رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
الباب الثالث
ملامح فنية
الفصل الأول
المعجم الشعري ومستويات المفردة
منذ البداية، ومع اختزان الذاكرة لصورة الشعر الأولى، كان للمفردة موقعها الخاص في كل بيت، كما كان لها بطبيعة الحال هذا اللون الذي يميزها عن سواها، وتلك البصمة التي تجعل منها مفردةً ترتبط بنسقها ومحيطها الخاصين. ولم يكن ذلك من قبيل تحميل المفردة اللغوية بعداً استثنائياً، بقدر ما كان من قبيل إعطاء المفردة هويتها التركيبية اللغوية. فالشاعر يريد أن ينقل صورة ما من خلال هذه المفردات اللغوية التي تشكل خطوط وألوان وضربات ريشته. والشاعر يريد أن يعبر عن الذات الشاعرة في تفاعلها مع محيطها من خلال المفردات اللغوية التي تستطيع أن تحمل كل الدفء والمشاعر والمعاني وتنقلها بأمانة لتكون صورة نابضة على الورق..
لا نريد أن نعود إلى الوراء كثيراً في مسيرة الشعر، لنقف عند ما ذهبنا إليه، ولا نريد أن نسبر عمق ودلالة كل مفردة لغوية في مسيرة تطورها، إذ هدفنا النظر إلى"هوية"المفردة في نسق الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني من خلال الاطلاع على نماذج محددة مختارة، للوقوف على شيء في معاني هذه "الهوية" وهو ما يدفعنا بداية لقراءة القليل من الشعر السابق على شعر هؤلاء، ومنه قول الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود:
أخوفاً وعندي تهون الحياةُ وذلاً وإنّي لَرَبُّ الإبا
بقلبي سأرمي وجوهَ العداةِ فقلبي حديد وناري لظى
لنرى إلى مستوى المفردة المتحرك عند شاعرنا الفارس، فكلمة "الخوف" مثلاً، ترتدُّ إلى الخلف، لتأخذ في التلاشي. بينما تبرز مفردة "الإباء" لتشكل لوحة في غاية الروعة والامتداد، وهذا ما جعلها مفردة استثنائية في موقعها الخاص هذا. فهي لا تقف عند حدودها المعجمية، بل تصل مباشرة لصوغ حدودها الحياتية النضالية. حيث أراد الشاعر أن يعبّر عن كل عواطفه الوطنية والتي تأبى الرضوخ والخنوع والذل، فجاءت مفردة "الإباء"مرتبطة بمفردة "رب"بعلاقة إضافية، لتكون هذه الصورة بكل ألوانها الزاخرة المتحركة. ويمكن أن نرى إلى مثل ذلك في كل المفردات التي حملها البيت الثاني عند عبد الرحيم محمود، فالشاعر يوظف المفردة خير توظيف، لتخرج على هذه الشاكلة المتوقدة المتوهجة. ونتساءل: إن كانت المفردة عند عبد الرحيم محمود، وهو من شعراء ما قبل النكبة، على هذه الشاكلة، فكيف أتت صورتها فيما بعد؟؟..
في قراءة الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الأول، يمكن أن نرى إلى معجم شعري يتحرك ويتشكل وفق ظرف طارئ خاص من جهة، ووفق دفق تاريخي جذوري من جهة ثانية. فالوطن واقع تحت الاحتلال، والمفردات تخرج من أتون معركة يومية مستمرة تتصف بالمقاومة والتحدي والوقوف في وجه كل الممارسات والضغوطات الصهيونية الدائمة. من هنا كان لشعر فلسطين في الداخل معجمه الشعري الاستثنائي القائم على تحريك المفردة وإعطائها حالة من حالات التوهج والقدرة على المجابهة، لتكون"مفردةً" ذات ملمح خاص متصف بالظرف الآني المغاير، وجامع لكل جزئياته وامتداداته. كيف..؟؟..
في واحدة من قصائده يقول الشاعر إدمون شحادة:"كان للحب جراح في الفؤاد / مثل جرحي / مثل جرح الأرض يمتد عميقاً وعميقاً / كلما الأرض استجابت للنداء / يعبق الجرح ويمتدُّ العطاء"لنرى إلى هذه الألوان المتعددة في مفردة"الجرح"حيث تقفز قفزاً في عدة مستويات سريعة متلاحقة متداخلة، من خلال صورتها الذاهبة في القلب حيناً، وفي الأرض حيناً آخر، وبما يرسم طبيعة العلاقة بين الشاعر وأرضه.
مفردة"الجرح"تأخذ سمة التوحيد والتقريب والشد، لتكون مفردة جامعة قادرة على صوغ فعلها المقاوم للاحتلال، و"الجرح"هنا لم يعد جرحاً وهمياً متخيلاً، بل كان جرحاً حقيقياً معاشاً، حيث يعيش الإنسان الفلسطيني كما تعيش أرضه حالة احتلال واغتصاب للحق. ولكن هل وقفت حركة "الجرح"عند معناها الوصفي المجرد هذا؟؟..
يقول الشاعر بالنفي، كما تقول سطور الواقع.فكلما ازداد الجرح، كان المقابل زيادة في المقاومة والتحدي والصمود. ولا نريد هنا أن نذهب مع لفظة "الجرح"ذهاباً بعيداً يخرجها من معناها، إذ الواضح أنها مفردة التوهج والانطلاق الموحِّد بين الذات الشاعرة والأرض، وبما يرينا إلى خط واصل بين هذه وتلك. ولنا أن نشير إلى أن مفردة"الجرح"هنا كانت كما هو ظاهر محور بقية المفردات.. بينما يمكن أن نلاحظ عند شاعر آخر ظاهرة "المفردات المحورية".. كيف؟؟..
يقول الشاعر شكيب جهشان:
أنا قمح وزعترٌ وخوابٍ وعتابا وموقد مشبوبْ
وحنين الحداة شوق المراعي وانهمار الغناء والشؤبوبْ
وظباء" وبئرُ ماءٍ وراعٍ يملأُ الأفقَ لحنهُ والوجيبْ
لتكون كل مفردة محوراً بذاتها. فالقمح والزعتر والخوابي، والغناء وحنين الحداة وشوق المراعي، إضافة إلى كل ما جاء من مفردات الأبيات السابقة، تقول بهذا النسق المتتابع من الأماكن والأشياء والمشاعر.. ولكن هل اكتفت هذه المفردات بذلك؟؟..
لا يمكن لأي شاعر أن يأتي بهذا النسق من المفردات دون فائدة فكيف إذا كان هذا الشاعر واحداً من شعراء المقاومة.. وكيف إذا كنا نفهم خصوصية النبض المقاوم في تصديه لآلة العدوان.. ألا نقرأ في كل مفردة حاجتها الماسة إلى مصب تريد أن تصل إليه؟؟
لنأخذ أول مفردة في هذه الأبيات، وهي هذا الضمير البارز"أنا"فماذا نجد؟؟.. نتواصل بشكل مباشر مع إجابة تنتقل من محورها الخاص، إلى المحور العام، حيث "أنا قمح"أنا زعتر”"أنا خواب”"أنا موقد مشبوب”"أنا "حنين الحداة".."أنا شوق المراعي"وهكذا.. لنصل إلى صوغ"أنا الفلسطيني أمثل كل شيء في هذه الأرض وعليها"في مواجهة"الآخر الصهيوني الذي ليس له أي شيء على هذه الأرض وفيها"ولتكون ألوان وخطوط المفردات في غاية الوضوح. كل مفردة أتت لتؤدي دورها النضالي في الدفاع عن الحق وفي التصدي للاحتلال، فهي تتآلف في مجرى واحد، لتقول بالحق الفلسطيني الساطع. وهذا ما يجعلها مفردات محورية في بناء الكل التركيبي الذي يهدف إلى إعطاء صورة جذورية تاريخية للإنسان الفلسطيني مقابل أكاذيب وأباطيل العدو الصهيوني المزيف..
[/align]
|