التشكيلي أحمد إبراهيم
فنان الحدود اللامنتهية لفردوس الجمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتحي صالح
E.Mail : fathi-saleh@maktoob.com
من الحدود اللامنتهية لفردوس العالم الفني ، يطل إلينا بروائعه التي تشكل حلقة من حلقات التشكيل السوري .. هو فنان يداعب بريشته حركة الهواء ، فيبدع بعده المنظوري الإيهامي الذي يتفرد فيه ، لينقلنا بسلاسة إلى عوالم جمالية نقف حيالها بإعجاب .. هذه حال الفنان الذي يسكنه الفكر الهاجسي ، يدأب بشغف لبناء اللحظات المتعاقبة على شاكلة هيئات تجسيدية يتمثلها اللون بإيقاعات رفيعة مختلفة تسكنها المشاعر الإنسانية الدافئة و الدافقة ...
هو الفنان التشكيلي أحمد إبراهيم ، المولود في مدينة القنيطرة عام 1950 ، أنهى دراساته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في لينينغراد ، أقام العديد من المعارض الفردية و الجماعية داخل القطر و خارجه ، و نال العديد من الجوائز و شهادات التقدير ..
في تجربته فواصل متحركة تعكس تطورات الخط الإبداعي الذي يسير فيه ، و توضح ملامح سيرته الإبداعية ، فالواقعية التصويرية قدمها باستثناء بأكاديمية احترافية في ظاهرها ، إلا أنها تخفي في داخلها حركات الطبيعة و تقلباتها التي يستشعرها المرء من خلال إحساسه بشدة الجذب و الإمتاع الجمالي .. و هي في نفس الوقت ، تحمل صياغة خاصة لكيمياء اللون ، حيث تتعدل خواصه بصورة شفيفة يظهر معها البعد الثالث ( المنظور ) و كأنه حالة تجسيدية مجسمة تبتعد عن التكوين النحتي الذي نشهده عند البعض ، و تقترب من تجسيد مثالي يظهر إحساس التموضع داخل الفردوس التخيلي لعالم الفنان الجمالي .. و هذا يفضي إلى تجسيد البعد الرابع ( الزمن ) بهيئة حركية نستشعرها من خلال تذبذب جزيئات الهواء في المحيط المجاور لعناصر الطبيعة التي تبدو نضرة و طازجة ...
الواقعية لديه ليست مجرد تصوير حرفي ، و نقل لأدق التفاصيل، لكنها تخفي وراء ذلك قدرات فنية إبداعية تستطيع إيجاد معادلاتها الخاصة بالبنى التركيبية لمجمل العناصر المحملة ، و هي رسالة لونية ذات مضمون فلسفي قائم على إحياء قوالبه التشكيلية في لغة بصرية غنية ، فاتنة ، مندمجة في الرؤى التأثيرية لحركة الطبيعة .. و هي بذلك ضرب من التمثل اللوني لأحاسيس و مشاعر إنسانية متقلبة ، منعكسة في بيئتها الطبيعية التي تسحر و تجذب ، ثم تأخذ إلى حالة التماهي الروحي في مجريات الحدث الفني ..
ثم ينقلنا إلى أجوائه التأثيرية ( الانطباعية ) بمجموعة من الأعمال التي تحمل في طياتها قيماً فنية عالية ، سواء في الأسلوب و التقنية و قوة الأداء في توظيف الأدوات ، أو في المشهد البصري العام لتلك الأعمال التي هي ليست مجرد نقلة فنية أراد لها أن تأخذ بعداً جديداُ في تجربته فحسب ، بل هي حاجة التغيير الذي يفضي إلى إضاءة جوانب إبداعية كامنة ، تلح و بشدة لتظهر ، تاركة هامشاً للتحرر قليلاً من ضوابط الواقعي .. و بهذا الاتجاه يمكنه إدارة العمل الفني من الوجهة اللونية بأسلوب يعكس أثر اللحظة الزمنية في المشهد ، لتتكون علاقات لونية جديدة قائمة على متممات و مكملات اللون .. و من أبرز ما قدمه الفنان أحمد إبراهيم في هذه الصياغة ، احترامه للقيم الوجدانية التي تظهر من خلال وقار اللون و هيبته ، و كذلك من خلال تألق بنية العمل الفنية ، الناتجة عن حس إبداعي يستشعر اللحظة و يجسدها بشيء مختلف من التصور الخاص الذي يأتي دائماً بلغة تركيب متكامل ..
إنه يحدث دائماً أثراً يجعل لعمله نكهة مختلفة ، محببة وجاذبة ، تدعم الرغبة البصرية في الولوج إلى الجمالي بأشكاله المختلفة ، و أنماطه التي تمتع و تسر .. لهذا يقدم أنموذجاً آخر في تجربته الفنية ، نابعاً من الرغبة الدائمة في خوض مجاهل أخرى لاستكشاف الجوانب المحفزة على الإبداع ، و إظهار الطاقة الكامنة ، حيث قوة الخط الذي يتميز بالمرونة و الرشاقة ، و الحركة ذات التأثير ، و اللون شديد الاتجاه التعبيري ، مسائل لا بد من الخوض في غمارها ، لكن شريطة إيجاد معادل فني شخصي يترك أثراً ، وهذا الأثر يتضح في الجماليات التي يقدمها بشكل مختلف ، وفق رؤى باحثة فيما هو استثنائي ، ليشكل نسيجه الفني عالي الفكرية ، فيضفي عليه صبغة حية خالدة .. و التعبيرية التي يقدمها ناتجة عن اصطفاء لمخزونه الفني الثر ، من أجل الوصول إلى صفاء روحي ، يذهب عن النفس ، و يحرك المشاعر .. و هذا يشكل جزءاً من الإمكانيات التي يمتلكها و يحاول صياغتها في اتجاهات مغايرة ، و هنا تتشابك اللحظة الزمنية في أجزاء العمل الفني ، مفرزة نمطاً يتكئ على نسيج ذي صيغة خاصة ، لها دلالاتها التي تكتسبها من ذلك العمق الذي يدخل فيه نتيجة الإحساس المرهف بجماليات الأفكار التي تتداعى ، محدثة فصلاً جديداً في تجربته الغنية .
و في مجمل ما قدمه الفنان أحمد إبراهيم ، نجده دائماً يحافظ على حرفية عالية ، ممتزجة بإبداعية خاصة في استخدام التكنيك الفني ، انطلاقاً من اللون الذي يطبخه بأحاسيسه المرهفة فيأتي مبنياً بجزالة ، كأنه يتعقب اللحظات المتتابعة ، و المتلاحقة في حركة الضوء ، و حركة الطبيعة ، ليفرض صياغة جمالية خلاقة يضعها في قوالب الإبداع الإنساني ، بعدما خرجت من قوالبها الطبيعية ذات القوانين و القواعد و النظم .. و هذا يقود إلى تجسيد فاعل للزمان و المكان ، اللذين يقدمهما بهيئة يتوازن فيها الحس الانفعالي ، فيخرج من حالة الانفعال إلى حالة الفعل و التأثير .. و لديه تشاد البنى الخطية على نسيج عال متماسك البنيان ، يجمع بين القوة و اللين في فرادة و حسن أداء ، و يشكل الخط حاضناً للجانب التشريحي في العمل ، ضمن بعد خاص يتكئ على رؤى تستثمر ما هو استثنائي لصالح العملية الإبداعية ..
إن تجربة الفنان أحمد إبراهيم الممتدة عبر عقود ، أثبتت حضوراً نوعياً لأنها تجربة مبنية على فلسفة فنية واعية ، مدركة لمقومات العمل الابتكارية ، و مستندة إلى ثقافة فكرية استبصارية ، و هي تقدم نموذجاً لآلية إبداع عملي ، متفرد .. لقد أمتعنا بإيقاعاته البصرية ذات القوالب اللحنية الدافئة ، و القائمة على مشاعر وجدانية ، و قيم روحانية متألقة ، إنها تتدفق برفق وانسيابية ، حاملة الرفعة و السمو و الجلال الذي نقف أمامه و نحن نعيش في عوالمه السحرية ، التي جاءتنا من شخصية فنية استثنائية لها بصمتها في عالم التشكيل ...