رائد النحت الفطري الفلسطيني - عبد الحي مسلم
صائغ البناءات الحركية التلقائية
فتحي صالح
تجربته استثنائية ، متفردة ، تقوم على العفوية و الصدق بعيداً عن الدراسة الأكاديمية و أصولها ، نمت من خلال موهبة خلاّقة اكتشفت أدواتها الفنية ، و ابتكرت أساليبها الإبداعية ، فكانت البداية في العام 1971 لهواً بما توافر لديه من الخشب ليسد به فراغاً موحشاً كان يعانيه و هو بن الثامنة و الثلاثين من عمره يخدم في سلاح الجو الليبي معاراً من منظمة التحرير الفلسطينية ... كان يصنع بناءات تكوينية بشرية مفردة قائمة على الحركية البسيطة ، و التعبيرية ذات الدلالات الموجبة و المعبرة عن الظروف التي يعايشها. كان يملأ الثقوب و الفراغات بين الخشب بعجينة يصنعها من نشارة الخشب و الغراء ، ثم يعالج بها سطح العمل ليجعله أملساً ، و بعدها يلونه بالألوان المناسبة ... متعة العمل و الرغبة ، ثم السعي في تطوير الأدوات ، قادته إلى صياغة عمله كاملاً بهذه العجينة ، فأصبح أكثر قدرة على التعبير و على ما يدور في ذهنه من أفكار و هواجس ، واستطاع أن يفجر إمكانياته الهائلة في بناء أعمال فنية بدت أكثر نضجاً و وعياً ، و أميز تعبيراً و بنائية ، حيث أصبح يصوغ في العمل الواحد عدة عناصر ، و انتقلت تكويناته إلى مرحلة التركيب والاندماج ، و صارت ألوانه أكثر غنى و تشبعاًَ ، و أشد توصيفاً للحالة البنيوية ...
الفنان عبد الحي مسلم لا يحتاج كثيراًَ للتفكير في مواضيعه لأنه يمتلك مخزوناً خصباً ، حاضراً في كل الأوقات يستخرج منه بصورة تلقائية رؤاه الفنية ، الغنية بعناصرها الثرة المتراكبة في تشكيلات مصاغة جمالياً بإحساس مرهف يؤكد فيه على ما هو تراثي من خلال استخدام الرموز و الأشكال المصاغة من الأساطير و الحكايا الشعبية بأسلوب يثير الخيال ، فهو يغتنم اللحظات الساكنة حين يرخي جفنيه قليلاً ، و تبدأ حركة دؤوبة تعتمل في ذهنه لتكشف عن صور تفاعلية تتراقص ... فالشاعر الذي ينشد على ربابته تشنف له الآذان ، في حين يتداور المتسامرون فنجان القهوة العربية مستمتعين بأحاديث السمر المنعقد في الديوان الكبير ، و حين تُزف العروس تعتلي هودجها في موكب حاشد من النسوة اللواتي يرتدين الأزياء الشعبية ، و والد العروس يطلق من مسدسه في الهواء ، و والدتها " تزلغط " فرحاً و ابتهاجاً ، جلسات الصبايا و هن يتزين و يتعطرن ، ثم يغنين و يرقصن في ليلة الحناء ...
إن الرؤية الفوتوغرافية ( الواقعية التسجيلية ) المختزنة في ذهنه تطلبت منه تسجيل أدق التفاصيل في المشاهدات الحياتية ، لذلك تزدحم العناصر و تتركب بتلقائية فنية مدهشة ، و لعل ذلك يبرز الإيقاعية الحركية في ديمومتها ، حيث تتشكل حركة حلزونية تنتهي بحدود اللوحة و تستمر في الفراغ المجاور بالانطباع البصري المحرك للصيغ التخيلية التي ينتجها الفكر متأثراً بالإحساس العفوي لتلك الإيقاعات الحركية القائمة على النافر و هو يجسد الخلق الفني الرفيع ...
عبد الحي مسلم في تجربته يمتطي أمواج الحكايا و الأقاصيص ، و يبحر باتجاه زمن آت يجسد آفاقه بفنيات عالية تصنعها أنامله الساحرة مما يرصده من تفاصيل حياتية متوارثة و مكتسبة ، و من أحداث يعاصرها ... و من سيالات الحنين و الاشتياق ، لذلك الجميل الذي مضى ، و الذي يتسرب شيء منه ليصبح واقعاً ماثلاً في مجسمات ملونة رزينة تغالب الحنين و تنتصر له و عليه ، فتتفجر أغنيات و حكايا على شكل إيقاعات لونية تحكمها المشاعر النبيلة ...
استكشاف مغامر يشبه حلماً ساحرياً ، يبشر بنبوءة ميلاد جديد لعالم تستوي فيه حيوات الكائنات الممددة فوق أسطحه الخشبية ، فتنتصر لإراداتها على الضعف و السكون القابع في أجسادها و هي بذلك تحاول إعادة التوازن في ذواتها الباحثة عن الاستقرار ، فتتجسد حالة الإنسان بأعلى درجاتها و يصاغ جسده بقوة تعبيرية وفق نسب يجدها و يبتكر قوانينها و نظمها لتحاكي القالب العام في عمله التشكيلي ، هي قدرة لديه يجسد فيها ذلك العمق الإنساني بألق و تميز ، و يمثله بعمق ألوانه و شدة حساسيتها تجاه المؤثرات و المتغيرات ..
على أنه لا يتقيد بالمنظور الخطي ، و إنما يخلق منظوراً يتوافق مع رؤاه و وعيه الثقافي و النضالي ، فتتشكل مخلوقاته منظورياً وفق دورها الوظيفي و الانفعالي ، و حساسيتها تجاه الفكر المتجسد في العمل ، مما يبعث فيه دفئاً من نوع رخيم ، يدغدغ الأحاسيس ، و يثير في النفس مشاعر جياشة ، و كل جزء من العمل هو تفصيل هام يخدم الفكرة التي هي توثيق ، إبراز عطاءات شعب ، دعم حركات تحرر ، مقاومة و رفض احتلال ، و اهتمام بالتراث و الجانب الإنساني ...
و لتقوية التعبير ، و الدخول في الحالة الفنية بجوانبها المختلفة المتعلقة برفع مشاعرية الحالة الدرامية و المونولوج الداخلي للطرح ، فإنه يقوم بتلوين أعماله النحتية بحس تصويري ، و بألوان واضحة و مباشرة يدخل فيها الحس التزييني و الذوق المنمنم ، و في حين استخدم لوناً وحيداً عتق به بعض الأعمال فظهرت كأنها خامات معدنية بأحاسيس خاصة ، فقد حافظ في بعض آخر نفذه في مراحل لاحقة بتقنية الجص بذات الروح على الإحساس بهذه المادة بأن لونها بأساس شفاف ،على أن دقة الملاحظة جعلته يرى التفاصيل الدقيقة و يهتم بها ، بكل ما فيها من مؤثرات بصرية ، لذلك يستخدم الألوان المشبعة الغنية التي تبدو طازجة في كل حين ..
و هو كذلك يدخل الكتابة بحس تصويري بسيط لتصبح جزءاً من كينونة العمل التشكيلي ، و حاملاً أساسياً للهموم الإنسانية الكامنة في الأغنية من حزن ، و عشق ، و تحريض ، و ندب ... و كحالة توصيف للحدث المعبر عنه ضمن العمل .. و قد تشكل الكتابة بالإضافة إلى دورها التفعيلي كحالة تزيينية متتمة للجماليات اللونية في العناصر و الرموز ، مفصلاً مفتاحياً لقراءة العمل و الولوج في أجوائه التعبيرية ، و محرضاً على إدراج تصورات روحانية في مساحة الذهن المتعبة لإراحة النفس و هدهدتها ، و دفعها نحو أفق وجداني رحب ( إن مت يا زين ، كفّني بورق ريحان ) ....
تجربته عملية بحث عن الخلاق و المدهش في مكنونات العناصر ، و إيقاعات اللون الجاذبة بصرياً ، و ظفت توظيفاً فنياً و حسياً من أجل خلق جمالي استثنائي مدهش و متطور ، قادر على الولوج في عمليات النفس المعقدة ، و سبر أحاسيسها و مشاعرها ، و استشفاف الحقيقي الناجع و المؤثر في الصراعات الداخلية الناتجة عن التراكم في تناقضات الحياة و أعبائها ، و الترسبات الخانقة لكل التفاصيل المتراكبة خلال عملية القسر الذهني للتعايش مع ما يفرزه و ينتجه الواقع المعاش ... و هي كذلك تعكس قدرته على التعامل مع الخامات الأولية لتخرج في النهاية بصورة ساحرة ، فيها تتفرغ الشحنات الإنسانية بما تحتويه من مشاعر متداخلة ، محملة بهواجس تراكمت عبر سنين ، لتخرج هكذا من المجهول إلى الوعي بترتيلات تبهر و تدهش ، لأنها تمثل مهمته التي استوعبها في خلق الفعل الديمومي الذي يحتل مساحات زمنية واسعة تمتد إلى اللامتناهي في عالم الإبداع الذي يترك أثراً خالداً ...