22 / 08 / 2010, 05 : 04 PM
|
رقم المشاركة : [26]
|
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
|
رد: الدار اللي هناك -2-
(5) [align=justify]
تركت الرجل يستريح من وعثاء السفر وخرجت لأنحدر إلى الوادي . وجدت شبها كبيرا بين المكان و ذاك الذي قضينا فيه أياما في ضيافة صديق أبي يوم رحلنا عن القرية . نفس الصمت و نفس الهدوء كانا يلفان الوادي الموحش كما كان الشأن في الماضي و أنا أتطلع إلى قمة الجبل حيث قبر عمي الفاضل . يا للمصادفة .. حتى مضيفي الآن يحمل نفس الإسم .. هل يعني هذا أن شيئا ما سيحدث ، وأن إرهاصات مغامرة أخرى تلوح في الأفق ؟ لحد الآن ، لا شيء ينم على شيء من هذا القبيل . لكني في قرارة نفسي أحس بلهفة لاستكشاف جديد . بل يخالجني شعور أن دوامة من الغموض تحوم حولي و تدفعني للمجهول مرة ثانية . عندئذ انتابني خوف حقيقي من أن أضيع في متاهة قد لا أعود منها إلى أهلي . فعدت أدراجي مسرعا و صرت أستدني الصباح كي أغادر البلدة بأسرع وقت ممكن . وكم كنت أخشى أن يحدث ما يؤخر العم الفاضل أو يثنيه عن العودة إلى المجرى . وصرت ونحن جالسون حول المائدة أسأله عن أشياء لا أهمية لها ، وكأنه أدرك بحدسه توجسي فطمأنني قائلا :
- غدا إن شاء الله سنعود إلى هناك . لقد أرسلت في طلب البغال ، وإن كانت الأسرة هنا تتمنى لو طالت إقامتك .
- أنا أيضا استأنست بأولادك .. لكني ..
- حتى أخوك ، لمست منه لهفة لرؤيتك .
نظرت إليه فوجدته يحدق في .. أحسست بانقباض مفاجئ و سألته :
- هل هو بخير عمي ؟
- نعم ..
- لقد تركته مريضا .. هل عاوده المغص ؟
- قليلا .
كانت أجوبة الرجل المقتضبة تزيد من شكوكي وقلقي . ترى هل اشتد المرض على أخي من جديد وعادت به جدتي إلى طنجة ؟ آه كم اشتد شوقي إليه في تلك اللحظة ووددت لو أطير إليه لأحتضنه مع الصغيرتين .
بدا لي الليل سرمديا وانتابتني أحلام و كوابيس، لكني لن أنسى رؤية أخي وهو يناديني من أعلى الجبل وقد عاوده الشحوب . كان كمن يطلب نجدة . أسرعت إليه ، لكني كنت كلما دنوت منه ابتعد عني وتلاشى في ضباب كثيف بحيث لم يكن يبدو منه سوى وجهه النحيف الذي ازداد شحوبا .. وتكرر نداؤه و أنا اجري متوسلا إليه أن يتوقف حتى لمحته على شفا جرف سحيق فلم أملك أن صحت بكل ما أوتيت من قوة . وأفقت من حلمي لأجد نفسي جالسا على حافة السرير انتفض و قد تصبب جسدي عرقا . وفي الحال أقبل عمي الفاضل و بجواره زوجته وابنه البكر .. لا شك أن صيحتي بلغت أسماع من في الدار . يا لخجلي .
- مالك يا بني و ما الذي حدث .
لم استطع مغالبة دموعي هذه المرة فانفجرت باكيا و حدثته بين شهقة و أخرى عما رأيته في حلمي فربت على كتفي قائلا :
- لا تخف يا ابني .. هي أضغاث أحلام .. سيكون أخوك بخير غن شاء الله .
في تلك اللحظة انتبهت إلى الأفق موردا . لم اصدق أن الصبح قد بزغ ، فنهضت وقد عاد إلي بعض الهدوء و اعتذرت للرجل عما سببته من إزعاج فقال وهو يطلق ضحكة مزقت سكون ذاك الصباح الجميل :
- سأقبل عذرك بشرط .. وهو أن تمدد إقامتك معنا هنا .. اتفقنا ؟
ثم ربت من جديد على كتفي وقال :
- ليس هناك إزعاج .. بالعكس ، أنت أيقظت بعض الكسالى الذين يستعذبون النوم بدل النهوض للصلاة .. والآن هيا لنفطر.
عند الباب ، كان هناك بغلان في انتظارنا وقد ربطا إلى شجرة تين تفرعت أغصانها حتى غطت جزء من المنزل . تحلق حولنا جميع أولاد الفاضل باستثناء فاطمة التي لاح لي منديلها المخطط بالأحمر و الأبيض في الجهة الأخرى من البيت . ألقيت التحية على الجميع ، و فيما انشغل أهل الدار بتقبيل يد رب الدار ، و إعانته على إعداد سرجي البغلين ، تقدمت نحو فاطمة التي انزوت أكثر فأكثر وراء شجرة التين ، فناديتها :
- وداعا يا فاطمة .
عندئذ انبرت وهي تتعثر بخطواتها ، ومدت إلي بباقة من سنابل القمح على شكل ضفيرة وقالت بلهجتها الفظة المعتادة :
- هي لك .. سامحني .
أخذت الباقة وقلت مبتسما :
- أنا الذي جئت أطلب منك أن تسامحيني .. شكرا على هديتك الجميلة . لا بد أن تزورينا مع والدك في المرة القادمة .
- إن شاء الله .
وعدت أدراجي لأجد الفاضل يصدر آخر تعليماته لزوجته و بناته في حين وقف الطالب علي جانبا وهو يهمس دائما بآيات القرآن الكريم . عانقته بود و رجوته وأنا أنظر ناحية فاطمة ، أن يصحب معه أحد إخوته في رحلته القادمة إلى المجرى .
امتطيت أحد البغلين بمساعدة عمي الفاضل ، وجلست كما يجلس الفارس على جواده ، مما أثار ضحك الجميع . فنبهني الرجل إلى أن طريقة امتطاء البغال مختلفة عن تلك المتبعة مع الخيول ، بحيث جعل ساقي الاثنتين في جهة واحدة . وقبل أن ننطلق أشرت بيدي إلى الأسرة أحييها وهي على عتبة الباب ، وحانت مني التفاتة إلى الشجرة حيث بدا لي المنديل المخطط بالأحمر و الأبيض .. ووجدت نفسي أتمتم :
- على الأقل ، هذه تتصرف بتلقائية .. وليست كغيرها ممن تسبب الأذى لسواها .
يجدر بي القول ، وأنا أغادر "تزخت" ، ورغم لهفتي للقاء أسرتي ، وسعادتي بتواجدي الوشيك بين أحضان قريتي من جديد ، أحسست بألفة غريبة تجاه بلدة الطالب علي . حتى و أنا أنحدر إلى الوادي أو أصعد الجبل ممتطيا البغل الأشهب ، كنت ألتفت بين الفينة و الأخرى لأتملى بمنظر البيوت التي بدت منغرسة في خضرة يانعة بهيجة . وشملني شعور بالمودة الطاغية تجاه الطالب علي و إخوته و خصوصا فاطمة .. نعم ، أحسست أني كنت قاسيا معها وتمنيت لو تزورنا حقا كما طلبت منها لأعوضها عما نالها مني من إساءة و أبرهن لها عن مودتي نحوها مثلها مثل جميع إخوتي . ولا أدري ما الذي جعلني أتذكر فجأة أخي و مرضه وينقطع حبل أفكاري لأسال عمي الفاضل دون وعي :
- متى رأيت أخي لآخر مرة عمي ؟
لم يجب الرجل للوهلة الأولى ، ومرت لحظات قبل أن يجيب و هو يشد لجام البغل كي نأخذ وجهة أخرى :
- عندما كنت أستعد للمجيء .. لم هذا السؤال يا بني ؟
- فقط ، أريد أن أطمئن عليه .
- يبدو أنك تحبه كثيرا .
لم أرد . وغلبتني الدموع . وانتبه هو إلى ذلك فلم يعقب . واستمرت رحلة العودة و نحن صامتان حتى وصلنا إلى قمة الجبل من حيث تلوح المجرى بعيدا بمنازلها البيضاء الناصعة . هناك بزغ أول شعاع للشمس عن يسارنا . أما سفوح الجبال ، فقد كانت سابحة في ضباب الصباح الكثيف . كان المنظر بهيا وشعرت بشهية للأكل من جديد . جلسنا نستريح قليلا بالقرب من ساقية صغيرة تروي بعض حقول الذرة هناك . ويبدو أن الفاضل أيضا شعر بالجوع فأخرج من قب جلبابه خبزا و تينا جافا .. كم كان لذيذا . وفي تلك اللحظة أقبل علينا أحد البدويين متوجها إلى بلدة مجاورة لـ"تزخت" . حيانا وهو ينزل من على ظهر بغله ، ثم جذب نحوه عمي الفاضل غير بعيد مني ليتبادل معه الحديث . لم أكترث لذلك ، لكني سمعته يسأله :
- هل هذا هو ابن القبطان ؟
أرهفت السمع ، فلم أميز شيئا مما يقولان ، لكني كنت متأكدا من أنني محور حديثهما لأنهما كانا يلتفتان نحوي بين الفينة و الأخرى .. عماذا يتحدثان يا ترى ؟ ولم كل هذه السرية المحيطة بحوارهما ؟
[/align]
|
|
|
|