كاتب نور أدبي مشرق ومشرف سابق رئيس قسم العيادة الطبية في نور الأدب (انتقل إلى رحمة الله)
سعادة في درب سعادة ( قصة قصيرة من الأدب الساخر )
سعادة في درب سعادة ( قصة قصيرة من الأدب الساخر )
د. ناصر شافعي
أمينة .. الفتاة الطيبة الرقيقة .. اليتيمة .. توفيت أسرتها كاملة تحت أنقاض المنزل القديم .. وأخرجوها حية ، طفلة رضيعة ، توزع إبتساماتها البريئة على أهل الشهامة و النخوة .. إحتضنها صابر .. العامل البسيط في بريد العتبة .. وأخذ يردد وهو يغمرها بكل قبلات الحنان و العطف و الشفقة : " سبحان الله .. و الحمد لله .. و الله أكبر .. إرادة الله .. سبحان الله يوم كامل تحت الأنقاض و بين التراب و الصخور .. لا أكل .. ولا شرب .. لا مية .. سبحان الله .. يموت الجميع و تبقى هى حية " .. يحاول البعض إنتزاعها من بين ذراعيه و صدره .. يصرخ في الجميع : " أمينة دي بنتي .. مفيش غير الموت يفرقني عنها " .. و العجيب و الغريب في الأمر أن الطفلة الرضيعة التي لم تبلغ الستة أشهر .. تعلقت بشدة بصابر .. واحتضنته و منحته رضاها .. و نامت مستسلمة بين ذراعيه ..
نشأت ( أمينة ) في يد أمينة .. صابر العامل البسيط .. وعائلته البسيطة الفقيرة .. الزوجة و الأبناء .. جمعتم السعادة و الحب و المودة .. و العيشة القانعة الهادئة الراضية بما قسم الله .. في غرفة صغيرة في أعلى سطح احدى البنايات القديمة في درب سعادة ..
ودرب سعادة هو طريق ضيق .. حارة في أحد ضواحي القاهرة الشعبية .. وإن كان يقع في منطقة وسط القاهرة التجارية .. إشتهر درب سعادة ببيع الأدوات المنزلية و مستلزمات وتجهيزات العروس من أواني و أطقم تقديم و سفرة ، تناسب جميع المستويات . أمينة ، تعمل الآن بائعة في أحد المحال الكبيرة للأدوات المنزلية . يتعامل معها الجميع بحب و احترام ، فرضته هى عليهم .. رغم ملامح وجهها الجميل و ضحكاتها البسيطة الهادئة ، التي توزعها بحساب و دقة .. على التجار و الزبائن , وأهل الحتة !. .
يقول عنها الخواجة ميشيل بتفاخر : " أمينة دي بعشر رجالة .. بس دي حكمة الرب .. يتيمة .. لكن كلنا عيلتها .. من شهر جالي الواد توفيق الصايع ، يطلب إيدها مني .. رفضته .. وطردته بره المحل .. قلت له أمينة جوهرة تستحق الجواهرجي اللي يقدرها " ..
أمينة .. فتاة كريمة إلى أقصى حدود الكرم .. لا تبخل بمالها القليل جداً على أمثالها الفقراء من أهل درب سعادة .. و يضرب بها المثل في التواضع و التربية العالية و الاحترام .. والعجيب في الأمر ، أن قدميها لم تخرج من حي العتبة و الدرب الأحمر .. أكملت العشرين من عمرها .. و تقول : " نفسي أشوف النيل و الأهرمات و باب الحديد .. بس أبويا صابر خايف عليا .. وفي شم النسيم خرجنا كلنا نركب مركب في النيل .. وعلى ناصية الشارع الواد حسن أخويا الصغير ، خبطته بسكلتة ( دراجة ) .. أبويا صابر إتشائم و رجعنا ، أكلنا وإنبسطنا و هيصنا فوق السطح ، بيض ملون و بصل أخضر و فسيخ .. الواد حسن بقى زي الجن .. و بقى يصرخ و يقول : والله بيتنا أحلى من النيل ..!!" .. يهمس الصغير في إذن أمينة متسائلاً : هو النيل ده شكله إيه ؟ .. ترد أمينة في صوت هادئ مغلف بالحسرة : علمي علمك !!.
ليلة من ليالي درب سعادة .. الصمت يعم المكان .. إلا من آهات هنا .. و تصفيق هناك .. الكل يتابع في التلفاز بكل شغف واهتمام مباراة كرة قدم للمنتخب المصري.. المحال مغلقة .. و لا أحد يسير في الشارع التجاري الضيق ..
وعند إنطلاق صفارة حكم المباراة ، معلنة عن نهايتها .. إنطلقت الهتافات و الطبل و الزمر ، فرحة ، مبتهجة بفوز المنتخب المصري .. وتزامن فرح الفوز مع فرح آخر كبير .. علت الزغاريد العالية منطلقة من درب سعادة .. لم يتساءل أحد عن سر الفرحة الغامرة .. بل إنطلق الخبر و إنتشر إنتشار النار في الهشيم .. أمينة إتكتب كتابها !! .. ألف مبروك علينا جميعاً .. مين العريس ؟ .. شاب متعلم و مخه نظيف .. بيشتغل في القرية الذكية !! .. يعني إيه ذكية ؟ .. كان الرد التلقائي لصبي القهوة : يعني قرية عايشة مع نفسها .. مالهاش دعوة بالحكومة !!.
إنطلقت أفراح أهل الدرب .. الجموع الغفيرة تصفق و تهلل سعيدة مبتهجة .. مصر .. مصر ..و تختلط بها الجموع الضاحكة المستبشرة .. تصيح في سعادة : أمينة .. أصيلة ..أمينة .. أصيلة .. يحيط البشر بالعريس و العروس ، أمينة في ثوبها البسيط .. بإبتسامتها الهادئة الراضية المستبشرة .. وترفرف الأعلام .. وتدق الطبول .. وتبقى الأفراح حتى الفجر .. و تسير الجموع الحاشدة كالنهر الجارف نحو النيل .. تجري الدموع من عيني ( صابر ) و يتمتم قائلاً : أخيراً شفتي النيل يا أمينة !! .