نواصل النضال، الوعي هنا يتطابق مع حالة العشق الكبير لكل ما يضمه الوطن، لذلك يكون استحضار المعنى والتوكيد عليه.
[/align]
|