15 / 08 / 2010, 31 : 06 PM
|
رقم المشاركة : [18]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: الدار اللي هناك -2-
(3) [align=justify]
كان التفاتها كافيا ليجعلني أذكر تغير تصرفاتها نحوي .. لكني كنت واقعا تحت تأثير غريب وأنا أنظر إليها في بهائها . وشعرت أنني لن أنعم براحة البال و لن أستمتع بالحفل هذه الليلة . أحسست بأن علي أن أغادر المكان ، وما لبثت أن تصنعت صداعا و طلبت من أبي أن يأذن لي بالذهاب .. طبعا كان الأرنب مهتاجا لقراري لكنه استمهلني لحظات ريثما يحصل على فرصة للعشاء ثانية . وكان لا بد لي أن أسايره . وقبل أن أذهب ، حرصت على أن أذكر أبي برحلتي ، فأجاب ضاحكا :
- لم أنس ذلك .. الطالب علي سيبيت مع أبيه هذه الليلة ، وسنعود سويا بعد الحفل .
عدت إلى المنزل وجسمي ينتفض . ماذا جرى لي ؟ هل هو من أثر رؤيتي للطيفة ؟ هل لأني لم أجرؤ على التقدم إليها لمحادثتها ؟ أم أن ابتسامها لبعض الفتيان ، وخاصة أبناء الموظفين القادمين من بعيد ، وهم يطرون جمالها أغاظني ؟
كنت أصعد مرتفعا والأرنب في أثري ، والصخب يخفت شيئا فشيئا حتى وصلت إلى الشط حيث أشرف على الحفل وقد توهجت أنواره لكثرة المصابيح خاصة الغازية منها . ودعني الأرنب و انصرف تجاه المنبع حيث مسكنه وهو يتفحص ما غنمه من زاد . أما أنا فلم أكن أدري إن كنت لا زلت راغبا في الرحلة أم أنني حدثت والدي بذلك في لحظة انفعال .
وجدت جدتي لا زالت ساهرة و قد اضطجعت بجانب إخوتي الثلاثة .. لا شك أنهم سعدوا بإحدى حكاياتها الجميلة . بادرتني بالسؤال عما جاء بي في هذه الساعة و الحفل لم ينته ، فأجبتها بأني أشعر بصداع .
- هذا أحسن .. ارتح قليلا .. ما هناك سوى الضجيج .
هكذا كانت جدتي .. تؤيدني مهما كان تصرفي .. و لو قلت لها إني سأعود إلى الحفل لقالت لي إذ ذلك أفضل حتى أسري عن نفسي و أمرح مع الأصحاب .
- سأخرج إلى لحديقة قليلا .
- حسنا .. الجو حار .. والجلوس هناك مريح لك .
ابتسمت لجوابها المتوقع ، وخرجت ألتمس أقصى ركن من الحديقة حيث شجرة التين الفارعة . جلست مستندا ظهري إلى جذعها الضخم و نظرت إلى أعلى متأملا النجوم وقد اختلفت أحجامها .. حتى أن بعضها بدا على شكل ضباب . ثم شعرت بالتعب والنعاس يدب إلى جفوني . وحين عاد والداي من الحفل كنت قد نمت ، ولم أفطن لدخولهما ..
قضيت نصف اليوم التالي في تعهد بعض الورود في الحديقة و لم أغادرها حتى نادتني أمي للغذاء وأصرت على أن آكل بما فيه الكفاية حتى تطمئن علي و أنا في رحلتي المقبلة .. وعلى مائدة الغذاء تحدث أبي عن الطالب علي و عن أشياء أخرى لم أنتبه إليها لشرود ذهني و سهومي أثناء الأكل .
انطلقنا بعد العصر بقليل وسلكنا نفس الطريق الذي اتبعناه أنا و أسرتي يوم كنا نرحل عن القرية . فهاجت أشجاني وانهالت الذكريات على مخيلتي و كأنني أعيش من جديدي نفس الأحداث .
حين وصلنا إلى أسفل الجبل الذي يذكرني دائما بصورة غلاف الكتاب المدرسي المقرر باللغة الفرنسية ، لمحت كوكبة من الفتيات قادمات من منبع قريب . كلهن كن بدويات باستثناء لطيفة التي كانت تتقدمهن وهي تلتقط بعض الأزهار .
خفق قلبي بعنف ولم أدر هل يتوجب علي المبادرة بالتحية أم لا . لكني نظرت إليها وأنا أبتسم منتظرا أن تسألني عن وجهتي التي رما كانت تعرفها . لكن شيئا من هذا لم يحدث . بل فوجئت تشيح عني بوجهها وتبتعد مع رفيقاتها وهي تهمهم بكلام لم أفهمه . غير أن قهقهة الفتيات وهن يتبعنها مهرولات أثارت حفيظتي وشككت ، بل أيقنت أني موضوع سخريتهن . هل كن يتندرن بي ؟ ماذا عساهن أن يقلن ؟ هل ذكرت لهن شيئا عني أثار كل هذا الضحك ؟
لم أشعر إلا و أنا أنادي بصوت مرتفع الطالب علي وهو يستريح على صخرة صغيرة :
- هيا بنا سريعا .. فالمكان وسخ و مليء بالحشرات .
ساد الصمت وتوقفت القهقهات ، بينما التفتت إلي لطيفة برهة . تبادلنا النظرات ، ثم ، فجأة ، رأيتها تولي وجهها شطر القرية و تهرول مجهشة بالبكاء .
هل أخطأت و تسرعت بالتعبير عن غضبي وظننت السوء بما همست به لرفيقاتها ؟ كان شعوري مزيجا بالارتياح لما قلته لها وبشيء من تأنيب الضمير . فأخذنا نصعد الجبل وأنا لا ألوي على شيء ، و الطالب علي يسير أمامي حين لا أميز الطريق وتتشعب أمامي عدة مسالك . كان يخطو بثبات وكأنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب أو كأنه يراه . وكنت أنظر إلى قمة الجبل وأعيش لحظات الدراسة . نفس الشكل و نفس الجو الذي كنت أعيشه مع النصوص بتوالي الفصول الأربعة وأنا في حجرة الدرس .
وما زلنا نصعد حتى وصلنا إلى القمة حيث ألقيت ، كما فعلت سابقا ، آخر نظرة على المجرى وهي تودع آخر شعاع من الشمس المتوارية شيئا فشيئا وراء الجبل الكبير ، فزاد ذلك من انقباضي رغم جمال المنظر . وسرحت بذهني إلى ما حدث بيني و بين لطيفة فلم أعد أرى الطريق من شدة تأثري . وفي لحظة عثرت بحجر فتمزق حزام حذائي المطاطي . وانتبه الطالب علي إلى تلكئي في المشي فتوقف و قال :
- هل تعبت ؟
- لا ، ولكن حزام حذائي تمزق .
- حسنا ، لنسترح عند تلك الصخرة ، وسوف أصلح لك حذاءك .
التفت حيث أشار ، فوجدت الصخرة كما قال مما زادني تعجبا و اطمئنانا لصحبته وسط هذا المكان القفر . جلسنا و الظلام قد بدأ يغزو الأفق . رأيته يخرج من فتحة جلبابه خيطا و إبرة ثم طلب مني أن أناوله فردة الحذاء . ولم تمض دقائق معدودة حتى كان الحزام قد خيط بإحكام . وسألته :
- هل هذا الطريق يؤدي إلى "قنطرة ربي" ؟
- لا .. لقد تركنا الطريق إليها خلفنا .. ذاك الذي ينحدر إلى اليمين . هل زرت القنطرة يوما ؟
- نعم .. لكني نسيت الطريق إليها . متى سنصل إلى "تزخت" ؟
- بعد قليل .. لاشك أنك متعب .
- لا ، ولكن الليل قد أقبل .
- لا تخف .. أنا أعرف الطريق جيدا .
بالنسبة للبدوي ، فإنه حين يقول لك إنك ستصل بعد قليل فإن ذلك يعني أن عليك المسير أكثر من ساعة ، وحين يشير بيده إلى أن المكان قريب ، فمعناه أن المسافة قد تشمل جبلا أو على الأقل هضبة . هكذا كان شأني مع الطالب علي ونحن لا ننتهي صعود مرتفع أو نزول منحدر حتى تناهى غلى مسامعنا نباح كلب وتراءت لي بعض الأنوار الخافتة المنبعثة من قناديل غازية . وكأن الكلب عرف رائحة صاحبه فأقبل يتشمم قدمه و يتعلق بجلبابه ابتهاجا بمقدمه .
لم أكن أميز شيئا مما يحيط بي و انا أتقدم نحو أحد البيوت ملتصقا بالطالب علي وهو يلج الباب بثبات . ملأت انفي رائحة الماشية وهي تجتر وتخور و تثغو . واستقبلتنا ربة البيت بالترحاب بينما لزم أبناؤها الخمسة الآخرون الصمت وهو ينظرون إلى ابن القبطان بفضول . بل منهم من توارى خلف أمه بعين واحدة في حين اختفى نصف وجهه وراء ملاءتها .
كنت منهكا و أحس بانقباض . ربما بسبب مفارقة أهلي وحلول الظلام الذي زادني وحشة . وقد يكون للأثر الذي خلفه في نفسي ما حدث بيني و بين لطيفة عند الأصيل . لكني سرعان ما استسلمت للنوم فور استلقائي على الفراش غير عابئ بالطالب علي يناديني للعشاء ورائحة الدجاج تملأ خياشيمي . [/align]
|
|
|
|