رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
لا .. لم تكن النهاية ..
انتبهت من غفوتي اللذيذة لأنتبه أن الزمان و المكان قد تغيرا .. بل عادا بي إلى الوراء .. إلى حيث كنت أشرف على البطحاء .. وبجانبي غادتي .. وأدركت أن كل ما رأيته في عشي وفي المنبع كان حلما .. لم تكن أحاسيسي هي نفسها التي كان تغمرني و هي ترمقني بفضول .. التفتت حوالي وفركت عيني من جديد .. لا شيء تغير .. آه .. كم كان الحلم طويلا .كنت تحت تأثير مشاعر شتى .. حيرة .. سعادة .. قلق .. ترقب . كنت أحس أن أمرا جللا سيقع وأن هذا اليوم لن ينتهي بسلام.
كنت ألتفت إلى حيث الحشود وقد بدأت تغادر البطحاء ثم أعود وأنظر إليها كأني انتظر ما يخلصني من حيرتي تلك .
- يعني .. أنك لا زلت لم تقرر شيئا ..
- أقصد .. يعني .
- الأمر واضح .. وكان علي أن أفهم منذ البداية أنني لم أعد أعني لك شيئا ..
- لا تقولي هذا .. لكن عليك الاعتراف أنك من وراء حيرتي هذه .
قالت وهي تتشاغل بخصلة من شعرها :
- لا تبحث عن الأعذار .. كنت أعتقد أن محاولتي الأخيرة هذه كفيلة بأن تجعلك أسعد الناس ..
- تتحدثين عن الأعذار ؟ الم تدري كم عانيت من تصرفاتك التي بقدر ما أرهقت أعصابي .. أسلمتني لليأس المطلق ؟
- لن تفهم .. لن تفهم .. مهما شرحت لك .
- ماذا تريدين أن أفهم ؟ أنا أفهم فقط أني كنت أحبك و أنك قابلت حبي ذاك بالاستخفاف .
- كنت تحبني ؟ يعني أن ذاك الحب قد انتهى ؟
لم أرد و تشاغلت بالنظر إلى الأفق البعيد .
- قد تكون لا تحبني الآن .. وقد تحلم بحب آخر ، لكن اعلم يقينا أن حبك لها ما كان إلا لشبهها بي .. لا تنكر.
لزمت الصمت من جديد وقد بدأت أعصابي تتوتر .
- أما ما تحلم به من حب من جانبها .. فلم يكن ذلك إلا سعيا منها للاحتفاظ بذكرى حبيبها الراحل ، لما تعرفه من صلتك الوثيقة به .. هل صدقت الان ؟
- لا أدري ولكن ..
نظرت إلي غادتي لترى سبب توقفي المفاجئ عن الكلام . كنت أنظر إلى الجهة السفلى من البطحاء حيت تراءى لي بغل يتهادى نحوي . وراكبه يحثه على الإسراع .. لاحظت شحوب غادتي بينما كان جسمي ينتفض .
هي حليمة مقبلة دون رفيق .أين يكون والدها ؟ ولاحظت غادتي حرجي و أنا أنظر إلى حليمة تقترب صاعدة التلة ، فنهضت تنفض الغبار عنها وقالت باستياء :
- يبدو أن علي الانصراف .. حتى لا أفسد عليكما خلوتكما .
لم تنصرف فورا و كأنما كانت تنتظر أن أتوسل إليها بالبقاء .. فأشاحت عني بوجهها و أدبرت نحو أول مدخل للغابة لتتوقف لحظة و تنظر نحوي .. لم أدر لم شعرت بالنفور منها يزداد حدة وأنا أستشف من نظرتها انكسارا وخنوعا .. أين مني تلك النظرة المفعمة دلالا وكبرياء ؟ انتظرت ثم بدأت تخطو متثاقلة قبل أن تختفي من وراء الأشجار .. كنت في شبه دوامة .. انظر إلى حيث اختفت ، ثم أنظر إلى أسفل وحليمة تقترب شيئا فشيئا إلى أن توقف البغل قبالتي .
- خيرا إن شاء الله ؟ انتظرناك كثيرا حتى فقدنا الأمل في عودتك من هناك .
- لا و الله .. عدت و انتظرتك ، ولما لم تظهري ابتعدت عن الزحام و الضجيج .. أين أبوك ؟
- هو هناك بجانب الضريح ينهي بعض المعاملات ربما يبيت عند محافظ الضريح .
- وأنت ؟ ستبيتين هنا ؟
- أنا رجوته أن أعود إلى البلدة .. لكنه رفض لعدم وجود الرفيق ، خاصة حين لم تعد أنت .
- هل لا زلت تودين العودة ؟
- أجل .. الضجيج و الزحام يثيران أعصابي ..
قلت في همس :
- مثلي .
نظرت إلي طويلا وقالت :
- مالك ؟ تبدو شاحبا منهكا .. هل حدث شيء في غيابي ؟
يا لفراسة المرأة . ترى هل تسألني لمجرد السؤال أم أنها تلمح إلى شيء ما ؟
- لا .. لم يحدث شيء .. تعبت فقط .. واشتقت للراحة ..
ثم شرد ذهني و قلت :
- ولشيء من الهدوء ..
- لا ، لست على ما يرام .. هل تريد البقاء لوحدك ؟ لا تتحرج ..
- لا .. حليمة .. أرجوك .. ابقي معي .
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة رغم ما علا محياها من حزن دفين ، و قالت :
- ياه .. ربما هذه أول مرة تتفوه بها باسمي .
ابتسمت بدوري ونظري لا يحيد عن مدخل الغابة و كأني أخشى أن يطل منه شيء مرعب .
- إذن اتفقنا .. هل تذهب معي عند أبي لنخبره ؟
- أجل .. يجب ذلك .. هيا بنا .
شعرت بالنشاط يدب في جسدي و أصلحت من هندامي ثم أخذت بلجام البغل حين ترجلت حليمة لتسير بجانبي . كان الأب قد أنهى نقاشه مع محافظ الضريح و أقبل علي بوجه بشوش أنساني قلقي وقال :
- أين أنت يا رجل ؟ كأنما انشقت الأرض و ابتلعتك ؟
- والله تأخرت في الوصول وانتظرتكم قليلا أمام الضريح ، وحين رأيت الزحام و الضجيج عدت إلى هناك فوق التلة .
ضحك الرجل ضحكته المعتادة و قال :
- هاهي شبيهتك في ذلك .. لم تطق ما ذكرته أنت من زحام و صخب ، و توسلتني لكي نعود .. لكن ، كما ترى ، لا يمكنني ترك مشاغلي اليوم .. والحمد لله أنك هنا .. لكن إذا كان هذا الأمر يزعجك و تريد الاستمتاع أكثر باللمة ، فلا عليك ..
- لا يا عمي .. لا ناقة لي و لا جمل باللمة .. رأيت ما فيه الكفاية و أريد العودة أنا أيضا ..
- الحمد لله .. أزحت عني عبئا كبيرا يا بني .. سترافق حليمة و أنا مطمئن البال . هل تحتاج لشيء ؟
- لا .. بارك الله فيك يا عمي ..
لكن الرجل أصر على أن نأخذ بعض الزاد و الماء و حلويات من اللمة . ثم رافقنا إلى أعلى التلة حيث ودعنا .
من جديد يسود الهدوء التام وقد مالت الشمس للمغيب . كانت بعض العصافير تعود مسرعة لأوكارها وهي لا تزال تملأ الجو حوافر البغل ووقع خطواتنا .. حليمة لم تشأ أن تركب وفضلت المسير إلى جانبي . كنا نسير بجانب حقول الذرة اليانعة وقد تسربت بين جنباتها سواقي يسري ماؤها في هدوء .
- هل التقيت بمعارفك ؟
خفق قلبي بعنف لسماع هذا السؤال المفاجئ وبجهد جهيد أجبت محاولا ألا يبدو في صوتي ما ينم عن انقباضي :
- لا .. لم ألتق بهم ..
- وعشك الدافئ ؟ هل زرته ؟
طال صمتي حتى أحسست أنني أجرحها بذلك فأجبت :
- نعم زرته .. كان هناك بقايا عش .. كل شيء اندثر .. دمار وخراب ..
- لا تيأس .. ربما تعينك الأقدار على بنائه من جديد .
كانت لهجتها صادقة .. ولمست الوفاء و الإخلاص في كل كلمة تنطق بها . فتوقفت لأنظر إليها . كان تصرفي مفاجئا .. نظرت إلي بدهشة و عيناها تتساءلان .. ولأول مرة استطعت أن أحدق فيها طويلا لأكتشف أن حليمة لا تمت بصلة إلى غادتي ولا تشببها بالقدر الذي كنت أتوهمه . ربما كان هناك تشابها في العينين .. لكن في ما عدا ذلك فإن الاختلاف كان واضحا .. فحليمة كانت لها تلك المسحة البدوية التي لا تخفي شيئا مما في داخلها .. كل شيء منها يقرأ في عينيها الصافيتين . أما وجنتاها فتحتفظان بحمرتهما دائما ، بل وتصير هذه الحمرة قانية عند قيامها بعمل مجهد أو عندما يغلب عليها الانفعال .. هل هذا يعني أن تعلقي بغادتي وبحثي المتواصل عنها كانا يوهماني بهذا الشبه ؟
- ما لك ؟ ولم توقفت ؟
- لا شيء .. كنت أود أن ..
عيناها متلهفتان لسماع ما انتظرته طويلا .. اللهفة تبدو لي ترجيا ، بل توسلا ..
- حليمة .. لقد سبببت لك الكثير من الآلام .. وحان الوقت لكي أعوضك عن كل شيء .
- أنت لم تفعل شيئا يؤلمني .. ربما كنت أنا ..
- لا .. كنت أنانيا وقابلت عواطفك بالاستخفاف و اللامبالاة .. لكني أرجو أن تعذريني لأن صورة المرحوم لم تفارق ذهني .. أدركت ألآن كم كنت على حق .. سيكون راضيا و أنت سعيدة .
أطرقت صامتة فاستطردت أقول بحماس ..
- آن الأوان لكي أعوضك عن كل الآلام .. ولكي أعيد بناء عشي الدافئ من جديد .. أنا متيقن من أنه سيستعيد نضارته و رونقه بوجودك .. فقط أريد أن تسامحيني و تبقي بجانبي .
- وهل شككت لحظة في غير ذلك ؟
شعرت بالأرض تميد تحت قدمي وبكل شيء يتراقص من حولي .. فقلت :
- لا .. لم أشك لحظة .. لم لا نستريح قليلا عند ذاك الغدير ؟
- نعم . أنا أيضا تعبت .. لكن علينا ألا نتأخر .. فالليل وشيك .
وعلى ضفة الغدير كنت أشكل أعذب الكلمات و أهمس بها لحليمة التي تورد خداها وتلألأت عيناها ببريق لم أنسه .. ذاك البريق الذي شع من عينيها يوم ذهبت لأعود بها من عند خالتها و انطلقت على سجيتها تلهو و تمرح وسط الجدول .
على ضفة الغدير كنت أستسلم لموجة عارمة تجرفني نحو حليمة .. فلا أملك إلا أن أنهار وأسلم زمام أمري لتلك الموجة العاتية و أنسى كل شيء .. كل شيء سوى أني مع حليمة .
[/align]
|