عرض مشاركة واحدة
قديم 19 / 08 / 2010, 30 : 09 PM   رقم المشاركة : [19]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: الدار اللي هناك -2-

(4)
[align=justify]
أفقت عدة مرات لأجد نفسي ممددا على مصطبة من الطين مفروشة بغطاء صوفي سميك . حاولت تمييز الأشياء من حولي والإطلالة من نافذة صغيرة بالحجرة ، فلم أر سوى الظلام .. ومع مرور الوقت بدأت المعالم تتضح أمامي مع بزوغ أولى خيوط النهار وهي تنير الأفق ، في الوقت الذي بدأ صياح الديكة يتعالى في استرسال ممتع .
توضأت و صليت الصبح وأنا أحس بالبرد ، وأخذت أبحث عن رداء أغطي به كتفي على الأقل ، ثم نهضت إلى الباب وفتحته لأجد نفسي أمام منظر عجيب .. فأمامي كان منحدر سحيق لا ينتهي إلا عند الوادي ، ومن ورائي جثم الجبل بكل جبروته وهيبته ، بحيث بدا لي المنزل وكأنه معلق على سفحه ، بينما امتدت على يميني حقول مائلة وقد تناثرت عبر أرجائها أشجار التين و البرقوق و المشمش و الكرز وبعض أشجار التفاح و الإجاص و الجوز .
ندت حركة من ورائي ، فالتفتت لأجد إحدى أخوات الطالب علي تقول مطرقة :
- "عزي" (أخي الأكبر) يدعوك "لتخرف" ..
و"تخرف" معناه تناول فاكهة الخريف . ومن عادة البدويين أن يتناولوها طازجة ، خصوصا التين ، بحيث تكون باردة ندية في هذا الصباح الجميل و الشمس لم تشرق بعد . فما كان مني إلا أن أسرعت متجنبا الانزلاق في المنحدر وذهبت إلى حيث أشارت الصبية فمررت في طريقي ببئر عريض على شكل بركة ، لكنه ضحل ، و الطالب علي جالس في وسطه يستحم وقد دهن رأسه الحليق وسائر جسده بمسحوق الصابون الخاص بالأواني . أخذتني رعشة و سألته :
- ألا تشعر بالبرد ؟ .. الماء مثلج في هذا الوقت .
- نعم هو بارد ، لكنه صحي و منعش ، وأنا تعودت على هذا .. هل تجرب ؟
ضحكت و أنا ابتعد كي لا يصيبني رذاذ الماء وقلت :
- لا .. لا .. شكرا ، وبالصحة و العافية .
ومع إطلالة أولى أشعة الشمس وأنا في أعلى شجر التين ، تبين لي كم هو ساحر منظر هذه البلدة التي لا يزيد عدد دورها على العشرة ، وكم هو بهي ما يحيط بها من غابات و قمم حقول مشرئبة نحو الوادي . أما الأشجار فكانت تغطي المنطقة وتلونها بخضرة يانعة تزيدها زرقة السماء الصافية جمالا وحسنا لا نظير لهما .
قضيت وقتا في تسلق أشجار الفاكهة وتأمل الأفق البعيد ونفسي تلهج بالشكر سرا لأبي على فكرته بإرسالي إلى هذا المكان البهيج . كنت أتسلى بتسلق أشجار الكرز وحين أرى عنقودا يتدلى أمد شفتي لألتهم حباته .. وسرعان ما انضم إلينا جميع إخوة الطالب علي وهم يتسلقون الأشجار في خفة و مهارة القردة . وكانت إحداهم ذات مزاج عصبي ولم تشبه الباقي في نظرتهم الخجولة المشوبة بالفضول والإعجاب إلى الوافد الجديد ولا في انبهارهن بمكانته كابن قبطان . ولست أنكر أني كثيرا ما كنت أحس ببعض التعالي إزاء من أرافق من زملائي البدويين وهم يحيطون بي متأملين حذائي اللامع أو بذلتي الجديدة وسروالي القصير إلى حد الركبة . لكن أمي وهي تلاحظ ذلك قضت وقتا طويلا في إفهامي أن كل الناس سواسية وبالتالي يجب أن أعامل زملائي كإخوة . غير أني و أمام عناد هذه الفتاة و غلظتها وخشونة طباعها ، عاد إلي شعوري بالتعالي من جديد ، فقلت لها بعد يومين من قدومي عندهم وهي ترفض تسليمي أحد الفخاخ لاصطياد الطيور بحجة أنني لا أعرف استعماله و أنني سوف أعطبه :
- أنت لا تصلحين لأن تكوني مع الآدميين .
أحست بقساوة كلامي و رمقتني بعينين حادتي النظرات . صمتت قليلا قبل أن تجيب بحزم :
- وأنت ؟ لا تصلح لأن تكون ضيفا .. لماذا أتيت ؟
كان الرد أشد وقعا على نفسي ولم أتحمله ، فتركت الشجرة وعدت إلى البيت لأجد الطالب علي جالسا وشفتاه تتمتمان بآيات قرآنية . ثم توقف و سألني :
- هل "خرفت" بما فيه الكفاية ؟
لم أجب ، إذ كنت أشعر بغصة ، فسأل من جديد :
- مالك ؟ هل آذاك أحد ؟ أين هي فاطمة ؟
لقد أدرك بحدسه أنها هي سبب وجومي ، وانبرت الفتاة في تلك اللحظة من ورائي وكأنها خمنت ما سوف يقال عنها . وانتبه أخوها لوجودها فصاح بها :
- أيتها الشيطانة .. ماذا فعلت اليوم أيضا ؟
- لا شيء عزي .. ماذا يحسب نفسه ؟ في وجهه نور ؟
- اخرسي ..أهكذا يعامل الضيوف ؟
لم ترد ، لكنها كانت تنظر إلى الطريق المنبعث من الغابة وكأنها تتابع حركة أحد القادمين . و بعد لحظات أقبل علينا الأب وقد تثاقلت خطواته تعبا ، فحرك قدومه في نفسي شجونها وكأنني شممت فيه رائحة المجرى ومن فيها فغلبني البكاء و أنا اسلم عليه .. وسألني :
- كيف حالك يا بني ؟ وهل طابت لك الإقامة بيننا ؟
لم أجب على التو ، وبعد جهد جهيد قلت و أنا أغالب دموعي :
- أريد العودة إلى منزلنا .
وأسرعت فاطمة تقبل يده كما فعل أخوها .
- لماذا ؟ هل مللت أم أن أحدا آذاك ؟
قال ذلك و نظر إلى فاطمة التي أسرعت إلى داخل البيت وهي تغمغم :
- سأعد لك الماء لتتوضأ يا أبي .
لمحت شبه ابتسامة على وجه الرجل وهو يهز رأسه ، أو ربما تخيلت ذلك وهو يتابع الفتاة بعينيه ، فأخذني من يدي قائلا :
- أسرتك تسلم عليك .. الكل بخير .. هيه .. هل أعجبتك "تزخت " ؟
هدأ روعي قليلا لكني كنت أود في قرارة نفسي لو يرافقني أحد في تلك اللحظة عند أهلي . كان ذلك مستحيلا طبعا .
- أعجبني الدوار كثيرا .. لكني اشتقت لأسرتي .
- بهذه السرعة ؟ لا بأس ، عمك الفاضل لم يمنحوه إلا يوما واحدا .. وسوف أعود غدا إن شاء الله وآخذك معي .
- حقا ؟
نطقت بالكلمة دون وعي مني . شعرت بالفرح وأنا أشد على يديه امتنانا . وتوالى الإخوة و أمهم يحيون الرجل بينما بقيت فاطمة بالخارج ، يطل رأسها بين الفينة و الأخرى متوجسة خيفة مما قد ينالها من عقاب .
- تعالي أيتها العفريتة . ماذا حدث حتى مل ضيفنا سريعا منا ؟
وقبل أن تجيب فاطمة ، بادرته قائلا و أنا لا زلت تحت وقع نشوة العودة الوشيكة إلى المجرى :
- لا شيء عمي .. أنا لم أحسن التصرف وهي كانت على حق . لقد جرحتها بكلامي الفظ .
- الحمد لله .. لم يعد هناك مشكل .. لقد أحسن أبواك تربيتك يا بني وأنا فخور بصحبته .
- أولادك طيبون مثلك يا عمي ومثل خالتي الصافية .. خصوصا فاطمة .
كانت الصبية تتابع الحديث مشدوهة أمام ما تسمعه ، غير مصدقة هذا الانقلاب المفاجئ في تصرفي ، فما لبثت أن أجهشت بالبكاء وتراجعت إلى الخلف وتختفي وراء الباب ، في حين وقفت أخواتها مطرقات في صمت ، ثم أقبلن يلثمن يد أبيهن الواحدة تلو الأخرى .
[/align]
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس