"سارة ماتت.. قتلتها"
كانت هذه هي الرسالة التي وصلته قبل قليل من بريد سارة الإلكتروني، منذ مدة طويلة لم يتواصلا، هو من قرر البعد فجأة بعد أن كان يظهر لها تعلقه بها، وبعد أن جعلها متيمة بأحرفه، شغوفة بالتواصل معه، كان هو كل رسائلها، لم تكن تهتم بالكتابة من قبل، فمهنتها وحبها لعملها كان يأخذ كل وقتها، حتى أسرتها لم تكن تهتم بها، بل كانت مهملة لصحتها رغم أن شغلها الشاغل هو أن تفرح وقد وفقت في علاج مريض من مرضاها، كانت تعرف أنها مريضة، ولم ترغب حتى بإجراء الفحوصات والتحاليل للتأكد من ذلك، تحاول أن تخفي الآلام بتناولها لفيتامينات أو بعض الأدوية التي تعرف أنها من الممكن أن تهدئ أو تخفي الألم برهة، ترى سارة أن اهتمامها بصحتها سيأخذ من وقت عملها الكثير، لكنها يوم التقت به في حفل تكريم لطبيب متقاعد كان أستاذها بالكلية، تغيرت بعض أفكارها، فقد صارت تأخذ من وقت نومها، من وقت بعض راحتها، من أي زقت تكون فيه وحدها لتحس نفسها معه. كان هو ضمن لائحة المدعويين بحكم صداقته بالطبيب المتقاعد، وكانت هي واحدة من تلاميذ الطبيب الحاضرين، والمختارة لذكر كلمة في حق هذا الرجل المكرم.. قالت كلماتها بكل صدق وهي تمزج العامية بالفصحى بالفرنسية، ولكنها كانت مبدعة في التعبير، لم تحتج لصناعة الكلمات على الورق، بل ارتجلت الكلمات بعفوية وصدق حتى أدمعت كثيرا من العيون من بينها عيني صديق أستاذها الطبيب الذي حاول أن يقتحم وحدتها لحظة حفل الشاي الذي أقيم على شرف المتقاعد، شكرها على صدق مشاعرها، معبرا على انه في لحظة تمنى لو كان هو أستاذها المكرم لتقول هي تلك الكلمات في حقه، ابتسمت، ثم ردت عليه:
وإن كنت تحسد أستاذي فأنا أغبطك كونك صديقه.
تحدثا واستمر الحديث بينهما حتى بعد عودتهما للقاعة حيث التكريم، تعرفا على بعض، هي طبيبة لم تتجاوز بعد عشر سنوات في عملها وهو مدرس منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولأن الحديث بينهما قد طال، طلب منها رقم هاتفها لعله يحتاج أن يزورها بالمستشفى فتسعفه سريعا.. لم تمر غير ساعة على عودتها من البيت حتى اتصل بها طالبا منها بريدها الإلكتروني أو الفايسبوك، مدعيا أنه يريد أن يبعث لها رسالة عليها أن تطلع عليها، وقد يحتاج ليصور لها أشياء يحب أن يستفسر عنها ما دامت طبيبة ، أرسلت له عنوان بريدها عبر رسالة نصية، فسارع بإرسال صور ورود وكلمات شكر جميلة على متعة اللقاء والكلمات التي ذكرتها في حق صديقه، معبرا لها أنه لم يندم إذ سافر من مدينته لحضور الحفل لأنه يحب صديقه، وزاد حبه له إذ بفضله تعرف على سارة..
سارة كانت شابة متقدة ، يملأها نشاط ممتع وحيوية شيقة، أنوثة مختلفة عن كل من عرفهن سابقا، أما هي فلم تكن ترى في الرجال شيئا يمكن أن يروقها حتى زوجها قبل أن تهاجر روحه الحياة لم تكن ترى فيها ذلك الرجل الذي ترسمه بمخيلتها، وكان يؤكد لها رحمة الله عليه أنها من المستحيل أن تجد رجلا بالصفات التي تحب هي، لكن لماذا الآن يسلب كريم لب فكرها، أشياء كثيرة فيه، لاحظت بداية أنها لا تروقها في الرجال، ولكنها لا تستطيع ان تمنع ذاكرتها منه،ولا عقلها من أن يفكر فيه، ردت على رسالته شاكرة إياه على حسن كلامه، فرد، وردت، ورد ،وردت ، واستمر التواصل لأيام وأيام وأسابيع وشهور وهما مستمتعان معا بتواصل فيه كل معاني الحب، تواصل جميل شيق، مفيد تارة، ومضحك أخرى، لائم وعاتب تارة، مسامح ومعانق أخرى، ومع أنها كانت تحب التواصل معه وتشتاق إليه بين دقيقة وأخرى إلا أنها كانت دائما تجعل مبادرة التواصل منه هو، وكالمتلهفة للحديث معه سريعا ترد، تحكي له عن أجواء العمل، عن أسرتها، عن نفسها، عن غذائها، عن مريض مسكين قدم إليها، عن متعجرف غير طريقة حديثه بعد حسن تعاملها معه... وهو يحكي لها بعض الطرائف التي تحصل معه وهو يقدم درسا من الدروس، أو وهو مع زملائه، أو مع ضيوف حلوا ببيته..... زاد إهمالها لصحتها، ولكنها كانت تعوض ذلك الإهمال بشعورها بالسعادة وهي تتواصل معه... لكنه فاجأها مرة إذ لم يحدثها اليوم كله، ولم يكن هناك أي سبب لذلك، ظلت قلقة اليوم كاملا، وانتظرت ان يتصل أو يبعث رسالة بالليل، ولكنه أيضا لم يفعل، نامت وتوقعت أنها ستجد منه رسالة في الصباح يعتذر عن سبب عدم الحديث إليها أمس، ولم يفعل، فبادرت لأول مرة برسالة تخبره من خلالها بأنها فقط تريد أن تطمئن، بعد مدة لم تكن بالطويلة، ولكنها رأتها كذلك، رد عليها مطئنا ومؤكدا لها أنه بخير، لكن بعض ظروفه تمنعه من أن يتواصل معها أو مع غيرها.
قبلت عذره،ولكن اليوم مر عليها طويلا جدا، انتظرت أن يبعث رسالة أخرى ولم يفعل، وفي الغد لم يفعل وبعد يومين، ثلاثة أيام... لم يفعل ، وها هي تبادر من جديد بإرسال كلمات أخرى تطمئن من خلاها عليه وتسأله عن أحواله وأحبابه، فيرد باختصار، ورسالة أخرى تبعثها بعد أيام ولم يرد...
أدركت انه لم يعد يريد أن يكلمها،هو اختار بداية أن يحدثها، واختار نهاية أن يقطع اتصاله بها، عرف كيف يتلاعب بمشاعر أنثى، ويجعلها تتعلق برجل لأول مرة بحياتها، الطبيبة صارت دوما مريضة..
قررت أيضا ألا تعود لمراسلته، ومع ذلك فهي تفتح علبة الرسائل كلما فتحت النت لعلها تتحسس وجوده..
لكن ها رسالة تصله اليوم منها، يقرأها بدهشة، دمعتان ساخنتان سريعا أدفآ خديه ( سارة ماتت.. قتلتها) يا إلهي! ذلك الضمير بأي حركة يقرأ؟ قتلتُها؟! من يجرؤ على قتل تلك الحمامة البيضاء؟ من يجرؤ على قتل نحلة كل ما تمنحه عسل فيه شفاء؟ من يجرؤ على قتل فراشة تزين كل ركن حطت به؟
قتلتَها؟! أنا؟! أمعقول؛ يكون هذا الخطاب موجه إلي؟ أ يمكن ان تكون هي المرسل، وتستفزني بهذه العبارة كي تعرف ردة فعلي؟! لا... مستحيل، ليس هذا فعل سارة... من المرسل إذن؟ أيمكن ان أقرأها ( قتلتْها؟! قتلتِها؟!) ..
دارت الدنيا بصاحبنا المدرس، شعر فجأة ان قدميه لا تحملانه، أراد أن يغمض عينيه ويفتحهما لعله يستفيق من حلم، لكن سارة صارت طيفا أمامه، يراها في كل ما حوله، يراها أمامه وخلفه..
كيف سيرد عن هذه الرسالة؟ لماذا لم يطلب رقم هاتفها من جديد بعدما أضاعه؟ فتح الفايسبوك لعله يجد شيئا ينفي خبر الرسالة، لكنه فوجئ بأن اسمها لم يعد له وجود بالفايسبوك، فتح حسابا آخر باحثا به عن اسمها، لعلها هي جمدت حسابه بعد ان أرسلت له الرسالة، ومع ذلك لا وجود لاسمها، ليس حسابه ما تجمد، بل هو من تجمد الآن، وهو لا يستطيع حبس دموعه حتى عندما تفاجأت به زوجه وهو يمسح سريعا بعض الدمعات ، امتزجت كلماته متبعثرة: لقد حاولت ذبابة أن تدخل عيني وأنا أقرأ خبرا أليما ومؤثرا هنا، أشعر بدوار، أرجو أن تتركيني وحدي وتغلقي الباب خلفك..
كيف يجرؤ ان يكون صريحا؟ اتصل بمدير المؤسسة مخبرا إياه أنه متعب جدا وأنه مضطر لأخذ قسط من الراحة في البيت،استغرب السيد المدير إذ لم يعهد هذا الأستاذ إلا مجدا مثابرا، لا يتغيب إلا لظرف طارئ جدا مذ عرفه من سنوات عديدة.
جلس كريم وحده بالغرفة، يحاول تذكر أسماء أصدقائها الفايسبوكيين ليبحث من خلالهم عن خبر أو أي شيء يخفف عنه ما به، يريح قلبه وفكره عن سارة، أليس هو من اختار أن يبتعد عنها منذ أشهر؟ لماذا هو بهذه الحال الآن؟ كان يظن أنه استطاع أن ينساها أو يتناساها؟ كان يقنع قلبه بأنه لم يحبها يوما وإنما كانت نزوة حب تخلص منها ببساطة عندما أراد ذلك؟ أكان هذا فعلا وشعر الآن بتأنيب الضمير؛ أم أن الحب بقوة استيقظ في قلبه؟ ما عاد أمامه إلا صديقه الأستاذ المتقاعد؛ لكن؛ كيف يسأله عنها؟ ماذا سيقول؟ العقل المشغول بسارة والقلب جعلا اللاوعي يأخذ الهاتف ويتصل بصديقه الطبيب المتقاعد، سأله عن حاله وأهله، ولكي يمر إلى سارة، أخبره بذكاء فيه شيء من المزحة الثقيلة وابتسامة صفراء قاحلة ترجو أن تثمر بجواب من الطبيب يشفيها:
أشعر بتعب هذا المساء، حتى إني لم أذهب للعمل، لو كنت معي لعرفت ما بي، أو اتصل لي بتلميذتك التي ألقت كلمتها الجميلة يوم تكريمك لعلها تكون أمهر وأحن!
قلبة ينبض بقوة حارة منتظرا رد صديقه
_ تقصد سارة؛ أنا أيضا أفكر فيها، كنت أريد ان أسألها عن شيء قبل أيام ولم أتمكن من الاتصال بها، .. قد أفاجئها بزيارة إلى المستشفى ، أطمئن عليها، وأحدثها..
_ حسنا؛ بلغ لها سلامي إن رأيتها، بالمناسبة، بأي مستشفى تعمل هي؟
ضحك صديقه ثم رد عليه:
_ وهل تريد أن تأتي عندها هنا لتفحصك؟ أنت لا تعرف حتى أزقة المدينة،.. أعتذر كريم، لدي اتصال .. مضطر لإقفال الخط.
لم تزد هذه المكالمة كريم إلا حيرة وقلقا ... بحث في أرشيف بعض الرسائل التي مازال يحتفظ بها لعله يجد عنوانها حيث تقطن، فقد أخبرته به مرة.. يا لحظه! لم يجد، لعل العنوان كان ضمن الرسائل التي محيت ولم يحتفظ بها..
خرج من الغرفة... خرج من البيت، أخذ سيارته، وسار يجوب شوارع المدينة بفكر شارد وآخر رسالة لم تغادر ذهنه، وآخر عبارة قد حيرته قراءتها، وهو بكل حال يتمنى أن تكون هي المرسل ولو أنه متأكد أن مثل هذا الفعل لا تقوم به سارة، على الأقل لتكون سارة التي ينبض لها قلبه اليوم على قيد الحياة، سارة الظبية الجميلة ، الغادة الرشيقة، الريم الأنيقة، الغزالة اللطيفة....
سارة أين أنت ياسارة؟ فوق الأرض أم تحتها؟ روحك ما تزال بالجسد أم محلقة بالهواء نحو السماء؟ لا يا سارة .. لا تفعلي بي هذا، لم تغب صورتها ولا ابتسامتها ولا صوتها ولا حركاتها عن عينيه، حتى إغماضة عينيها برمشة عين، وطريقة تعبيرها، مازال يتذكرها، كأن سارة تحدثه الآن.
أخذته سيارته خارج المدينة، أخذته في طريق لم يذهب إليها منذ حفل تكريم صديقه، لم يعد يهمه ما سيسأله الناس.. لم يعد يهمه شيء الآن غير أن يطمئن عن سارة.. تذكر أنها أخبرته بأنها تسكن حي " قرطبة" زقاق " بودلير" أو " موزاغ" أو لعله " المتنبي" أو " صلاح الدين الأيوبي" لم يعد يذكر، فقد تحدثا كثيرا عن الأزقة التي تحمل أسماء شخصيات وضعت بصمة بالتاريخ عربية وأجنبية، أي اسم يمكن أن يكون هو اسم الزقاق الذي تسكنه؟
على كل، صار البحث عنها سهلا بعض الشيء.. على الأقل متأكد من المدينة، والأهم اسم الحي، لكن! أيستطيع ان يسأل عنها كذلك بالمستشفيات؟
عجلات السيارة تأخذه إلى هناك، وصل المدينة، وصار يبحث عن ذلك الحي، كل فتيات المدينة يتخيلهن سارة، كأنها صورت بكل أنثى، كأنه أحب لأول مرة، كأن السفر هو سبيل الحب ... فأين يجد ضالته سارة؟