رد: خريف الأحزان
اتخذت مكاني المعتاد قرب نافذتي.. يمتد الظلام أمامي و من حولي ليحتضن الكون بهدوء و سكينة.. القمر يطل من عليائه منيرا.. قد رسم على الأرض لوحة فنية رائعة.. برزت فيها الشجرة الجدة بأوراقها الوارفة و غصونها المتمايلة الراقصة على لحن سمفونية بديعة عزفها نسيم الليل البهي.. و ذاك العش الدافئ الذي يضم صغارا مع أمهم التي تحيطهم حبا و حنانا و رعاية...
في ثنايا هذا الهدوء الذي يملأ القلب سكينة، تناهت إلى مسمعي صرخات من بعيد.. انتفضت واقفة لأتبين الأمر.. كان مصدر الصوت من بيت أم خليل.. تلك المرأة المسكينة التي لم ترزق غير ولد كال لها من العذاب و الشقاء ما الله تعالى وحده يعلم به..
أخذت الأنوار تضيء الواحد تلو الآخر.. تحركات و تساؤلات.. همسات و غمزات.. اتجه كل من في الحي إلى بيت المرأة الطيبة.. ما الخطب يا أم خليل.. المسكينة كانت ملقاة على الأرض.. سارعنا إلى حملها.. و بعد مضي وقت ليس بالقليل.. أفاقت ، فبادرناها بالسؤال.. لم تكن تتكلم بغير دموع فاضت من عينيها تسابق الزمن و تتوق إلى شيء لم نتبينه.. أخذناها إلى المشفى.. ما من طبيب عرف داءها و لا دواءها.. بقيت على هذه الحال أياما و ليالي تتناوب نساء الحي في رعايتها لكونها وحيدة بعد أن سجن ابنها الوحيد الذي كان سبب تعاستها..
تقصى رجال الحي الأمر فعرفوا أنها صدمت من هول خبر وفاة ابنها خليل.. أتاها أحد زملائه بالسجن فأخبرها الخبر تلك الليلة.. و تركها ترتطمها أهوال الحدث و انصرف..
كانت أم خليل تعاني من المر أشكالا و ألوانا، منذ وفاة زوجها صارت تشتغل بالبيوت بحثا عن لقمة طيبة حلال لها و لابنها.. ثم تلك الدريهمات القليلة التي كانت ثمن كرائها لنصف منزلها..
كبر ذاك الإبن و كبرت معه مشاكله.. صار يطلب القليل و الكثير و لا يبالي.. اتخذ من أمه المسكينة بنكا يصرف منه وقتما شاء.. و هي تخلت عن كل شيء في سبيل إرضاء ابنها..
تمر الدهور.. و الحزن يشتعل في قلبها.. تتقاذفها أمواج الزمن الغابر.. تمني النفس برجوعه إلى رشده.. لكنها في كل مرة ترجع خائبة حتى ضاقت به ذرعا.. و أصبح السبيل الأوحد لإطفاء حريق الأسى الذي أشعله في كيانها هو الدعاء عليه بالموت كي ترتاح منه أبدا...
أخيرا جاء انتقام الإله.. انتقام عادل لهذه الأم المظلومة.. جُرّ في ليلة إلى السجن، حيث قبع فيه ما شاء له أن يقبع.. بسبب جرم ارتكبه في حق غيره صغير، لكنه كان جزاء جرم ارتكبه في حق أمه عظيم..
حملتها فطرة الأم و حنانها حين سمعت الخبر.. فهرعت تجر أذيالها خلفه.. تواسيه و تخفف من شدة ما ألم به.. لكنه كان يصدها في كل مرة.. بل وصل به العقوق أن يشتمها و يأمرها بعدم المجيء ثانية لأنه لا يريد رؤيتها.
صارت هي الأخرى حبيسة و ساوسها و خوفها و حزنها على مصير فلذة كبدها.. فتوقفت مرغمة عن زيارته..
توالت أيام و ليال على هذه الحال.. و بدأت الغشاوة تنجلي عن بصيرة و بصر ذاك الإبن الضال.. عثر أخيرا على مرسى الحق و العدل و الصواب.. و أخذت مشاعر الندم و الحسرة تتسلل إلى نفسه المريضة التي غطاها الصدأ.. و أخذ يخيط من الأمل أثوابا يمزقها صمت المكان.. و يلهو بها وحش الظلام الكاسر..
الساعة تمر كاليوم.. و اليوم كالشهر.. و الشهر كالسنة.. و السنة كأنها دهر أبدي لا حد له..
جر أيامه و لياليه جرا.. حتى جاء موعد الفرج.. ما عاد يتمنى غير إرضاء أمه.. و تعويضها كل سني الشقاء التي كان سببا فيها.. لكنه و في يوم خروجه.. و في اليوم الذي كان يبغي تحقيق أمنيته.. ترصد له الموت، لأنه كان على موعد معه.. صادفته شاحنة في الطريق جعلته أشلاء تقاذفت على جنبات الطريق..
يا أم خليل استجاب الله دعاءك أخيرا.. و أمنت شر خليل.. فهل ستأمنين شر نفسك التي ستظل تلومك و تتقاذفك حسرة و ندامة..
على شرفة الأحزان.. ظلت خيوط الحكاية متشابكة في ذهني.. و ظل الحزن يحوم في كل لحظة حول الحي.. يحتضن القمر بقسوة.. فتطير الآلام كأسراب العصافير تخط صدر السماء.. يرتفع الانين.. يتكسر عند بيت أم خليل.. و يبحث الفرح عن ملجأ في أحزاني.. فتقذفه أمواج الأسى إلى البعيد .. البعيد..
يتيه بصري في علياء السماء.. فلا أرى غير بدر منير.. يربت على أكتاف الحزانى.. و إلى جانبي في الحديقة، انتصبت شامخة الشجرة الجدة.. و على أغصانها الدافئة غفت أو نامت حمامة و صغار لها .. في هدوء و سكينة..
|