عرض مشاركة واحدة
قديم 13 / 08 / 2010, 57 : 02 AM   رقم المشاركة : [13]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: الدار اللي هناك -2-

[align=justify]
(2)


صار أبي قائدا للحامية وازدادت أواصر العلاقة بينه و بين القائد الممتاز . وكان من عادتهما القيام برحلات عدة ، تارة إلى قمة الجبل و تارة إلى أسفل الوادي حيث الغدران و الخوانق ذات الغطاء النباتي الكثيف . فيصطادون اليمام و الأرانب . وكنت في بعض الأحيان أجلس على حافة الشط أرقبهما ينحدران إلى أسفل الوادي صحبة بعض الموظفين وثلة من البدويين ذوي الخبرة في قنص اليمام و درايتهم بأماكن تواجده ، فأظل أراقبهم إلى أن يغيبوا عن بصري ، ثم لا ألبث أن أسمع طلقات نارية ، فأعرف أن القنص قد بدأ .
وقد سمح لي أبي مرة بمرافقته ، لكنه لم يدعني بعد ذلك قط . ربما لأنه لم يستسغ حوار البعض أمامي وما تضمنه من كلمات بذيئة و روايات عن مغامرات عاطفية لبعض الشبان في ذلك المكان المنعزل المقفر .. حكايات أيقظت فضولي وأثارت تساؤلات جمة في ذهني .. كانت مع ذلك رحلة ممتعة عند "غدير شامة " و " المقطوعة " التي لم تكن تتوفر على ضفتين و إنما كان يحف بها جداران من الصخور الملساء الشاهقة حيث يتخذ اليمام أوكاره . و أذكر أنني شعرت ، و أنا أغطس في الغدير لأول مرة ، بالرهبة و انا ألتفت يمينا و يسارا فلا ألفي سوى صخورا صماء تعالت في السماء و صمتا رهيبا يلف المكان ، فينعش ذلك ذاكرتي ويعود بي إلى فترة اكتشافي لبيتنا الذي كان في يوم من الأيام مهجورا .
وأنا في وسط الغدير ، أخذت أرنو إلى أعلى الصخور المليئة ثقوبا و أوكارا تختلف أحجامها . بعضها على شكل كهوف صغيرة . وكانت الصخور التي على جهة الشرق امتدادا لسفح الجبل بحيث كانت تطل الأشجار من أعلاها كأنها تريد الغطس . ترى ماذا وراء تلك الأشجار ، وهل هناك من ورائها كهوف أكبر كالتي حدثني عنها صديقي "الأرنب" وعن روادها من المقامرين أو الهاربين من المخزن ؟
لكن هيهات .. زمن المغامرات ولى مع انتهاء حكاية المنزل رغم أن ما قرأته من الكتب التي تركها لي عمي الفاضل قد أثرى معجمي وصرت على دراية بكثير من المناطق القريبة من قريتي . وفيها ما يشتهيه كل عاشق للمغامرات ومحب للاستكشاف .
ولى ذلك الزمان . أما الآن فستبدأ مرحلة أخرى بعيدا عن "المجرى" . ترى هل أحتمل البعد عنها ؟ .. حقا ، إن هي إلا تسعة أشهر تتخللها عطل كثيرة يمكنني العودة أثناءها ، لكني أشعر أن هذا كثير . ولا أدري لم انقبضت نفسي وأنا أفكر بالمرحلة المقبلة رغم حبي للدراسة و شغفي بالمزيد من التحصيل .
انتبهت إلى صوت أبي يدعوني للالتحاق به كي نتناول الغذاء . وكعادتي شرد ذهني بعيدا و سبحت أفكاري موغلة في نسج أسفار و رحلات في الخيال ، بينما كان أبي يراقب بكل هدوء وصمت شرودي و انطوائي و ميلي شيئا فشيئا للعزلة ، ويجيب أمي الملتاعة :
- لا تقلقي .. هذا شيء طبيعي لمن في مثل سنه .
- لكن ، ألم تر نحافته و هزاله ؟ حتى الأكل صار ينفر منه . أين مني ابني المرح الأكول ؟
- لا عليك . فقط ، لا تكثري من لومه أو حتى سؤاله .
- يعني .. قلبي يتقطع عليه ولا أتكلم . أليس هو ابني ؟
ويطيب أبي خاطرها وهي تجهش بالبكاء قائلا :
- أنا أعرف لوعتك وقلقك عليه . هو ابني أيضا . اصبري قليلا ، فسوف يمر كل شيء بسلام إن شاء الله .
كنت أسمع ما يقولانه بشأني و أنا في غرفتي مستلقيا على فراشي ، أو مطلا من النافذة على الوادي الغارق في الظلام . ربما كانا يحسبانني نائما ، لكن همسهما كان واضحا وسمعت أبي يقول قبل أن يغادر مائدة العشاء حيث يجلس قبالة أمي وهما يرتشفان الشاي :
- لقد قررت إرساله مع الطالب "علي" إلى بلدة "تزخت" بناء على طلب والده . هي فرصة ليرتاح قليلا و يغير الجو قبل أن يرحل . لا يزال أمامه شهر بكامله .
- هل ترى ضرورة في ذلك ؟
- أجل .. وقد يفيده هذا خصوصا وأن ..
- ماذا ؟
لم أسمع بقية الحديث . ربما تشاغل أبي كعادته في أحكام غلق النوافذ حتى لا تتسرب الحشرات إلى الداخل . ثم أطفئت مصابيح الغاز وساد الصمت .
الطالب علي شاب ضرير يقدم إلى المجرى مرارا لزيارة أبيه الموظف بقسم الاتصالات اللاسلكية بالقيادة ثم يعود إلى بلدته بالمصروف الشهري للأسرة وبعض الحاجيات ، مع ما يدره عليه الأهالي كإعانة بصفته حافظا للقرآن الكريم ، قبل أن يلحق به أبوه بعد يوم أو يومين . ولكني لم أكن أعلم أنه يأتي وينصرف قاطعا الفيافي و القفار وحيدا دون دليل أو أنيس .
في البداية لم أستسغ فكرة الذهاب إلى "تزخت" ، قبل عودة جدتي من طنجة حيث اصطحبت معها أخي للعلاج من أورام في الفخذ ومغص يراوده بين الفينة و الأخرى .. غير أني كنت متحمسا لمرافقة الطالب علي إلى بلدته . قد يكون الطريق الذي كنا سنسلكه يذكرني بأشياء جميلة وغريبة حدثت و نحن نغادر القرية في يوم من الأيام .
حين عادت جدتي ، صدمت لما أصاب أخي من هزال و شحوب . . صار كالخيط هزالا ونحافة لكنه لم يفقد من مرحه و دعابته شيئا ، وعاد إلى مشاكسة الصغيرتين اللتين لم تكونا تطيقان فراقه رغم ذلك . فعاد إلى المنزل مرحه و بهجته بعد أيام من الصمت الذي لم يكن يتخلله سوى حديث والدي المعتاد عني و ضحكات أختي وهما تلاعبان القطط و الكلاب التي كانت تحوم حول المنزل بحثا عن الأكل أو اللعب . و في بعض الأوقات ، كنت أرى أبي قادما وهو يتصنع الغضب ، ممسكا بيد أختي الصغرى بعد أن وجدها توغل في الغابة مطاردة إحدى الدجاجات وبحثا عن بيضها ..
قال الطبيب لجدتي إن الأورام شيء بسيط ولا يدعو إلى القلق ، لكن المغص يمكن أن تكون له مضاعفات خطيرة بسبب ضعف بنية أخي . وبعودة جدتي و أخي واطمئناني عليه ، انصب كل اهتمامي على الرحلة إلى "تزخت" .
وعشية اليوم المقرر لذهابي إلى تلك البلدة ، كانت بلدة بجوار المجرى على موعد مع حفل زفاف ابن احد الأعيان الذي أصر على أن يكون حفلا لم يسبق له نظير . استدعى له كل من يعرف من الأهالي و الوجهاء ، وحرص على أن يبرز حضور رجال السلطة بما فيهم قائد المجرى و أبي و القائد الممتاز ، بل ودعا موظفين سامين من تطوان و شفشاون و الحسيمة . كم كان الحفل بهيجا ومترفا .. الذبائح لم تنته منذ الصباح و موسيقى الغيطة و الطبل لم تتوقف ، بل إن أجواقا من النواحي المجاورة استدعيت للحفل .. وكعادتي ، لزمت مكانا تحت إحدى الأشجار الكبيرة بالقرب من سرادق كبير نصب من أجل وجبة العشاء ، بحيث كان الظلام يغطي جزء منه مما مكنني من الاختفاء وفي نفس الوقت من رؤية كل من يمر. وكان بصحبتي صديقي الأرنب بينما انصرف الآخرون ينشدون الرقص و الغناء صحبة الجوق .. قال لي الأرنب :
- لم لا تذهب وترقص ؟
- ليست لي رغبة في ذلك .. لا تتحرج في الذهاب إذا كنت تريد ذلك .
الأرنب كان يريد أن يكون من أوائل الملتفين حول مائدة العشاء كي ينصرف باكرا . أما أنا فبقيت أنظر مليا هذه الحركة التي لا تنتهي وهذا الصخب الحميمي . إلا أني لم أكن أستطيع منع نفسي من النظر ناحية تجمع فتيات المجرى بحلتهن القشيبة ، وكنت أنسى نفسي و أتطاول بعنقي كأنني أبحث عن أحد . ولم أشعر إلا و أبي بجانبي يلمس كتفي قائلا :
- ألا تريد المشاركة في "الغرامة" ؟
- بلى .. لقد سهوت عن ذلك .
وانطلقت معه وأنا أشعر بالدم يكاد يفور من وجنتي . هل لاحظ أبي تطلعي نحو الفتيات ؟ لا يبدو عليه ذلك وإن كانت تلك عادته . يخفي كل شيء بابتسامته الخفيفة .
وصلنا إلى الباحة بقرب المنزل الذي بني على شكل قصر ، ووجدت حشدا قد أحاط بأحد الأهالي وهو يصيح كلما ناوله أحد شيئا :
- ..... وهذه بذلة من نوع تركال مهداة إلى العريس من السيد قائد المجرى الله يجازيه و يكافيه .... وهذه مائة درهم مقدمة من فقيه المسجد الله يعوض له و يرزقه ...
وهكذا استمرت الغرامة و الأوراق النقدية تتكدس والهدايا تنهال بوتيرة سريعة .. وكنت أتساءل عن غير وعي مني ما الذي يمكن أن يكون القائد الممتاز قد أهداه وهل حضرت لطيفة ذلك .
بعد أن شاركت في الغرامة انسللت قافلا إلى مكاني المفضل . وفي الطريق مررت بالبدويات الصغيرات و هن يضربن على الدف ويغنين ويزغردن .. لكن لم تغب عني نظراتهن الباسمة إلي وكأن موضوع أهازيجهن موجه إلي . كدت أتعثر بحجر ببساط أمامي وأسرعت أنزوي بجانب السرادق . ومرت إحداهن بالقرب مني و هي تحمل دفا كبيرا .. حدقت في لحظة ثم أسرعت حيث رفيقاتها . بينما تابعت طريقي نحو الشجرة فوجدت الأرنب قد عاد وهو لا يزال يمضغ فقلت ضاحكا :
- بالصحة و العافية .. هل امتلأت البطن ؟
- قليلا .
وضحك مقهقها .. كنت أعلم انه لن يكتفي بوجبة واحدة و أنه سوف يعيد الكرة و يتعشى ثانية .. وما كان انتظاره لي إلا لأرافقه ونجلس معا حول المائدة .
في تلك اللحظة بدت لي أم لطيفة مقبلة صحبة أمي و والدة العريس . لا بد أنهن متوجهات للعشاء .. أين تكون لطيفة ؟ ولم يتأخر الجواب .. فقد أقبلت من ناحية سرادق وانضمت إلى البدويات وهن يغنين . كان قد مر وقت طويل لم ألتق فيه بلطيفة فاشتد خفقان قلبي و أحسست أن الدم يكاد يتوقف في عروقي .
لا أنكر أني كنت ألاحظ التغير الذي طرأ على لطيفة واعتنائها بشأنها .. وكان ذلك يمتعني خاصة حين تعقص شعرها إلى الوراء وتربطه كخصلة واحدة على ظهرها .. لكني وجدت تلك الليلة لطيفة أخرى .. أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى . فقد حرصت على أن تتأنق بشكل كبير و تنتقي أحسن ما لديها من ثياب ، فبدت أقرب لعروس منها إلى فتاة مدعوة وهي ترفل في قفطانها الأزرق وقد تمنطقت بحزام مزركش أبان عن خصر سوي في طور التكوين . كانت صاحباتها يتجاذبنها إلى الوسط كي ترقص ، لكنها كانت تمانع و هي تشير إلى من يحيط بها من الفتيان الذين كانوا يملأون الجو صفيرا .. ولم أدر كيف أدارت وجهها فجأة وراحت تنظر ناحيتي .. لا شك أن هناك من اخبرها بمكاني.. لا شك أن هناك من اخبرها بمكاني . لابد أن تكون تلك الفتاة التي التقيتها في طريقي وأنا عائد من الغرامة .. لن أنسى ابتسامتها الخفيفة و هي تمر بجانبي .
[/align]

التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني ; 15 / 08 / 2010 الساعة 26 : 06 PM.
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس