قصة { .. بَـوّابـة ُالسّماء.. } ... بقلم محمد حليمة
بـَـوّابـَةُ الـسَّـمـَـاء
قبل خلوده الى النوم،راح ملهم يقلب الرزنامة،كان التاريخ29 /12 / 2010
غمغم قائلا : وأخيرا انتهى هذا الشهر اللعين ، غدا سيكون الحدّ الفاصل في حياتي....
وضع رأسه على وسادته الوثيرة ، مدّ رجليه ، وفرّدَ ذراعيه ، يخاله الناظر أنه قادم من سفر بعيد شاق ، لكنه ليس كذلك ، سمّر بصره في السقف ،وفكر ( غدا هو اليوم الموعود .. يوم غد سيوضح لي معالم مستقبلي، إني أدعوك يالله أن تخفف عني الأسئلة ، وتلهمني الصواب في الإجابة عليها )
ثم سلّم نفسه للنعاس وغطّ في نوم عميق .
فُـُضَّتْ عـذرةُ الصباح ، ولمعت الشمس في أجنحة الطير ، أفاق ملهم على صوت أمه وهي تُخرج له الطقم الجديد من الخزانة، الخاص بفحص المقابلة اليوم.(( انهض يا بني.. ستتأخر ..)) نظر الى الساعة وإذ بها تقارب السابعة صباحا . تناول الفطور الذي كانت أمه قد أعدته له مسبقا ، ثم تجهز لابسا أجمل ما لديه من الثياب، وعندما همّ بالخروج ، حانت منه التفاتة الى الوراء، نظر إلى عيني أمه اللتين كانتا تترقرق فيهما العبرات ، فهم هذه النظرات التي تتشبث به وتتوسل إليه، ( ترى... هل يكون اليوم آخر يوم لك معي يا بني .. هل يعقل أن يكون هذا الفطور هو فطور ما قبل الأخير الذي أعده لك بيدي.. يا أعز ما لمست يداي ) رأى نظرات أمه تتخبط بين شيئين ، كمن يريد أن يهرب من النار الى حممها ، وكأنها تدعو: ( لا يريد قلبي أن تسافر..يا بني ، كما لا يريد عقلي أيضا أن تفقد حلم حياتك في السفر ونيل الشهادة العليا التي طالما حلمت بها )
تقدم نحو أمه بخطا خجولة متردّدة ، لكنها واثقة تعرف ما هي مقدمة عليه ، لثمَ رأس أمه من جبينها ...( مهما يكن يا أمي ؛ سأحاول ألا تطول فترة غيابي.. ولا بدّ مما ليس منه بدّ )
ــ بني ... الْـتـَفـَـتَ . ( سامحني إنْ حرمتكَ ممّا تُحِبّ.. )
ـ خرج وهو يطوي الأرض فرحاً، لحضور المقابلة التي تشكل له جسراً سيعبر عبره الى فرنسا لإكمال دراسته في القانون . وصل الجامعة ( مقر المقابلة ) ، بدأت دقات قلبه تتسارع ، وكلما اقترب من مبنى كلية الحقوق ـ حيث إجراء المقابلة ـ زادت ضربات قلبه أكثر فأكثر رغم كونه من الطلبة الأوائل .
ولكنه الآن يحسُّ أن قلبه سينخلع من مكانه ، لمَا .... إنه يرى أمامه أجمل مخلوقة رآها ، إنها الحمامة البيضاء التي قضى معها ـ في عش كلية الحقوق ـ أحلى سنين عمره على الإطلاق . خيّم على المكان صمت رهيب ، وكل منهما ينتظر من الآخر أن يقطع هذا الصمت؛ بكلمة تهدّأ لواعج القلب ، أو بصرخة ـ تهزّ السماء التي حكمت على هذا الحب اليتيم المتجذر في قلبيهما رسوخ الجبال ـ بالموت الظالم ، لكن السماء ـ يبدو ـ أنها ملت ضعفهما، فأرسلت رعدة مجلجلة نبهت كليهما ، ثمّ أتبعت الرّعدة مطرا غزيراً .. وكأنها تريد منهما أن يغسلا قلبيهما من العتاب والكلام الذي كاد أن يصدأ على لسان كل منهما .
تقدمت نحوه يزين صدرها الصليب الذهبي ، حمل قدميه حملا وتقدم هو الآخر نحوها ..بادرت هي بالكلام ،بصوتها المبحوح : ( الواضح أنك حسمت كلّ الأمور العالقة في حياتك ... وحياتي ، لذلك قرّرت أن تسافر )
همّ بالتكلم ؛ لكنها وضعت يدها المُمَرَّدة الملساء على ثغره ..( لا تقل شيئا، فقد تكلمنا كثيراً يا ملهم، وتناقضنا كثيراً، وصرخنا كثيراً ، وغضبنا كثيراً ، فأدركنا أن الكلام لم يفيد ..) مسك يدها التي تقطر مطراً ، وقال : نسيت شيئا... وأحببنا بعضنا كثيراً ..
قالت: ( إنه الشيء اليقيني الوحيد الذي أعرفه ، إنها الحقيقة المطلقة التي أومن بها في هذا الكون المليء بالاحتمالات والنسبيّات.. أما بالنسبة لك فأخال أنّ حبّنا صار من الأمور التي تحتمل الشّك..)
ــ ماريّا.. أرجوكِ لا تقسي عليّ أكثر ممّا قسا عليّ الزمن ، أنتِ تعلمين أني خضّتُ من أجلك عراكاتٍ تكاد تصل إلى حدّ الحرب مع أهلي وأقاربي.. مع الكون كله . هنا رجع بذاكرته إلى ما قبل سنتين ـ عندما كان في السنة الثانية ـ وعاد له صوت أمه وهي توبّخه..((أتريد أن تخرج عن دينك ودين أبيك وجدّك، كيف تسيغ لنفسك أن تحبّ فتاة مسيحيّة ..كيف تقبل أن تهين دينك الحنيف بأن تقف أمام الصليب ـ عندما تقف أمامها والصليب على صدرها ـ ما كان عشمي فيك هيك يا ملهم " يا مثقف، يا متعلم.. ـ ربّيتك كل شبر بندر ـ بعد موت أبيك، وسخّرت نفسي وحياتي لخدمتكَ وتعليمكَ لتحصل على أعلى الشهادات ، أفتاتي الآن وتقول بكلّ صفاقةٍ ووقاحةٍ أنّكَ تحبُّ مسيحيّة ، ولا تكتفي.. لتعلوَ بصفاقتك تلك وتطلب مني أن أخطبها لك ، ألم تسمع قول الرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ( يُحشر المرءُ مع مَن أحب.. ) أتريد أن تكون من أهل النار ... ليست غايتي أن أفطّر قلبك يابني.. ولكني لا أريد لها أن تكون بوابتك إلى النار.. افهمني..))
ـ أرسلت السماء رعدة أخرى قويّة نبّهت ملهم إلى حبيبته ماريّا العاكفة أمامه، وقد تحلّبَتْ سحائبُ دمعها الغِرار، والمطر كان قد بلّل شعرها الأسود الفاحم، وهي تنعم النظر فيه علّها تظفر بمحاولة أخيرة؛ فتثني عزمه ، ويحجم عن سفره ...( أنا لا ألومكَ يا ملهم أكثر ممّا ألوم نفسي.. أعلم أنّ حبكَ صادق كصدق حبّي ، وأدرك كم تعرضّت للسبّ والشتم والنبذ من قبل أهلك، وأنّكَ حاولت حتى الرّمق الأخير.. أنا الآن أجهل مَنْ ألوم .. هل ألوم نفسي التي انقادت إليك دون وعي منّي ، وقلبيَ الذي ذوى عودُه مذ رآك ، وبصري الذي تعشّق بتلابيب هواك ، أم ألومكَ إذ ظلمتني بحبّكَ، وكنتَ أنتَ الخصم والحكم لمّا طلبتُ منك الرّفقَ.. خاصمتَ فظلمت، وحكمتَ فما عدلت.. هل ألوم شمسك التي ذوَبت الجليد عن قلبي فأحالته رماداً..أم ألوم أهلك الذين قهروك ومنعوك عنّي، واعتبروا حبّنا خطيئة آدم ، وفاجعة الكون,واعتبروني بوابة لك إلى النار ..) أطرقَ وهو ينظرُ إلى الوقت .. بقي عشر دقائق وبعدها يُقفل الباب، ويُمنع أيُّ متقدم لفحص المقابلة، عندها سيوصد الباب في وجه مستقبله.
ــ يكفيني عذاب.. قد حسمتُ أمري مسبقا .. سأذهب.. ، غمغم بذلك وهو يجرّ أذيال الماضي ويبتعد عن ماريّا التي مازالت عاكفة في مكانها مطرقة الرأس
فقد سلّمت مقاليد أمرها للأقدار ، وهي تعرف مسبقا ألاّ فائدة ممّا قيل أو يُقال.. ثمّ سمعتْ خطا متردّدة تقترب منها.. من خلفها ، حتى صار صاحب هذه الخطا أمامها..
إنه ملهم من جديد .. مسكَ رأسها بكلتا يديه وجذبه إليه جذبة لطيفة ، أحسَّتْ ماريّا وهي تنظر في عينيه عزماً لم تره من قبل... ترى على ماذا قد عزم،
وماذا قرّر أخيراً ، أرهفت سمعها استعداداً لشفتيه اللتين بدأتا بالتحرك..
ــ لستِ كما يدّعون يا ماريّا.. لستِ بوابتي إلى النار.. بل إنّكِ بوابة الله لي..
أنتِ بوابة السماء التي سألجُ عبرها رياضَ الخلد .. مهما حصل سأبقى أحبّك ولن أحبَّ أحداً بعدك ... فمازلتِ فردوسي في الأرض وفي السماء.. الوداع .
أسرع متوجهاً للمقابلة وهو ينظر إلى الوقت الذي لم يبق منه إلاّ خمس دقائق، مسك مقبض الباب.. لكنّه سمع الأرض تهتزّ لسقوط أحد ما.. التفت..وإذ بها ماريّا على الأرض وقد غمر ماء المطر شعرها ، أجفلَ متوجهاً إليها...
عيناها قد جمدتا ، ويدُ الحبيب ( القادم ) ما عادت تشعرُ بنبض قلبها.
ــ ماريّا... أقسم عليكِ ألاّ تتركيني.. قومي فلم أعُـدْ أريدُ السفر ولا الشهادة، ولا الدنيا كلها... يا إلهي هل كنتُ بوابتها إلى الموت... يا إلهي الذي فوق سبع سماوات .......
ليتَها تسمعه للبَّته ، ليتها تنظرُ إليه لتعانقَ أهدابه الذابلة ....
نظرَ إلى مبنى الكلية وقد خرجت اللجنة وباقي المتسابقين ....
ما ألطفَ الأقدارَ عندما تصاحبنا .. وما أقساها عندما تعادينا .
محمد حليمه
ملاحظة :ما جاء على لسان الشخصية ( الأم ) لا يعبّر إلا عنها .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|