رد: قصيدة النثر لا تريد إلغاء ما قبلها إنما تريد أن تبصر النور
الأستاذ عبد الكريم سمعون تحية وبعد : أغلبنا أول ما فتح عينيه على الشعر فتحهما على الشعر الكلاسيكي العمودي ، فقرأه وعشقه وتمايل على موسيقاه المغردة تغريد العصافير على شرفات أول النهار.
وكلنا استفاد من تلك المدرسة الكلاسيكية ، هذه القلعة الشامخة إبداعا وطربا، هذه القلعة التي بناها شعراء فحول ونوابغ أوَلٌ مبدعون، لم ولن يجود الزمان بمثلهم قط .هذه القلعة التي وقف حراسا لها ( امرؤ القيس وعنترة وعمرو بن كلثوم والمتنبي وأبو العتاهية وأبو فراس الحمداني ....)
وهؤلاء عندما نذكرهم يجب أن نذكرهم بإجلال ، وأن نحفظ مدرستهم الخالدة من أيّ فعل أو قول يهدف للتقليل من قدرها أو للحط من شأنها،لا أن يتشدّق البعض ويقول عنهم أنهم مدرسة قديمة قد عفى عليها العصر الحديث وآن لها أن تتقاعد . بل هي ـ والله ـ جوهر قديم نفيس يتيم ، والجوهر كلما عتق يزداد ألقاً ويرتفع ثمنه حتى يصبح عصي على الميزان، فمن أولئك الأوَل تعلمنا كيف نصيغ الكلمة شعرا ، ومن حكمهم التي ساقوها في أشعارهم استفدنا، ومن بضاعتهم تزوّدنا. ويكفي تلك المدرسة فخرا أنها ساهمت في الحفاظ على لغة القرآن الكريم ـ اللغة العربية ـ من الاندثار والتقوقع والتطبيع.
أما الشعر الحديث (وأقصد هنا شعر التفعيلة خاصة) ـ وهذا رأيي ـ
فإنه قد جاء تلبيةً للتطور والحداثة التي غزت كل مناحي الحياة بلا استثناء ،وقد كان التأثير الناجم عن ذاك التطور متبادل ؛ فقد أثر فينا أثرنا فيه وكان من الطبيعي أن تصل هذه الموجة من التغييرات والتطورات إلى اللغة ثمّ الشعر . وظهر شعر التفعيلة كنتيجة لهذه الحداثة ، وقد قوبل بشيء من الاستهجان لدى البعض ، وبكثير من الرفض الصريح والمبطّن لدى البعض الآخر. وذلك لما فيه من خروج فاضح على قواعد واصول الشعر ..لن أقول القديم بل الأصيل ، ولما فيه من انفلات صارخ من أوزانه المقرّرة المعروفة، ومن قواعده المرصوفة رصفاً متيناً . وأنا شخصياً كنت من المحاربين الأشاوس له، ومن الرّافضين المعاندين والمتعصبين لهذا النوع من الشعر، فقد كان أوّل ما تفتّحت عليه عيناي من الشعر هو شعر المتنبي، وأوّل ما كتبت من الشعر هو الشعر الكلاسيكي الأصيل. وأنا لا أخفي ما في الشعر العمودي من قيود قد تكبل الشاعر أحيانا، وتلجمه عن سكب ما في نفسه من ينابيع تريد تنبجس، ومن صرخات تتصارع؛ تطمح أن تصل عنان السماء لتعلن عن ذاتها الثائرة ، هذا حق ويجب أن يقال .
لكن ما لبثت أن تبدّدت عن أعيننا تلك السحائب التي شوّشت على رؤيتنا ، وأعمتنا عن رؤية ما في هذا النوع من الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) من جماليات وبلاغات وبديعيات قد يعجز الشعراء الكلاسيكيون الحاليون عن الاتيان بمثلها أو توظيفها في شعرهم .
لقد أثبت الشعر التفعيلي نفسه بجدارة ، واستطاع بحنكته وجمال صوره البيانية والبلاغية واستعاراته المتخيّلة الرائعة أن يفرض ذاته بقوّة على الساحة الشعرية ، كما استطاع أن يستوعب أشكالا عديدة من التحديثات اللغوية، ويوظفها توظيفا جمالياً وبيانياً يسبي الأنظار، وتمكن بريشته السحرية من أن يرسم أحلى اللوحات بأجمل تناسق ألوان ممكن. وبعض من هذه اللوحات هي الآن خالدة؛ والأخرى سيخلدها الزمن القادم .
إني قد أسهبتُ قليلا في الحديث عن الشعر الكلاسيكي والتفعيلة ؛ رغم أن موضوعك الرئيس عن قصيدة النثر. كان غرضي من هذا أن أثبت عكس ما قلت تماما حول قصيدة التفعيلة بالنسبة لقصيدة النثر.
فقصيدة النثر ـ ولا أدري من أطلق عليها مسمّى (القصيدة) مع أن القصيدة بناءٌ قواعدُه الأوزان ، وإن حصل خروج على الوزن في قصيدة التفعيلة ـ
أما القصيدة النثرية { تجاوزاً} فليس لها من وزن ، فكيف نطلق عليها اسم القصيدة . ومن أراد أن يعبّر عمّا يجيش في خلده من مشاعر شفافة وخواطر رقيقة، أو أرد أن يسكب ما في جوف قلمه من جماليات خلاّقة وصور مبدعة فسبيله الى ذلك هو الشعر أو النثر ، لا أن نسكب ما نريد في قالب نثري ثمّ نحسِبه على الشعر.
ويكفينا ما في هذه التسمية ( قصيدة النثر ) من ادعاء صارخ ، وتكلّف ظاهر ، فالقصيدة شيء والنثر شيء مستقل تماماً . كما أني لا أفهم ذاك الذي يطلق على نفسه لقب ( شاعر نثر ) وما ذلك إلا ليقحم نفسه في عداد الشعراء، وكأنّ النثر خالٍ من كلّ إبداع ممكن؛ لا...فثمة من يحترف صناعة النثر احترافا يأخذ الألباب، حتى إنّه ليبزببصناعته تلك فحول الشعراء، وهنالك أمثلة عن أدباء قد أفحموا بنثرهم الشعراء ولا مجال لذكرها الآن لعدم الإطالة.
وإلى الآن قصيدة النثر لم تستطع أن تثبت وجودها ولا إمكانياتها ولا حتى مناصريها، فمثلها مثل كثير من الثورات التجديدية في مناحي العلوم ، فمنها ما بقي وثبُتَ واستمرّ ، ومنها ما بقي مع بعض الاهتزازات التي تهدّد كيانه، ومنها ما زال واندثر كأنه لم يكن. وإن كنت تطلب مثالا على ذلك فدونك هو: فهذه نظرية ( داروين ) في التطوّر والتي تكلمت عن مرور الإنسان في مراحل تطوّريّة إلى وصل الى حالته الرّاهنة من الكمال. فجاء العلم بعد داروين ودحض بشكل واضح وقويّ كل مزاعم هذه النظريّة وقوّض بشكل علميّ مدروس وممنهج كلّ دعائمها. أريد أن أخلص من هذه المقارنة ــ التي تبدو لك أنها مقارنة ظالمة ــ أنّ قصيدة النثر هي شكل تطوّري وحديث أفرزتها التيارات الحديثة ، إلاّ أن ليس كلّ جديد يأتي هو نافع ، ولا كلّ تطوّر يطرأ هو مقبول. وقصيدة النثر يجب أن تعترف بعجزها وتكفّ عن الصّراخ وترتدع عن الادّعاء بما ليست هي أهله .
ختاماً أقول : الاختلاف لا يفسدُ للودّ قضية ، وكلّ العلوم المتقدّمة قامت على الاختلاف ؛ لكنه الاختلاف البنّاء الذي يحفظ كرامتي وكرامتك وكرامة الغير.
لك تقديري واحترامي أخي... عبد الكريم سمعون
ــ أخوك .. محمد حليمه
|