[frame="10 90"]
صنّاع الحياة الحقيقيون
الملحق الثقافي
3/2/2009
مصطفى الولي
نعرف السيرة الذاتية كعمل يقوم صاحب السيرة بكتابته، ويأتي السرد فيها ليعبر عن محطات الحياة التي عاشها كاتبها- صاحبها- ، ويطلق على هذا النوع من الكتابة»
رواية السيرة الذاتية « حتى وإن كانت بنيتها السردية واللغوية لاتتوفر عن خصائص الرواية الفنية. أما حين يكتب الأديب ، خاصة الروائي، سيرته الذاتية، نقف حينها على سرد يجتمع فيه كم كبير من الوقائع التي عاشها صاحب السيرة، وفي بناء سردي تتلامح فيه العناصر الفنية للعمل الروائي، وبلغة دالة على الإبداع الأدبي. وعلى العموم فإن السير الذاتية ، هي على الغالب لأشخاص من طبقة النخب، أكاديمية كانت أو علمية أو إبداعية أو سياسية. ثمة سير ذاتية لايكتبها أصحابها، ويعتمد من يقوم بهذه المهمة على وثائق وأوراق تتصل بحياة صاحب السيرة، الذي ربما يكون شخصية لها أهميتها في الحياة العامة، ولا تقدر على الكتابة، أو أن تكتب السيرة بعد غياب صاحبها عن الحياة.
أما تقديم السيرة الذاتية في رواية فنية، يشتغل كاتبها على سرد فني ، يأخذ القارئ إلى حدود يندمج – يلتبس- فيها الواقع الحقيقي مع الخيال الفني، وهو- الكاتب- ليس صاحب السيرة، إنما شخص آخر، شخص لم يترك وراءه أوراقاً أو وثائق، بل تجربة دراماتيكية وتراجيدية، يتناقلها الآخرون عنه، سنكون حيال نوع خاص من الروايات وطريقة مختلفة لكتابة السيرة الذاتية. ولعل الأهم حين يكون صاحب السيرة ليس من النخب المتعارف عليها، بل من العاديين ، لكن من صناع الحياة الحقيقيين، من عشاق الحرية، والمكافحين في سبيل تحقيقها حتى النهاية.
رواية مادلين إسبر « الأنشودة الأخيرة» تقوم بإظهار سيرة رجل من الذين حولوا صنع تاريخ الحرية لشعبهم، متنقلة في سردها الروائي بين عالم الوقائع وجماليات الخيال، وهي تقدم بذلك معرفة ومتعة للمتلقي، وتسهم في إنصاف تاريخ أحد الرجال الذين كرسوا حياتهم لحماية شعبهم من التبديد والتدمير. والأكيد أن بطل الرواية» أحمد طافش» لم يكن يسعى لذاته، أو يتخيل أنه سيحضر بطلا لرواية تعتمد على سيرته الذاتية. وما قامت به الكاتبة يعزز المعنى الذي جسده البطل في مسيرة حياته، ويفعم النفوس بالأمل ويشحذ همم الأجيال « أحفاد وأبناء أحفاد» القادمون إلى مواصلة الحياة وتجسيد الحلم.
« أحمد أيها الكامن ما بين الحقيقة والحلم.. ما بين الصحوة والغفوة.. ما بين الخيال والوهم، أنت تاريخ مفعم بالحب حينا والحقد أحيانا.. بطل تتمرد على الموت.. صوتك المرتجف الممتلئ بقوة الأرض في هذا العالم المأساوي.. فمك الذي ينزف دما وروحك التي تنزف ألما من أجل الحرية والحب والخير والجمال..» الرواية ).
بهذه العبارات، تلخص الكاتبة، بصوت الراوية( ماريا) شخصية بطلها أحمد، الذي هو شخصية حقيقية وواقعية، لعبت دورا نضاليا حقيقيا في النضال الفلسطيني المبكر، قبل نجاح الغزو الصهيوني بإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
يستوقف القارئ للرواية، ما يجتمع فيها، وعلى امتداد فصولها السبعة، من أشكال للسرد، بعضه يعتمد على وقائع يمكن أن تعد جزءا من سيرة ذاتية لشخصية البطل، وبعضه الآخر يتحرك ضمن مساحة من الخيال، لكنه الخيال المطابق، في دلالاته ومعانيه، للمؤهلات الواقعية الحقيقية التي تكشف عنها الأحداث في الرواية. أحداث لها تواريخها الموثقة، وأمكنتها المعروفة على الأرض والخارطة، وشخصياتها التي تحمل أسماء حقيقية ومعروفة. ولعل الكلمة التي جاءت على الغلاف الأخير للكتاب ، بقلم خليل طافش ، ابن المناضل أحمد، والزاوية التي كتبها السيد أكرم زعيتر، على ثنية الغلاف الأخيرة للرواية، أمران يحسمان واقعية الشخصية( أحمد طافش)، وكذلك واقعية الأحداث المحورية في سيرة الشخصية.
رغم المادة الواقعية جدا للأحداث التي طالعتنا عليها الرواية، غير أن البناء الفني الذي قدمته الكاتبة، من مطلع الفصل الأول، وعلى مدار الفصول كلها، يقيم توازنا في قيمة الرواية. بين قوة موضوعها( المضمون والأحداث الواقعية)، وبين الشكل الفني البسيط والمشوق، الذي لايخلو من العبارات الشاعرية ، التي في تكاملها مع الصور الإنسانية، دون أن تربك السرد، أو تخل بروح العمل الأدبي. وهما، الشاعرية والوصف، لا يأتيان على الغالب، مقحمين على الأحداث، إنما يعطيانها دفقا أدبيا يليق بتقديم الشخصية الأساسية للقارئ، ويضعه في أمداء أرحب لمعرفة معاناة النضال وتحدياته، والثمن الذي كان يقدمه النموذج الذي عبر عنه أحمد طافش، في مسيرة تلخص معاناة وتضحيات شعب بأكمله.
ماريا، التي أعطتها الكاتبة مهمة السرد قي الزمن الأطول من الرواية « تمضي إليه، لتشعل شموعا كانت قد انطفأت فيه أو تكاد.. تشعر الآن بأشياء وأشياء لا تشبه البكاء ولا الفرح، لا تشبه الامتلاء ولا الفراغ، شعور جعلها تحاول أن تمتلك روحا لا حدود لها فتتملكها هذه الروح..» و بصوت ماريا، تبين لنا الكاتبة خيط الحبكة الفنية الذي يميز للقارئ بين الواقعي والمتخيل، فتكون ماريا في مطلع الرواية، هي « والصورة والصوت فقط، في الغرفة الصغيرة.. التي حعلتها تنتمي إلى حلم موجود وغير موجود.. تقفز الحرف إثر الحرف.. فراحت تختزل الصوت والصورة (وتتساءل) هل هو الحلم أم الحقيقة. وهي في الحلم ، بصوتها المخنوق المبحوح سألته:
من أنت أيها الحلم الآتي من صورة عمرها سنوات وسنوات معلقة على جدار؟»
هكذا من الحلم والخيال تدخلنا الكاتبة إلى أحداث الرواية، بادئة من تقديم الشخصية ( أحمد طافش) بسرد تتناوبه ماريا مع أحمد طافش، وبوقفات حوار معه يبدو وكأنه حوار مع شخصية حية يجري في زمن الرواية وليس في زمن الأحداث التي أخبرتنا عنها الكاتبة بصوت الشخصيتين الأساسيتين( ماريا وأحمد طافش).
نتعرف إلى شخصية أحمد طافش بصوت ماريا غالبا ، وبصوته هو كما صاغته الكاتبة، وحين تقتضي الضرورة التي تفرضها الحبكة، يدخل الصوت المباشر للكاتبة ليزيح أي غموض عن الشخصية الأساسية، أحمد طافش، أو ليوضح مشاعر وانفعالات السارد الأساسي، ماريا.
أحمد طافش ابن مدينة صفد ، ولد فيها سنة 1901، لأب من فلاحي المنطقة، وقبل أن يبلغ نهاية عقده الثاني « انطلق على فرس كان قد اشتراها له والده، مع مسدس وسكين.. هو ورفاق له هجروا من أراضيهم من مختلف المدن الفلسطينية، وبدأوا حرب عصابات « .
معركة على جبهتين فرضت على الفلسطينيين، الانتداب البريطاني، والغزو الاستيطاني الصهيوني، لكن الدور الأخطر الذي تؤكده الرواية، في مسار الأحداث التي واجهت البطل، كان سلوك وممارسات سلطات الانتداب.
ونطالع في الرواية تلك الموجات المتداخلة بصخبها وعنفها وأخطارها، لكن في خضمها يعيش البطل إنسانيته، رغم قسوة الحياة وأخطار المطاردة له من جيش الاحتلال « ينفتح باب تفتحه صبية أعادت الروح إلى جسده.. فتاة كان صوتها أعذب من نغمات الحياة، وصورتها ألطف من ورق الأشجار، وهمهمتها أعمق من هذا الشيئ الذي ينبع من داخلنا ولا نستطيع أن نبلغ سره» .
مثل هذه اللحظات في السرد، تنقل القارئ من سفح إلى آخر نقيض ، نابض بالحياة، متدفق المشاعر، كله رهافة ورقة، من خطر الموت الداهم إلى نظرات الحب الأولى، وهمس العشق والحنين، ولهيب المشاعر وفيضها ، في تحد لأعداء الحياة والحب والحرية. إنها خديجة ..خديجة الشاعر، الزوجة الأولى للمناضل أحمد طافش، والتي ستبعدها عنه، وتحرمه منها، المأساة التي تعرض لها أحمد بحكم الإعدام الذي صدر بحقه ثم خفف إلى المؤبد.
أحمد طافش من داخل زنزانته، بقي متشبثا بقضيته، وحتى يواكبها لابد من كسر قيد حريته الشخصية. رتب عملية فرار من المعتقل، الذي تعرف فيه على المناضلين الثلاثة المشهورين( عطا الزير، وأحمد جمجوم، وفؤاد حجازي) وشهد لحظة تنفيذ جريمة إعدامهم. ونجح في الفرار مع مجموعة من رفاقه في النضال، لكن الوشاة والمخبرين من ضعاف النفوس، مكنوا شرطة حكومة الانتداب منه، ومن المجموعة التي استشهد واحد منها.
صورته وهو سجين أبرزتها الرواية بقوتها وتحديها للسجان. وعاود المحاولة للفرار من المعتقل، وإن لم يفلح في الثانية، لكنه أصبح أسطورة تثير الرعب لدى السجان، وتنتزع احترامه رغما عنه.
تمضي الكاتبة في صفحات روايتها، فتعرف القارئ إلى محطات هامة في تاريخ القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل، وذلك في بؤرة الحدث الذي تعيشه شخصية أحمد طافش، بطل الرواية، ومركز الحدث الواقعي في العمل الروائي. فهو عاد وتزوج من سميحة، بعد أن أطلق حرية خديجة ، زوجته الأولى، حتى لا تنتظره وهو المحكوم بالمؤبد.
ربما في الرواية مايستدعي وقفة نقدية للجوانب الفنية، غير أن موضوعها الذي سعت الكاتبة إلى تظهيره ووضعه أمام القارئ ، ليتعرف إلى عينة من بطولات الفلسطينيين وما واجهوه من تحديات، كان موضوعا جليلا وعظيما، وصورة أحمد طافش البطل في الواقع والتجربة، كان جديرا بأن يكون بطلا في رواية قدمت محطات هامة من سيرته الذاتية، وهي رواية تصلح وثيقة من وثائق التجربة التاريخية للنضال الفلسطيني.
أما عينا ماريا اللتان فاضتا بالدموع في نهاية الرواية، تعود « فترى صورته مازالت معلقة على الجدار.. كان وجهه كالفجر مشرقا متعبا ومبتسما أيضا وكأنه خرج للتو من معركة ظافرة.. ولكن سالت فيها دماء كثيرة» .
[/frame]