لقاء غير متوقع
كتبت اثني عشرة صفحة، إلا أنهدفي الوحيد يتمثل حتى الآن في أن أقدم نفسي إلى القارئ وأمهّد الأجواء للقصّة التي سأرويها. فأنالست الشخصية المحوريةفي هذه القصة. بل يعود شرف حمل لقب بطل هذا الكتاب إلى ابن أختي، توم وود، ابن أختي جون المرحومة الوحيد. فقد ولدت جون "البقة" الصغيرة، كما كنا نطلق عليها، عندما كنت في الثالثة من عمري، وكان مجيئها إلى هذا العالم هو الذي جعلوالدينا يسرعا في الانتقال من شقتنا المكتظةفي بروكلين إلى منزل في غاردن سيتي، بلونغ آيلند. وكنّا دائماً صديقين وفيين، هي وأنا، وعندما تزوّجت بعد أربع وعشرين سنة (بعد وفاة أبينا بستّة أشهر)، كنت أنا الذي سار بها في ممر الكنيسة وقدمها إلى زوجها، الذي كان يعمل صحفياًفي صحيفة نيويورك تايمز، ويدعى كريستوفر وود. وأنجبا طفلين (توم ابن أختي، وأورورا ابنة أختي)، إلا أن الزواج تصدع بعد خمس عشرة سنة. وبعد سنتين، تزوّجت جون ثانية، وللمرة الثانية رافقتها إلى هيكل الكنيسة. وكان زوجها الثاني سمسار بورصة ثرياً من نيو جيرسي، اسمهفيليب زورن، كان في سجلهزوجتان سابقتانوابنة بالغة تقريباً، اسمهاباميلا. وأصيبت جونوهي في سن مبكرة، في التاسعة والأربعين، بنزيف دماغي حاد عندما كانت تعمل في حديقة بيتهافي عصر يوم قائظ في منتصف شهر آب وأسلمت روحها قبل أن تشرق شمس اليوم التالي. وكانت تلك أشد ضربة يتلقاها أخوها الكبيرفي حياته، ولم يكن السرطان الذي ألمّ به، واقترابه من حافة الموت بعد عدة سنوات يعادل البؤسالذي اعتراه آنذاك.
وبعد الجنازة، فقدت أي صلةبالعائلة، وإلى أن صادفته في مكتبة هاري برايتمان في 23 أيار 2000، كان قد مضي عليّ فرابة سبع سنوات لم أر توم فيها. وكنت أحبّ توم دائماً، وحتى عندما كان طفلاً صغيراً، كنت أعجب به كشخص يفوق الأشخاص العاديين، شخص مقدّر له أن يحقق أشياء عظيمة في الحياة. وما عدا يوم دفن جون، كان آخر حديث لنا في بيت أمّه في جنوب أورانج، بنيو جيرسي. كان توم قد تخرّج للتو بمرتبة شرف من جامعة كورنيل، وكان قد حصل على منحة لمدة أربع سنوات لدراسة الأدب الأمريكي في جامعة مشيغان. وكان كلّ ما تنبأت به له قد تحقّق، وأذكر وجبة العشاء العائلية تلك كمناسبة دافئة، فيما كنا نرفع كؤوسنا جميعنا لنشرب نخب نجاح توم. وعندما كنت في عمره، كنت أتمنى أن أسير في درب يشبه الدرب الذي اختاره ابن أختي. فقد كنت قد تخصّصت مثلهباللغة الإنكليزية في الجامعة، وكنت أطمح لأن أتابعدراسة الأدب أو ربما أتمكن من دراسة الصحافة، لكنني لم أكن أمتلك الشجاعة لمتابعة ذلك أيضاً. فقد اعترضتالحياة طريقي - سنتان في الجيش، والعمل، والزواج، والمسؤوليات العائلية، والحاجة إلى كسب مزيد من المال، وجميع تلك القاذورات التي ترهقنا وتجعلنا نغوص في الأوحال ولا نعود نمتلك الشجاعة لمواجهة ذلك بشجاعة– لكنني لم أفقد اهتمامي بالكتب على الإطلاق. فقد كانت القراءة ملاذيوعزائيوسلواني، الحافز الذي اخترته بمحض إرادتي: القراءة لمتعة القراءة البحتة، من أجل الهدوء والسكينة الجميلةالتي تحيطبكوأنتتنصت إلى كلمات المؤلف يتردد صداها في رأسك. وكان توم يشاطرني على الدوامهذه المتعة وهذا الحب.فمنذ أن كانفي الخامسة أو السادسة من عمره، كنت أرسل لهكتباًعدة مرات في السنة - لابمناسبةعيد ميلاده أو أعياد الميلاد فقط، بلكلما كنت أرى كتاباً أظن أنهسيحبه. فقد عرفتّهعلى بو وهو في الحادية عشرة، وبما أن بو كان أحد الأدباء الذينالذي كان يتناولهفي أطروحته في الثانوية، كان من الطبيعي أنه كان يريد أن يحدثني عن البحث الذي يكتبه –وكان من الطبيعي أني كنت أرغب في أن أنصت إليه. كانت وجبة الطعام قد انتهت حينذاك، وخرج الجميع إلى حديقة المنزل، وبقينا أنا وتوم في غرفة الطعام، نحتسي ما تبقىمن النبيذ.
"بصحتك، يا خال نات"، قال توم، رافعاً كأسه.
"بصحتك يا توم، وبصحة الجنان المتخيلة:حياة العقل في أمريكا ما قبل الحرب الأهلية".
" يؤسفني أن أقول إنه عنوان رنان. لكني لم أستطع أن أفكّر بعنوانأفضل منه".
"العنوان الرنان جيد. إنه يجعل الأساتذة يقفونويشنفون آذانهم. لقد حصلت على درجة ممتاز، أليس كذلك؟"
وبتواضعه المعتاد، حرك توم يده، وكأنه يريد أن يقلل من أهمية الدرجة التي حصل عليها. وواصلت كلامي، "بسبب بو كما تقول، وبسبب من أيضاً؟"
"ثورو"
"بو وثورو".
"إدغار ألان بو وهنري ديفيد ثورو. قافية غير موفقة، ألا تظن ذلك؟ جميع أحرف "الواو" هذه تملأ الفم. لا أزال أفكر بشخص دخل في مرحلة الدهشة الأبديّة. أوه! أوه لا! أوه بو! أوه ثورو!"
"شيء مزعج بعض الشيءيا توم. لكن الويل للإنسانالذي يقرأ بو وينسي ثورو. أليس كذلك؟"
ارتسمت على وجه توم ابتسامة عريضة، ثم رفع كأسه ثانية وقال: "بصحتك، يا خالنات".
فقلت: "وبصحتك، يا دكتور إبهام اليد"، وأخذ كل منا رشفة أخرى من نبيذ بوردو. وما إن وضعت كأسي على الطاولة، حتى طلبت منه أن يلّخص ليفحوى أطروحته.
"إنها عنالعوالم غير الموجودة"، قال ابن أخي، "دراسة عن الملاذ الداخلي، خريطة عن المكان الذي يتوجه إليه الإنسان عندما لا تعود الحياة في العالم الحقيقي ممكنة".
"العقل".
"تماماً. في البداية بو، وتحليل لثلاثة من أكثر أعماله إهمالاً. ' فلسفة الأثاث' و 'كوخ لاندور'و'مملكة آرنهايم'.إذا ما تناولنا كل واحدة منهما على حدة، فإنك تجد أن كل واحدة منهما عمل طريفوغريب. وإذا ما وضعتهما معاً، فإنك ستجدنظاماً مسهباً عنحنين البشر".
"لم أقرأ هذين العملين على الإطلاق. حتى أني لا أظن أني سمعت عنهما".
"إنهما يصفانالغرفة المثالية، البيت المثالي، والمشهد الطبيعي المثالي. ثم، أنتقل إلى ثورو وأدرس الغرفة، البيت، والمشهد الطبيعي على النحو الذي وصفه في "والدن".
"وهذا ما نطلق عليهدراسة مقارنة".
"لم يتحدّث أحد مطلقاً عن بو وثورو في نَفَس واحد. إنهما يقفان في اتجاهين متناقضينتماماً في الفكر الأمريكي. لكن هنا يكمن جمالهما. سكير من الجنوب - رجعي في مواقفه السياسية، أرستقراطي من حيث النسب، وغيبي في المخيلة. وشخص من الشمال لايقرب الكحول، راديكالي في آراءه، متزمّت في سلوكه، فطن،وواضح الرؤيا في كتاباته. كان بو بارعاًويبعث على الكآبة في غرف منتصف الليل. أما ثورو فكان يعبّر عن بساطة الخارج وألقه. ورغم الفروق بينهما، فقد كان أحدهما يكبر الآخر بثماني سنوات، وهذا يجعلهما معاصرين لبعضهما تماماً تقريباً. وقد ماتا كلاهما وهما شابان، أحدهما في الأربعينمن العمر، والآخر في الخامسة والأربعين. ولم يتمكنا كلاهما منالعيش حياة رجل عجوز أعزب، ولم يخلّف أحدهما أطفالاً. ومن المحتمل كثيراً أن ثورو انتقل إلى قبره وهو لم يمس امرأة. أما بو، فقد تزوجابنة عمه المراهقة, لكن سواء كانقد تم هذا الزواج فعلياً قبل موت فرجينيا كليم، فهوأمر لايزال موضع تساؤل. أطلق عليهاأشياء متشابهة، أطلق عليهامصادفات، إلا أن هذه الحقائق الخارجية أقل أهمية من الحقيقة الداخلية لحياة كل من الرجلين. وكلّ بطريقته الخاصة، أخذا على عاتقهماإعادةاختراع أمريكا. ففي مراجعاته الأدبية ومقالاته النقدية، كان بو يكافح للتوصل إلى نوع جديد من الأدب المحلي، أدب أمريكي خال من التأثيرات الإنكليزية والأوروبية. أما أعمال ثورو، فهيتمثّل هجوماًلا نهاية له على الوضع الراهن، معركةليجد طريقة جديدة للعيش هنا. وكان كلّ منهما يؤمن بأمريكا، وكلّ منهما يعتقدأن أمريكا أصبحت في الجحيم، وأنجبالاً متزايدة من الآلات والأموال تسحقها وتدمرها. كيف يستطيع إنسانأن يفكّر في وسط كلّ هذا الصخب؟ كان كلّ منهما يريد مخرجاً. فانسحب ثورو إلى أطراف مدينةكونكورد، مدعياً أنه نفى نفسه إلى الغابة -لالسبب إلا ليثبتأنه يستطيع أن يفعل ذلك. فما دام الإنسانيتحلىبشجاعةأن يرفض ما يطلبه منهالمجتمع أن يفعله، فهو يستطيع أن يعيش الحياة وفقالشروط التي يحددها هو. وما الهدف من ذلك؟ كي يكون حراً. لكن ما هدفه من أم يكون حراً؟ ليقرأ كتباً، ليؤلفكتباً، ليفكّر. أن يكون حراً لأن يؤلف كتاباً مثل والدن. أما بو من الناحية الأخرى، فقد انسحب إلى حلم من الكمال. ألق نظرة على 'فلسفة الأثاث' وستكتشف أنه صمم غرفته المتخيلةللغرض نفسه. مكان للقراءة والكتابةوالتفكير. مكانللتأمل، محرابيسوده السكونيمكن فيه للروح أن تجد أخيراًشيئاً منالسكينة. طوباوي للغاية؟ نعم. لكنه أيضاً بديل معقول لأحوال الزمن. لأن أمريكا في حقيقة الأمر ذهبت إلى الجحيم. فانقسم البلد إلى شطرين، ونعرف جميعنا ما حدث بعد عقد من الزمان فقط. أربع سنوات من الموت والدمار. حمّام دم بشريأحدثته الآلات ذاتها التي كان من المفروضأن تجعلناجميعناسعداء وأغنياء".
كان الصبي ذكياًللغاية، فصيحاً جداً، واسع الأفق والإطلاع، وأحسست بالفخر لأني فرد أنتمي إلى عائلته. لقد نالت أسرة وودزما يكفيهامن المشاكل في السنوات الأخيرة، لكن يبدو أن توم قد تجاوز كارثةانفصالوالديه– فضلاً عن العواصف التي سببتها أخته الصغيرة، التي احتجت على زواج أمّها الثاني وهربت من البيت وهي في السابعة عشرة من عمرها - موقف هادئورزين ومرتبك بعض الشيء تجاه الحياة، وقد أعجبت بهلأنه تمكن من الصمودأمام هذه المحنة. ولم يكن على اتصال مع أبيه، أو كان قليل الاتصال به، الذي انتقل إلى كاليفورنيا بعد الطلاق مباشرة وحصل على وظيفة في صحيفةلوس أنجليس تايمز، ومثل أخته (لكنموقفه كان أكثر صمتاً) لم يكن يكّن حباً أو احتراماًشديداً لزوج أمهّ الثاني. إلا أنه كان هو وأمّه على علاقة وثيقة، وعاشا محنةاختفاء أورورا كشريكين متساويين، وكانا يعانيانمن الأحزان ذاتها، ولهما الآمال ذاتها، والتوقّعات المحبطة ذاتها، والمخاوف التي لا نهاية لها نفسها. وكانت روري منأكثر الفتيات الصغيرات تسلية وإضحاكاً وجاذبيةاللاتي عرفتهن في حياتي: زوبعة منالجرأة الفاتنة والأداء المتقن، متعالمة، محرّك لا ينضب من العفويّة والشقاوة. ومنذ أن كانتفي الثانية أو الثالثة من عمرها، كنا نطلق عليها، أنا وإديث،دائماً "الفتاة الضاحكة"، وقد كبرت في عائلة وودبأنها مسليّة العائلة، المهرّجةالماكرةالتي تفيض حيوية والتي لا يمكن كبحها. وكان توم يكبرها بسنتين فقط، لكنّه كان دائم الاهتمام بها، وما أنغادر أباهما الصورة، حتى أصبح وجوده بمثابة قوة استقرار في حياتها. لكنه عندماانتقل إلى الجامعة، خرجت روري عن السيطرة– فقد هربت في البداية إلى نيويورك، ثم، وبعد مصالحة لم تدم طويلاً مع أمّها، اختفت في أماكن مجهولة. وخلال ذلك العشاء الاحتفالي بمناسبة تخّرج توم، كانت قد أنجبت طفلة خارجالرباط الزوجي (فتاة اسمها لوسي)، وعادت إلى البيت لتلقي بالطفلة الصغيرة في حضن أختي، ثم توارت ثانية. وعندما ماتتجون بعد أربعة عشر شهراً، أخبرني توم خلال الجنازة أن أورورا عادت مؤخراً لتأخذطفلتها وغادرت بعد يومين. ولم تحضر صلاة دفن أمّها. وقال لي توم ربما كانت ستأتي، لكن أحداًلايعرف كيف أو متى يتّصل بها.
رغم ما أصاب العائلة منمشاكل، ورغمأنه فقد أمّه وهوفي الثالثة والعشرين من العمر، لم يكن يساورني أدنى شك بأن توم سيتألق وسيصبح شخصاً مرموقاً في هذا العالم. فقد كان ثابت العزيمة، ولا يمكنه أن يفشل، وكان يتمتع بشخصية شديدةالصلابةلا يمكنلرياحالحزن المتقلّبة والحظ العاثر أن تؤثر عليه. وخلال جنازة أمّه، كان يمشي مذهولاً، يتملكه الحزن والأسى. وربما كان عليّ أن أحدّثه أكثر، لكنني كنت أنا أيضاً مشوشاً، فاقداً صوابي، ولم يكن بوسعي أن أقدم له شيئاً. قليل من المعانقة، وبضع دموع مشتركة، لكن كان ذلك كل شيء. ثم عاد إلى آن آربر، وفقد أحدنا الاتصال بالآخر. وكنت غالباً ألوم نفسي على ذلك، إلا توم كان في سن يجعله يأخذ المبادرة، ويستطيع أن يكتب ليرسالةعندما يشاء، أو إن لم يكن لي، فليرسل شيئاً لابنةخاله، راشيل، التي تعيش في ذلك الوقت في الميد ويست أيضاً، تدرس دراساتها العليا في شيكاغو. فقد كان أحدهما يعرف الآخر منذ طفولتهما، وكانا دائماً على وفاق، لكنه لم يقدم على أي خطوة تجاهها أيضاً. وكنت أشعر بين الحين والآخر بوخزالضميرعندما مرت السنوات، لكنني كنت أنا نفسي أمرّ بفترة عصيبة (مشاكل زوجية، مشاكل صحية، مشاكل مالية)، وكنت مشغول البال دائماً إلى درجة أني قلما كنت أفكّربه. وعندما كنت أفكّر به، كنت أتخيلهوهو يشق طريقه فيدراسته، ويرتقي السلم الأكاديمي. وفي ربيع عام 2000، كنت واثقاً من أنه حصلعلى وظيفةمحترمة في مكان مرموق مثل جامعة بيركيلي أو كولومبيا - نجم مثقف صغير منكب على تأليف كتابه الثاني أو الثالث.
تخيّل إذن دهشتي عندما دخلت إلى سقيفة برايتمان في صباح يوم الثلاثاء ذاك من شهر أيار،ورأيتابن أخي جالساً وراءالكاونتر، يعيدقطعاً نقدية صغيرة لإحدى الزبونات. ومن حسن حظيأني رأيت توم قبل أن يراني. ويعلم اللّه ما الكلمات المؤسفة التي كانت ستنسل من بين شفتي لو لم تكن أمامي العشر ثواني أو الاثنتا عشر ثانيةحتى أمتص الصدمة. ولا أشير هنا إلى الحقيقة غير المحتملة بأنه موجود هنا يعمل أجيراً في مكتبة للكتب المستعملة فقط، بل أشير أيضاً إلىتغيّر مظهره الجسديتغيراً جذرياً. فقد كان توم مربوع القامة. وكانت قد حلت به اللعنة بأنه اكتسب جسد فلاحذا عظامكبيرة خلق ليحملأوزاناً ثقيلة - هدية ورثها عن أبيه الشبه مدمن على الكحول - لكنه رغم ذلك، كان مظهره جيداً بعض الشيء عندما رأيته آخر مرة. نعم كان ضخم الجثة، لكن العضلات كانت تكتسي جسدهوكان قوياً أيضاً، وكان يتقافزفي خطوته مثل عدّاء. أما الآن، وبعد سبع سنين، فقد ازداد وزنهثلاثين أو خمسة وثلاثين باونداً، وكان يبدو سميناً وقصيراً. وبرزت ذقن ثانية تحت خطّ فكّه، حتى يداهأصبحتاغليظتين ومكتنزتين، وهو شيءيحدث لأشخاص فيمتوسط العمرعادة. كان مشهداً مؤذياً. فقد انطفأت الشرارة التي كانت تنطلق من عينيّابن أختي، وأصبح كلّ شيء فيه يشي بالهزيمة.
بعد أن دفعت الزبونة ثمن الكتاب، اقتربتوأخذت مكانها الذي أصبح شاغراً، ووضعت يدي على الكاونتر، وانحنيت إلىالأمام. وصادف حينها أن توم كان مطرقاً برأسه في تلك اللحظة ينظر إلى الأرض، وهو يبحث عن قطعة نقديةكانت قد سقطت على الأرض. تنحنحتوقلت: "هيه، أنت هناك، توم. لم أرك منذ زمن بعيد".
رفع ابن أختيبصره إلىالأعلى. في بادئ الأمر، بدا مشوشاً ومرتبكاً تماماً، وخشيت أنه لم يعرفني. لكن ما أن مضت لحظة واحدة حتى بدأ يبتسم، وفيما استمرتالابتسامة ترتسم على وجهه، تشجّعت عندما رأيتأنهاكانت ابتسامة توم القديمة ذاتها،وقد أضيفت إليها مسحة من الكآبة، ربما، لكنها لم تكن كافيةلأنتغيّره كثيراً كما خشيت.
صاح: "الخال نات! ماذا تفعل بحقّ السماءهنا فيبروكلين؟"
قبل أن أجيبه، خرج بسرعة من وراءالكاونتر،وطوقنيبذراعيه. ولدهشتي الكبيرة، اغرورقتعيناي بالدمع.
وداعاً أيها البلاط
في وقت لاحق من ذلك اليوم، دعوته لتناول طعام الغداء في مطعم كوزميك. وقدمت لنا مارينا البهية سندويتشات بالديك الرومي وقهوة باردة، وغازلتهاأكثر من المعتاد، ربما لأنني كنت أريد أن أثير إعجاب توم، أو ربما لأنني كنت ببساطة مبتهجاً. لم أكن أدرك مدى اشتياقيللدكتور إبهام اليد، وتبين الآن أننا كنّا جارين في الحيّ -نقيم بالصدفة المحضة –لا يفصلنا سوى حارتين في مملكة بروكلين القديمة، في نيويورك.
قال إنه يعمل في مكتبة سقيفة برايتمان منذ خمسة أشهر، وأن السبب الذي جعلني لا أصادفه من قبللأنه كان يعملبشكل دائمفي الطابق العلوي، يعدّالكتالوغات الشهرية للكتب والمخطوطات النادرةفيمكتبة هاري، التي كانت تدر ربحاً أكبر بكثير من بيع الكتب المستعملة في الطابق الأرضي. ولم يكن توم بائعاً، ولم يعملعلى صندوق النقد مطلقاً، إلا أنه كان لدى الموظفالمسؤول عن ذلكموعداً مع الطبيب في ذلك الصباح، وطلب هاري من توم أن يحل مكانهإلى أن يعود إلى المكتبة.
وتابع توم أنه لا يوجد شيء يمكن أن يتفاخر به عن هذا العمل، لكنه كان على الأقل أفضل من العمل كسائقتاكسي، وهو العمل الذي كان يقوم به منذ أن ترك دراسته العليا في الجامعة وعاد إلى نيويورك.
"متى كان ذلك؟"سألته، باذلاً ما بوسعي لإخفاء إحباطي.
فقال: "قبل سنتين ونصف. كنت قد أنهيت دراستيالفصلية، ونجحت في امتحاناتي الشفويةوبدأت أعمل علىالأطروحة. لقد بدأت عملاً أكثر مما أستطيع تحملهيا خال نات".
"إنس كلمة خال نات، يا توم. نادني فقط ناثان، كما يناديني الآخرون. الآن وبعد أن ماتت أمّك، لم أعد أشعر بأني خالك".
"حسناً، يا ناثان. لكنك لا تزال خالي، شئت أم أبيت. وربما لم تعد العمّة إديث زوجة خالي، كما أظن، حتى لوأنزلت إلى فئة زوجة خال سابقة، أما راشيل فهي لا تزال ابنة خالي، وأنت لا تزال خالي".
"نادني ناثان فقط، يا توم".
"سأفعل، يا خال نات، أعدك بذلك. من الآن وصاعداً، سأخاطبكدائماً ناثان. وبالمقابل، أريدك أن تنادني توم. لا الدكتور إبهام الإصبع، اتفقنا؟ فهذا يزعجني قليلاً".
"لكني كنت أناديك دائماً هكذا. حتّى عندما كنت صبياً صغيراً".
"وكنت دائماً أناديك الخالنات، أليس كذلك؟"
"حسناً. ألقي سيفي إذن".
"لقد دخلنا عصراً جديداً يا ناثان. عصر ما بعد العائلة، عصر ما بعد الطالب، عصر ما بعد ماضي عائلتي غلاس وود".
"ما بعد الماضي؟"
"الآن. وكذلك في ما بعد. لكن لم نعد نفكر بما سيحدث".
"ماء تحت الجسر يا توم".
أغمض الدكتور إبهام الإصبع السابق عينيه، وأمال رأسه إلى الخلف، ورفع سبابتهفي الهواء، وكأنه يحاول أن يتذكر شيئاًنسيه منذ عهد بعيد. ثمّ، وفي صوت مسرحي متجهّم، راح يتلوالسطورالافتتاحية لريلخة "وداعاً أيها البلاط":
كالأحلام الكاذبة، انتهتمباهجي،
ومضت جميع أيام الوداد،
لقد ضلّل حبّي، وانزوى هواي:
ومن كلّ هذا ماضي، لم يتبق سوى الحزن.